يعتبر العمل المسرحي ” حلم أحلام ” لؤلؤة فنية متميزة تنضاف إلى عقد الأعمال الإبداعية النوعية بالريف ، وهذا التصنيف لاينطلق من فراغ إذ ساهمت العديد من المكونات في تشكيل هذا الفسيفساء الفني ، انطلاقا من البعد الأيديولوجي في تناول فكرة الحق في التمدرس ولفئة هشة من المجتمع وهي الفتاة ، وليست أية فتاة إنها الفتاة القروية ذات الأحلام الموؤودة / والحية عبر مشاهد استعملت فيها تقنية ” الدمى ” كأسلوب تقني تفنن في مَنطقة الأمور وتشخيصها في تسلسل يٌدخلك في متاهة بناء العقدة وبعدها في متاهة طرح بعض الحلول لتجاوز مُثبطاتها ، كما يجوز لنا الحديث كذلك عن الجانب البسيكولوجي في قراءة مسرحية مكشوفة تعري الأفكار الصنمية للمجتمع الذكوري توازيه معاناة مريرة تقاسيها الفئات الأكثر هشاشة والفتيات على رأسها. هذا العمل المسرحي مرر خلال شهر فبراير 2019 بعشر جماعات بإقليم الحسيمة تحت غطاء مشروع تعزيزالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للنساء باقليم الحسيمة والذي تشرف عليه جمعية ملتقى المرأة بالريف و المركز الدولي للدراسات الفلاحية والقروية cerai ومن تشخيص نادي الحسيمة للمسرح
المراكز المشاركة والتي استقبلت المسرحية هي : دوار توزالت بسيدي بوتميم ومركز إمزورن ودار الشباب بآيت يوسف وعلي ومدرسة إكروانو داخلية إعدادية الرواضي ودار الطالبة آيت قمرة مركز أسناذة مدرسة البعثة الاسبانية بالحسيمة ثانوية الامام مالك وإعدادية آيت يوسف وعلي .اختيار المراكز لم يكن عشوائيا ، حيث استَهدف في أغلب العروض البؤر التي يعشعش فيها الفكر الاقصائي لتمدرس الفتاة على خريطة الإقليم
النص المسرحي والسيناريو والديكور وكذا الإخراج أشرفت عليه الفنانة الاسبانية والخبيرة في مسرح الدمى Mercedes Reyes Zmbrano ، هذه الأخيرة وبحنكتها وتوظيفها لقدراتها المهارية وتشغيلها الدمية ” أحلام ” كشخصية رئيسة في المسرحية ولأول مرة بالريف استطاعت أن تضفي على هذا العمل البسيط في لغته وديكوره ميزة ايجابية في حُبكة مشاهده الدرامية، وكذا في تأزيم وفك أحداثه بطريقة حركية ديناميكية تجعلك تعيش وتتعايش بشوق فصول هذا العمل المسرحي. يقف وراء هذا الأخير في تجسيده على الخشبة الفنان المقتدر محمد بنسعيد المعروف فنيا ب ” كيلوت ” والفنانة ابنة بلدة بوعاك بالناضور ليلى فونونو في حوار أمازيغي ريفي قلعي استطاع أن يثير كل من تتبع/ تتبعت فصول المسرحية ذهنيا وجدانيا وحسيا…
تنطلق المسرحية بمتعة غناء وترديد إزران ” الشعر الريفي المغنى ” ورالابويا ومالها من دلالة تاريخية لمكانة المرأة عند المجتمع الأمازيغي عموما والريفي على وجه الخصوص ، وطبعا رالابويا لا تستقيم إلا على نغمات الدف ـ أجون ـ ، يليها التموقع الزمكاني حيث المكان إحدى قرى الريف والزمن هو نهاية الصيف وانطلاق الموسم الدراسي باستعداد الأطفال لاستئناف الدراسة ، وكيف كانت أحلام تتهيأ لمصاحبة أقرانها نحو المدرسة وتحقيق باقة من مزهرية أحلامها من قبيل مشروع تربية النحل حين ستصبح مهندسة فلاحية ، مشهد درامي لأحلام وهي تستجيب لدعوة أخيها لمرافقته نحو المدرسة لينتفض الأب بجبروته وسلطته الذكورية فيصدر أوامره بإقصاء أحلام من حقها في التمدرس ، بل والقطع بالقمع اللفظي لكل محاولة استعطاف للتراجع عن موقفه ، فكان أن أمر أحلام بحمل المنجل والاتجاه نحو المرعى بحثا عن العشب للماشية ، وجلب الماء من العين ، ومساعدة الأم في أعمال البيت وبالتالي التهيؤ لمهمة الزوجة المستقبلية ، الممثل كان بارعا في تقمص ولعب دور الأب الريفي / الفلاح / ذي الحمولة الفكرية الذكورية المتعفنة ، وكذا شخصيات أخرى كأم الأم والأطفال الصغار للأم، وبالمقابل استطاعت الفنانة ليلى فونونو أن تزاوج بين شخصية الطفلة أحلام والأم التي تقوم بكل أعباء البيت ، لكنها فجأة وفي منتصف العرض تنتفض بصوت عال لتقول : لا ثم لا لهذا الوضع البئيس ، فلا قدرة لي على التحمل ، لتطرح على الحضور إمكانية إعادة الفصل المسرحي برؤية ايجابية ورغم اعتراض الممثل الرئيسي ” الأب” بمبررات واهية غير أنها تصر على التغيير بعد أن استمدت قوتها من الحضور. تعاد المشاهد لكن هذه المرة بموافقة الأب وتحفيزه لابنته على ممارسة حقها في التعليم لترافق أخاها نحو الصف الدراسي… تختتم المسرحية كما ابتدأت برالابويا وإزران .
مباشرة بعد العرض وبحضور الممثلين ومنشط يتم فتح نقاش أفقي مع الحضور لطرح التساؤلات والملاحظات شكلا ومضمونا ، وكذا التباحث حول الحلول الممكنة ، واستحضار بعض الحالات من مثل أحلام . في هذا النقاش طرحت العديد من الأسئلة التي يصعب الإجابة عنها وتهم الهدر المدرسي عموما وتمدرس الفتاة على وجه الخصوص ، من مثل :” التوقف عن الدراسة مابعد المرحلة الابتدائية لبعد الاعدادية عن مقر السكن الأسري ، وفئة قليلة بعد المرحلة الاعدادية والغالبية بعد الحصول على شهادة الباكالوريا لكون المؤسسة الجامعية توجد بمدن أخرى كالناضور ـ تطوان ـ طنجة ـ وجدة…” والجواب طبعا عند من يهمها الأمر.
وأخيرا يبقى الموضوع المتناول وتيمته ” الحق في التمدرس” ومنطوقه الفلسفي/ القيمي / الحقوقي والقالب الفني الذي صيغ فيه والفريق الفني الذي سهر على بلورة فصوله ، يبصم على لوحة فنية متميزة وهادفة ، ويفتح قوسا من بين آلاف الأقواس لتسليط الضوء على ظاهرة الهدر المدرسي بتاء التأنيث في الوسط القروي خصوصا….
خالد الملاحظ الحسيمة