“خبرتي تتجلى في خلق الثروة وتوفير آلاف مناصب الشغل كرجل أعمال ناجح“. دونالد ترامب في رده على سؤال أحد الصحفيين بشأن خبرته السياسية.
يحسب للبابا فرنسيس وضوحه في التعاطي مع الكثير من القضايا الشائكة ولو كان فيها إحراج للكنيسة ومساس بالتقاليد الكنسية المرعية. فرغم حرص الكنيسة سابقا على إحاطة علاقتها بالمال بالكثير من الغموض والسرية، وبالرغم من كون المال روث الشيطان ومنافس محتمل للرب حسب ما نسب إلى السيد المسيح، فقد قرر البابا فرنسيس تدبير ثروة الكنيسة ودولة الفاتيكان كما تدبر أنجح الشركات العالمية ووفق قواعد الحكامة الجيدة. ولأجل ذلك التجأ إلى خدمات خبراء في عالم المال والأعمال، خبراء علمانيون لا تربطهم بالكنيسة غير عقود العمل، وفي مقدمتهم رجل الأعمال والخبير المالي الفرنسي “جون بابتيست دو فرونسو” (Jean – Baptiste de Franssu).
بقراره وضع ثروة الكنيسة بين يدي رجل أعمال، لعقلنة تدبيرها واستثمارها من أجل إنتاج المزيد منها، يكون البابا فرنسيس قد انتصر للعقل الاقتصادي والمالي في مواجهة العقل السياسي المتمثل في حكومة كهنة الفاتيكان، التي فشلت في تدبير تلك الثروة الضخمة وكانت وراء العشرات من الفضائح المالية بما فيها التورط في تبييض أموال المافيا الإيطالية. في حوار مع الصحفي الفرنسي “جون بيير إلكباش ” (Jean-Pierre Elkabbach)، أشار“جون بابتيست دو فرونسو” إلى أن البابا يشاركه الاجتماعات مع الخبراء، ويتتبع سير أعمالهم من أجل إصلاح البنيات الاقتصادية للفاتيكان. فنائب المسيح كما يلقب البابا، تعاقد مع رجل الأعمال والمال لإصلاح ما أفسده العقل الكهنوتي.
ما يجري داخل أسوار الفاتيكان من ثورة على التقاليد واليقينيات الكنسية التي عمرت لقرون من الزمن، ومن خضوع سلطة الروحي لمنطق وخبرة الزمني، يؤكد قدرة رجال الأعمال وعقل السوق على فك طلاسم المستحيل ولو كان كهنوتيا، كما يؤكد المنحى التصاعدي لتسلم سيدات ورجال الأعمال مفاتيح الحكم في العديد من دول العالم. لقد صعدت نجوم رجال الأعمال بعد أن اثبت أغلب المؤدلجين الدغمائيين من محترفي السياسة، فشلهم في الحكم والتدبير (إلا في بعض الإستثناءات)، وتحولت العديد من البلدان إلى دول فاشلة تنخرها الحروب بسبب سياساتهم، وانهارت اقتصادات بلدان أخرى بسبب سوء التدبير، وغاصت أخرى في أزمات بنيوية.
لقد قلبت أزمات سبعينيات القرن الماضي الكثير من موازين القوى عبر العالم، وساهم الفكر النيوليبرالي بتعبيراته التاتشرية والريغانية في تسريع تفكيك العديد من المنظومات الفكرية كما قوضت أسس دولة الرعاية وأسست مجتمع المُلاَك (la société des propriétaires). عمليات التفكيك تلك كانت في صالح السوق الذي أصبح المرجع والحكم، فهو دائما على حق (Le Marché a toujours raison)، ولأنه كذلك فقد أصبحت لأبطاله من رجال الأعمال الناجحين والخبراء مكانة خاصة داخل مجتمعاتهم. هذه التحولات، وغيرها مما لم نذكره، أسست لروابط جديدة بين المال والأعمال والسلطة، كما وضعت المؤدلجين الدغمائيين من محترفي السياسة، في موقع المدافع عن القلاع التي لم تسقط بعد أمام تقدم رجال الأعمال وعزوف الشعوب عن السياسة وفقدانها للثقة في الطبقة السياسية التقليدية.
أراجيف زواج السلطة بالمال؟!
