الحياة في الواقع وعي ورغبة وإرادة، وهي قبل أن تكون كذلك طاقة، والطاقة في الأصل قدرة على الفعل والخلق؛ وإذا كانت القدرة على الفعل والخلق هي نفسها قدرة الطاقة، فلا يمكن أن ننتظر من الوعي والرغبة والإرادة أكثر مما ننتظره من الطاقة التي تحركهم جميعا. لو كان بإمكاننا أن نفهم هذا التناسب بين الطاقة والقدرة في حياة الإنسان لأمكن لنا أن نفهم الكثير من الظواهر الإنسانية ولأمكن لنا أن نوفر الكثير من الأحكام المتسرعة التي نصدرها كلما تعلق الأمر بسلوك لا نتفق معه.
كل ما يفعله الإنسان أصيل وطبيعي مهما تعقدت الصور التي بها يتجلى في الواقع، سواء استوحينا هذه الصور من الدين أو من السياسة أو حتى من العلم نفسه، فالفعل الإنساني يظل في أصله فعل بيولوجي غريزي، ولا يصير ثقافيا إلا بعد أن يملأ الخيال الإبيضاض الذي يخلقه وَهَن الذاكرة في العبور من الحياة الغريزية إلى الحياة الثقافية.
مناسبة هذا الكلام الاستنكار الواسع للمغاربة لخروج العشرات من الناس في بعض المدن المغربية لمحاربة وباء كورونا الذي دخل بلادنا في تغافل منا. لو بقي هذا الاستنكار في حدود الاستغراب من فعل الخروج نفسه لكان معقولا، لأنه لا أحد يخرج إلى الأزقة والشوارع لمطاردة الأشباح؛ لكن أن يكون سبب الاستنكار نوعية الشعارات المرفوعة خلال هذه المسيرات العفوية، والتي يستقى قاموسها من الدين (التهليل والتكبير)، فهذا ما يحتاج منا وقفة تأمل. أما وأن تجتمع أحزاب الأغلبية لاستصدار بيان استنكار لهذا الخروج، فهذا ما يحتاج منا بالفعل تحليله وإمعان النظر فيه.
لقد أشرت في مقدمة هذا المقال إلى التناسب الحاصل بين الفعل والقدرة، وقلت إنه لا يمكن للوعي الإنساني أن يخلق شيئا يتجاوز طاقته؛ وليس ثمة من حالة يمكن أن نقيس بها قدرة وعي ما أكثر من الأزمات التي يعيشها الإنسان. وإذا كان الوعي المغربي قد تفاجأ بأعظم أزمة في تاريخه المعاصر، فهل سننتظر من المغاربة رد فعل تجاه الأزمة يتجاوز إمكاناتهم وقدراتهم العقلية؟
من الطبيعي جدا أن يلجأ المغاربة إلى التهليل والتكبير لمطاردة الفيروسات، فهم اعتادوا أن يطردوا “العين” و”النحس” والجن والأرواح بآيات من الذكر الحكيم، إذا كان في بيوتهم من يجيد القراءة، وإن تعذر ذلك استبدلوها بحرق البخور؛ وفي اعتقادهم أن ما لا تبصره العين، قد يدركه الصوت وهو يُتلى في الهواء، أو قد يمسّه دخان البخور وهو يتطاير في كل الأرجاء. وإذا سأل سائل لماذا لم يكتف المغاربة بهذه الطقوس في محاربة وباء كورونا؟ فالجواب بسيط؛ الوباء لا يوجد في الداخل بل هو موجود في الخارج، لذلك لابد أن يرفضوا أمر السلطات بلزوم بيوتهم، وأن يتحلوا بالشجاعة لمطاردة كورونا في الأزقة والشوارع، بالسلاح نفسه الذي تطرد به الأرواح داخل البيوت.
إلى حدود هذه الأسطر فالكلام لا يخص إلا أحزاب الأغلبية التي اختارت هي الأخرى أن تحارب كورونا الداخل (المسيرات الليلية) بالاستنكار بدل العمل على نقل وعي المغاربة من سلاح البخور إلى سلاح التجريب والمختبرات، لاسيما وأنه لم يمض وقت طويل على اجتماعها لاتهام قادة حراك الريف بالانفصال بدل الاستجابة إلى مطالب رفع التهميش عن منطقة الريف التي صدحت بها حناجر المحتجين في الريف.
