صدر ديوان “أوالْ ءيقورن” للشاعر حسن بن جاري عن جمعية إكابارن للفن في 135 صفحة من القطع المتوسط، مكتوبا بالخطين اللاتيني وتيفيناغ، ويضم بين دفتيه إحدى وستين(61) قصيدة غنائية نُظمت بين عامي 1977 و2013، أي على امتداد 36 سنة وقد رُتبت إلى حد ما ترتيبا كرونولوجيا يراعي التسلسل الزمني لنظمها ما يساعد على تتبع المسار الإبداعي للشاعر وتحولاته.
يُلاحظ أن غلاف الديوان يتكون من لوحة فنية جميلة بها وجها رجل وامرأة بلباس مغربي أمازيغي أصيل، تحيط بهما حروف وأشكال مستوحاة من اللغة والفنون والمنسوجات والمعمار الأمازيغي، الديوان إذن تجسيد لإبداع أصيل يهتم بهموم الإنسان الأمازيغي ويمتحّ من الأصالة والهوية والأرض والتاريخ أو لنقُل إنها الإنسان في دائرة الأشكال الثقافية الرمزية المختلفة بوصفها محددات هوية ومعالم وجود راسخ متأصل…
أما ساحب الديوان الذي بين أيدينا فهو الفنان حسن بن جاري، شاعر غنائي وملحن وعازف ارتبط اسمه بمجموعة المجاديل مثلما ارتبطت به، بل كان من رواد ومؤسسي المجموعات الغنائية العصرية بسوس، إذ كوّن سنة 1976 مجموعة “إماريرنْ” رفقة أصدقائه السملالي والدنكَرة وزهيري وأوبليد…وقد تأثر بالموسيقى الهندية والعربية والغربية، وتعامل مع الآلات الموسيقية وحرص على رصد الواقع المعيش للإنسان البسيط.
يعتز الشاعر الإنساني حسن بن جاري بكل المجموعات الغنائية العصرية بسوس، الرائدة والمتفرعة عنها، التي تنهج منها أسلوب العصرنة، والتي تهتم بالاشتغال على التراث…سواء في إنزكَان وضواحيها (إيموريكَن، لاقدام، تاوادا، إزماون، إسافن، إيسوفا، إسافارن، لهموم، إسملالن….ثم إكابارن،أيت إزم، إمازالن…)، وللشاعر ألبومان غنائيان سجلا بين سنتي 1984 و1986.
ولقد جاءت كل قصائد الديوان المذكور غنائية، بعضها غنته وسجلته مجموعات معروفة، ويتجسد ذلك في ما يأتي :
– مجموعة المجاديل : 10 قصائد
– مجموعة إناكَان : 4 قصائد
– مجموعة إمازّالن : 1 قصيدة
– مجموعة إزم : 1 قصيدة
– مجموعة أتيكَ : 1 قصيدة
ويُلاحظ أن مجموعة المجاديل هي التي استأثرت بغناء أكبر عدد من قصائد الشاعر، تليها مجموعة إناكَان.
وبما أن القصائد غنائية عصرية فقد تحاشى الشاعر فيها الإطناب والإسهاب الذي تتصف به القصائد الكلاسيكية التي غناها وسجلها الروايس، وهكذا يتراوح عدد أبيات القصائد بين ستّة (6) أبيات (بو المال، ص 11) وثلاثة وعشرين (23) بيتا (إيكَيكَيل، ص 31-33)، أي بمعدل 12 مقطع/بيت.
ومن اللافت للنظر أن الديوان لا يتضمن إهداء لشخص أو فئة محددة، ولا يحتوى على مقدمة أو توضيح، وكأن الشاعر يجعل عمله مهدى إلى الجميع، إلى كل عاشق للكلمة الشعرية الصادقة. ثم إنه فضل أن يُقحم القارئ مباشرة في أغوار القول الشعري، ويُبحر تبعا لذلك في العوالم الممكنة للكلمة، معانقا الهموم التي تؤرق الشاعر، محاولا فك شفرات الرسائل التي يبثها ضمن استعارات وتوريات…إن الشاعر إذ يتجنب المقدمات والتمهيد يصر على تجسيد دلالة العنوان “ءاوال ءيقورن” فالكلام الصلب جوهره التحدي والمواجهة والمجابهة، وبالتالي فهو يقدم نفسه بنفسه حيا قويا لا يداهن ولا يهادن، ولا يتوسل القصد إلا بذاته.
في قصيدة إسكرافْ “iskraf “ ينظر حسن بن جاري إلى أن الحياة تعب كلها على شاكلة الشاعر أبي العلاء المعري :
تعبٌ كلها الحياةُ فما ** أعجبُ إلا لراغب في ازدياد
والإنسان في صراع سيزيفي لا ينتهي مع الحياة، صراع يتطلب انخراطا كليا، أي يقظة للعقل مع استعداد لبذل الجهد العضلي/العملي، وإكراهات الحياة ليست خارجية كما يبدو للوعي الساذج بل هي داخلية بالأساس، فكل مشكلات الحياة والوجود تنفذ إلى دواخل الإنسان فتسكن كيانه وتشكل منظوره للحياة والناس ورؤيته لما حوله، والقيود الخارجية سرعان ما تتحول إلى قيود وإكراهات داخلية يستعصى التحرر منها، يقول :
Ixf ad inu, yusi taggat nnun a yskraf
A ma ikrhan attn isers ad ilin x rra7t
أما في قصيدة بولمالْ “Bu lmal” فيُحاول تقديم تصوير لمنزلة الغني صاحب الثروة الطائلة داخل المجتمع المغربي، فكلامه مستعذب معسول وحضوره مطلوب ويتم التجاوز عن هفواته، وبالمقابل يغدو كلام المعدِم تافها مرًّا مهما كانت وجاهته وصدقه، إذا يق على حقيقة اجتماعية تربط القول والحقيقة بالمكانة الاجتماعية لا بما يجسده القول في ذاته من صدق أو وجاهة :
Bu lmal, awal nns immim yili s lmizan
Imma yan t ur ittafn, awal ns 7rran
ويرى الشاعر أن أغراض الناس ومصالحهم في مجتمعنا هي التي تحدد قيمة الناس وقيمة كلام الغير، وليس للناس قيمة في ذاتهم، وليس للكلام قيمة بالنظر إلى صدقه…كلُّ القيمة في تحقيق المنفعة، وإذا تعذرت المنفعة تحول الأمر إلى حسد، أو إلى تشوق للإرث بعد وفاة صاحب الثروة :
Bu lmal kra i7sadt, kra iqql srsn a ttn iwrt
Ur jju gisn isqqsa aylligh immut
في نص كَار أفوس “Gar afus” وظف بن جاري الرمز الأصيل أجيكَ/أجدّيكَ للدلالة على الجمال/المرأة/ المحبوب…والمستعمل في غرض الحب والغزل، فيصور الزهرة التي تنمو في البساتين المسيَّجة، وتحوم حولها الفراشات الجميلة والنحل وتشرق عليها الشمس كل صباح… وفجأة تعبث بها أيادي السوء فتقطفها شر قطف، وتشتت أوراقها وبذورها على الأرض يمينا ويسارا في مشهد مأساوي قد تحول فيه الجمال المتمنع إلى موضوع مستباح لكل عابر سبيل:
Gar afus akkund ikkisn a yajddig
Yut srk akal, issuss ak ifr
Amud nnun a ylluzzan gh ikaln
Wannad ka izrin ar fllas ittakl
سعيد جليل، باحث