من تداعيات التساقط المتتالي لقلاع الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار، تحت ضغط السوق ورجال الأعمال وانصراف الشعوب عنها، ظهور الخطابات المحذرة من زواج السلطة بالمال وتغول عالم الأعمال وتجبره. وقد لعبت هذه الخطابات على العلاقة المتوترة بين السياسة والمال في أدهان الناس، وعلى جهل العامة لما يدور في كواليس السلطة والحكم.
إن العلاقة المتوترة بين السياسة والمال ليست وليدة اليوم، فقد كانت محور العديد من الكتابات الأدبية، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر، رواية “المال” للأديب الفرنسي إيميل زولا (1898)، والذي تطرق في روايته إلى العلاقات الملتبسة بين عالمي المال والسياسة. كما لا ننسى رواية ” Bel-Ami” للروائي Guy de Maupassant (1884) التي تطرق في حيز منها إلى المغرب وديونه التي أدت إلى توقيع معاهدة الحماية سنة 1912.
إن تلك العلاقة المتوترة قد تعود إلى توجس الناس من السياسة وألاعيبها، وخوفهم من قوة المال وسحره في نفس الوقت. فهم يضعون كل ثقتهم في المال، ويسعون إلى كسبه بكل الطرق الممكنة، ومن أجله يمكن أن يغامروا بحيواتهم، لكن في نفس الوقت يهابونه ويعلنون في المجالس كرههم للمال. يردد البابا فرنسيس على مسامع خبرائه العلمانيين “أكره المال، لكني في حاجة إليه من أجل مساعدة الفقراء…أحتاجه من أجل نشر عقيدة الإيمان”. السياسيون الدوغمائيون أيضا يسعون إلى كسب المال بكل الوسائل، لكنهم يكرهون رجال الأعمال! الشيزوفرينيا لا تقتل (la schizophrénie ne tue pas).
ينسى السياسيون من أصحاب خطاب “زواج السلطة بالمال خطر على الدول” بأنهم كانوا إلى عهد قريب وما يزالون يتوددون إلى رجال الأعمال لاستقطابهم، الشعوب تعرف بأن هؤلاء السياسيين كانوا يبيعون خدماتهم لعالم المال والأعمال، مقابل ضخ الأموال في حسابات الأحزاب والحملات الانتخابية وجيوب السياسيين. الشعوب تعرف أيضا بأن أغلب السياسيين (إلا بعض الإستثناءات) يتحولون بعد مرورهم من البرلمان أو الوزارة إلى رجال أعمال وأثرياء. هذه العينة من السياسيين تلهث وراء المال والريع السياسي سعيا منها للإنتقال إلى عالم الأعمال، لكنها في نفس الوقت ترفض انتقال رجال الأعمال إلى عالم السياسة، خوفا من فقدان دور الوساطة بين عالم الأعمال والمؤسسات. من شاهد السلسلة الأمريكية “House of Cards“، التي أصبحت مرجعا في الدراسات السياسية وفن القيادة، سيدرك بأن هذه العينة من السياسيين تبتز رجال الأعمال وتوظف المؤسسات في عمليات الإبتزاز وليس في خدمة الشعوب.
في ثنايا مؤلف جماعي بعنوان Histoire secrète du patronat de 1945 à nos jours يستعرض مؤلفوه كيف كان محترفو السياسة الفرنسيون يقايضون مواقفهم داخل مؤسسات الدولة، من برلمان وحكومة، مقابل امتيازات ومناصب المسؤولية في شركات القطاع الخاص Pantouflage. فالإشتراكيون على سبيل المثال، بعد وصولهم إلى الحكم سنة 1981 بقيادة الراحل فرنسوا ميتران، تحولت وعودهم الوردية للشعب الفرنسي إلى أشواك؛ فوعدهم التاريخي الذي ألهب حماس الجماهير Faire payer les riches تحول إلى نقيضه، حيث وزع المال العام بسخاء على كبار رجال الأعمال ومالكي البنوك، وقصة آل روتشيلد مع الإشتراكيين أشهر من نار على علم (للمزيد حول ما حدث بعد وصول ميتران إلى الحكم يراجع كتاب: Comment Mitterrand a découvert l’économie).