انتهى كلامي مع أحزاب الأغلبية، ولنعد الآن إن شئتم إلى صلب الموضوع. لماذا يتشبث الناس بالمعتقد الديني لمواجهة قضايا حياتية طبيعية ومألوفة؟ لماذا يفلت هذا المعتقد دائما من كل أزمة يعيشها الإنسان؟ بل لماذا يعود بقوة في مواجهة كل أزمة مستعصية على الناس؟
الدين في مجمله مجموعة من الأوامر والنواهي تصدر عن ذات متعالية، ويتوجب على الناس طاعتها طاعة مطلقة لا تقبل الشك أو التردد؛ بل كثيرا ما يرغب المؤمن أن يواري هذا الشك بالاجتهاد أكثر في الإيمان بالإكثار من التعبد، وهو ما يسمى عندنا بالسنن والنوافل.
الأمر، مثله مثل النهي، كما هو معروف طلب مُلزم لا يملك المأمور أمامه أي خيار غير الطاعة، وغياب الرغبة في الاستجابة تترك في حلق المأمور غصة في الحلق (لمعرفة هذا الاستلزام بين الأمر والغصة يرجى العودة إلى كتاب الجماهير والسلطة لElias Canetti).
تتعاظم هذه الغصة كلما استكثر من الأمر أو كلما كان الأمر فوق طاقة الإنسان. وإذا كان الإيمان شعورا لا يتوقف إلا بانتهاء الإنسان، فمعنى ذلك أنه يتوجب على المؤمن أن يقضي حياته في العبادة، لا ينتهي من أمر إلا بنهي يقطعه، ولا ينتهي من نهي إلا بأمر جديد. بين كل أمر ونهي تتراكم الغصات في الحلق، ولا أمل في الشفاء منها إلا بوعود الآخرة، والتي ليست في الواقع إلا تعويضا عن كُلفة الإيمان والتعبد.
يملك الإنسان من الإرادة ما يكفيه ليضع حدّا لكل كلفة، إذا اكتشف زيف ما يأتمر به أو ينهى عنه؛ لكن ما لا يملك الإنسان حيلة أمامه هي الغصات التي ملأت الحلق؛ فلا يمكن للإنسان أن يتنازل عما كان غصة بشكل مجاني، بل لا بد له من تعويض أو انتقام، ولا شيء يعوض الغصة عند المؤمن غير التمادي في نكران كل ما لا يتماشى مع الإيمان الذي كان سبب الغصة، أو الانقلاب الجذري على الإيمان بمعاداته والانتقام من مُثُله وأُسسه، وهو ما نلحظه في الإقبال المبالغ فيه على كل ما هو محرم وممنوع لدى جماعة دينية بالنسبة لمن فكّ وثاقه منها.
ما ينطبق على الأمر والنهي في المجال الديني، ينطبق عليهما أيضا في المجال العسكري، وليس صدفة أن يُنعت المؤمن بجندي الله، فالجندي كذلك لا يعيش إلا تحت طائلة الأمر والنهي، ولا يسمح له حتى بفضول فهم ومعرفة أسباب وبواعث الأمر، فهذا ليس من اختصاص الجندية بل إن وظيفتها الوحيدة هي الطاعة والاجتهاد في التعبير عنها.
الطاعة المطلقة في مجال الجندية ليست بالأمر المعقول، فلا أحد يملك القدرة ولا الطاقة في إطاعة كل الأوامر، لذلك اخترع ما يسمى بالترقية في السلك الوظيفي، فعن طريق الترقية، كما يقر بذلك إلياس كانتي ضمن مؤلفه السابق، يمتص الجندي غصة الأمر حين يصير تحته من يوجه إليه الأمر الذي كان يتلقاه من قائده. ولذلك يُمعن هو الآخر في إصدار الأوامر وينتظر أن تكون الطاعة بأكثر مما كان يقدم هو نفسه.
قد يحدث أن يكون مجال الترقي محدودا أمام الجندي بحيث يتعذر على كل الأوامر التي يوجهها إلى من هم دونه أن تمتص الغصات التي علقت بحلقه. وفي هذه الحالة لا يملك الجندي إلا أن يحول الطاعة إلى عقيدة كنوع من التقديس يسبله على قائده، أو إلى انقلاب جذري بالرغبة في التخلص منه والحلول محله، وهو ما يحدث عادة في الانقلابات العسكرية بين القواد الكبار.
لا يظهر عادة هذا التناقض بين الأمر والغصة إلا حين تشتد الأزمات بالإنسان، سواء في المجال الديني أو في المجال العسكري؛ لذلك لا نستغرب أن يكثر الانسان من الدعاء والخروج في مسيرات للتهليل والتكبير ضد ظاهرة طبيعية، لا علاقة لها بإيمان الناس ولا بتوجهاتهم ولا رغباتهم؛ كما لا نستغرب صور التنكيل بالمواطنين في الأزقة والشوارع من طرف رجال الأمن وهم يحرصون على فرض حالة الطوارئ التي اتخذت على عجل لمواجهة وباء كورونا.
تعبر الحالة الأولى على صراع يعيشه الفرد المؤمن كلما حُشر في محنة كبيرة. وهذا لا يقتصر فقط على البسطاء من الناس، بل يشمل حتى العظماء منهم وليس انعزال النبي محمد عن الناس بعد تأخر نزول الوحي عليه إلا واحدة من هذه الحالات، فهو لم يجتز هذه المحنة إلا باستئناف نزول الوحي في سورة: “والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3)”. وإذا كان الناس قد خرجوا في مسيرات ليلية للتهليل والتكبير فذلك ليس إلا تعبيرا عن تناقض الاطمئنان الديني مع قلق الحياة الذي تسبب فيه الهلع من فيروس كورونا، وليس من سبيل لرفع هذه المحنة إلا المزيد من التشبث بالدين.
وتعبر الحالة الثانية عن حالة من التشنج والغضب بسبب كثرة الأوامر الموجهة إلى رجال الأمن لتنزيل حالة الطوارئ. ولفهم ذلك لا يجب أن ننظر إلى هذا الحدث باعتباره مجرد إجراءات يتم تنزيلها لمواجهة وباء كورونا، بل إن حالة الطوارئ واقعة سياسية كاملة المعالم، وهي تسمى في معجم الفكر السياسي بحالة الاستثناء أي الحالة التي تستثني وتنفي كل الوقائع السياسية الأخرى (لمعرفة أكثر عن حقيقة حالة الاستثناء يرجى العودة إلى المفكر الألماني Carl Schmitt أو إلى إلى كتاب Giorgio Agamben يحمل العنوان نفسه حالة الاستثناء).
توحي السياسة بمعان إيجابية حين تفهم كحزمة من السبل لتدبير السلطة، لكن السلطة لا تفهم إلا من خلال أفعال الأمر والنهي. وحين تمارس السلطة مزدحمة بمفاهيم الحق والعدالة والحرية فهي لا تعود سلطة خالصة. لذلك يحتاج صاحب السلطة إلى ما يسمى بحالة الاستثناء ليستعيد ما أخذ منه باسم الحقوق والواجبات، وليمارس سلطة عارية من كل حق، سلطة لا تقبل ما يسمى بسيادة القانون ولا فصل السلط ولا دولة المؤسسات.
يحرص القادة السياسيون، حين يتعلق الأمر بحالة الطوارئ، على أن يعلّموا من تُوجه إليهم الأوامر المعنى الخالص للسلطة، بتعليق سلطتي البرلمان والقضاء، وحصر مجال السلطة في نطاق العلاقة بين القائد ومأموريه (وهي حالة مستوحاة من الحرب، حيث يُغيّب الخوف من الموت والرغبة في الحياة أي إمكانية للحوار والإقناع)، ويجتهد هؤلاء في تنفيذ أوامره كإشارة منهم على استيعاب كل ما تقتضيه حالة الطوارئ، موجهين غصاتهم واحتقانهم إلى ضحايا من تشملهم الأوامر، طالما أنهم لا يملكون القدرة على رد الأوامر أو عصيانها.
لا أعرف إن كنت قد وُفقت في ردم الهوة بين الحياة الغريزية والحياة الثقافية، من خلال التحليل الذي قدمته لظاهرتي المسيرات العفوية ضد وباء كورونا والتنكيل بالمواطنين في الأزقة والشوارع تنزيلا لحالة الطوارئ الصحية، لكن ما يهم هو أن لا ننظر دائما إلى الأزمة بمعيار إنساني، أي من خلال تعداد الضحايا ورصد معاناة الباقين على قيد الحياة، فإذا كانت للأزمة ضحاياها، فللسلم أيضا مآسيه، وليس ثمة فرق كبير بين مصاب عليل طريح الفراش في زمن الأزمة وبين مشرد معافى سليم لا سكن يأويه في وقت السلم والاستقرار. وإذا كان ثمة أزمة بالفعل فهي أزمة التمييز بين ضحايا الأزمة وضحايا السلم.