في حُكم رجال الأعمال
يبدو بأننا نعيش أفول عصر المقاولة كبنية محايدة مندورة كليا للبحث عن الأرباح، بعد أن تعاظمت المسؤولية الاجتماعية والبيئية للمقاولة RSE. كما يبدو بان عالم الأعمال لم يعد تحت التأثير الكلي للمنظرين النيولبراليين وفي مقدمتهم ميلتون فريدمان، الذي سبق له أن حدر من التطورات التي ستؤدي إلى المسؤولية الاجتماعية. يقول فريدمان في Capitalisme et liberté “قليل من التطورات يمكن أن تقوض أسس مجتمعنا الحر بعمق، مثل قبول المديرين التنفيذيين للشركات لمسؤولية اجتماعية عوض الإقتصار والتركيز على جني أكبر قدر ممكن من الأرباح لمساهميهم. إن المسؤولية الإجتماعية للشركات عقيدة تخريبية في الأساس…”
في مؤتمر دافوس سنة 2008، وأمام زبدة عالم المال والأعمال والسياسة، أكد بيل كايت Bill Gates على أن الشركات العالمية الكبرى يجب أن تعمل من أجل الفقراء. موازاة مع ذلك النداء أسس الكثير من كبار رجال الأعمال مؤسسات للأعمال الاجتماعية، تشتغل في قطاعات التعليم والصحة وغيرها، نجد في مقدمتهم عمالقة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات GAFAM. عالم الأعمال والمال اليوم يعيش ثورة هادئة على عقيدة الربح أولا ثم الربح ثانيا، إنه يؤسس لعقيدة جديدة تأخد بعين الاعتبار مصالح كل الأطراف (Stakeholders)، نعني بالأطراف: المساهمون، المسيرون، العمال، الزبناء المستهلكون، المزودون، البيئة والمجتمع. من النتائج الأولية لهذه الثورة ظهور المناجمنت الإنساني (le management humaniste) والمقاولة المحررة (l’entreprise libérée). إن من شأن هذه النماذج، إن تعممت، التأسيس لمجتمع إنساني أكثر عدلا وأرحم بالبيئة.
بالإضافة إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لهذه التحولات في عالم المال والأعمال، هنالك بعد سياسي يتمثل في سعي رجال الأعمال إلى تأكيد حضورهم السياسي، ليس خلف الكواليس أو عبر الوسطاء من محترفي السياسة كما كان الشأن سابقا، بل من خلال التواجد داخل المؤسسات عبر تأسيس الأحزاب أو قيادة أحزاب قائمة والتقدم إلى الانتخابات. يبدو أن رجال الأعمال انتبهوا إلى أن العمل في الكواليس أو عبر مجموعات الضغط (Groupes de pression) مكلف جدا وبدون نجاعة وفعالية. يعترف رجال الأعمال بمصاعب وتعقيدات السياسة، لكنهم يعتبرون بأن ممارستها من طرف عديمي الكفاءة يزيد الأمور تعقيدا. يؤكد أحد كبار رجال الأعمال الفرنسيين، على أنه، لو رَاكَم رئيس مدير عام في شركة كبرى حجم الأخطاء التي يراكمها رؤساء الحكومات، فلن يحافظ على منصبه ولو لستة أشهر.
على سبيل الختم
المعارك بين رجال الأعمال ومحترفي السياسة حول من سيحكم، هي في الحقيقة معارك بين عبدة المدى القصير وكهنة المدى الطويل. فمحترف السياسة يقضي معظم وقته في التفكير في سبل النجاح في أقرب الانتخابات، أما رجل الأعمال فيشتغل على تقلبات السوق على المدى الطويل بحثا عن الفرص وتحسبا للمفاجآت غير السارة. محترف السياسة يملك امتياز خبرة التواصل مع رغبات الناس الآنية، أما رجل الأعمال فعليه مضاعفة الجهود البيداغوجية لإقناع الناس بصناعة المستقبل بتضحيات الحاضر، وبقدرته على النجاح في الحُكم كما نجح في الأعمال.
هذا المجهود البيداغوجي هو الذي مكن العديد من رجال الأعمال من الوصول إلى الحكم في العديد من الدول في السنوات الأخيرة. كما ساهم في حصول اقتناع، لدى العديد من المناهضين للفقر والفوارق واحتكار الثروة، بأن رجال الأعمال والأغنياء وإن كانوا جزءا من المشكل، غير أنه لا حل ممكن بدونهم. فمسارات بلورة الحلول للأزمات ولمعضلات الفقر والفوارق، يجب أن تحدد معهم وبإسهامهم الفعلي في الميدان.
عبدالله حتوس