لقد تابعنا، منذ بدء تفشّي وباء كورونا، العديد من الدكاترة والأخصائيين في مجال الأوبئة والجراثيم، وهم يحاولون أن يرشدوا الناس إلى كيفية التعامل مع هذا الوباء، وكان القاسم المشترك بين كل النصائح التي قدمها هؤلاء، الإكثار من شرب الماء الدافئ، والحرص على تناول الأغذية المقوِّية للمناعة، ولم يذكر أحد منهم شيئا عن الصوم أو الإمساك عن الطعام. لذلك كان من الصعب على الكثير منا استيعاب ما تقدم به الدكتور محمد الفايد، الذي يقدم نفسه دائما باعتباره أخصائيا في مجال التغذية، حين نصح المغاربة بالصوم، وحين أراد أن ينفخ في قلوبهم بمزيد من الصبر، بتأكيده أن حُلولَ رمضان سيكتب النهايةَ لفيروس روّع العالمَ بأسره.
ثارت ثائرة الكثير من المتنورين المغاربة بمجرد أن سمعوا بنصائح الدكتور، منددين باستغلال الأزمة التي يمر بها المغاربة، لتمرير الإيديولوجية الدينية، داعين إلى عدم خلط مجال الطب (العلم) بمجال الدين. ولما كان الكثير منا لا يهتم بالعلم إلا من باب الاستهلاك، فهناك من رأى أن الخللَ ليس في عدم الفصل بين العلم والدين، وإنما في الخلط بين السياسة والدين.
لكن سواء طالبنا بالعلمانية sécularisation أو اللائكية laïcité فلن نغير من واقعنا شيئا، وربما أن نصائح السيد الفايد قد يكون لها الأثر الأكبر، أكثر مما يأمله المتنورون منا في عتق الناس من الخطابات الدغمائية، لأن هذه الأخيرة على الأقل تدغدغ المشاعر، في الوقت الذي لا يلمس فيه الغالبية من الناس أي تأثير للخطابات العلمانية.
قد لا يكون ثمة فرق كبير بين الدكتور الذي استغل الأزمة لتمرير الإيديولوجية الدينية، ومن استغل غرابة نصائح الصوم للدعوة مجددا إلى فصل السياسة عن الدين، رغم أن هناك من المتنورين من سيعتبر ذلك بمثابة حق، طالما أنه مطلب عقلاني، ومعقوليته يستمدها من كونه المعيار الأنسب للتعايش بين الناس جميعا. لن نناقش هنا لا غرابة نصائح الدكتور ولا معقولية مطلب المتنورين، ولنكتفي بالبحث عن جذور فكرة الصوم وامتداداتها السياسية والاقتصادية، حتى نتبين ما الأنسب، مطلب فصل الدين عن السلطة أم صوم السلطة عن الطعام (فصل السياسة عن الاقتصاد)؟
قديما كان الصينيون يعتقدون أن القردة لا تملك معدة، لذلك فهي تهضم غذاءها من القفز هنا وهناك. وحتى إن صح اليوم أن لها معدة، فهي لا تحتاج إلى طبخ الطعام كما لا تحتاج إلى قيلولة للهضم، ولا حتى إلى قوانين لتحصيله واقتسامه، لذلك لم يفكر أحد بأن ينصحها أو يعلمها طقوس الإمساك عن الطعام. على عكس القردة، يحرص الإنسان أيّما حرص على تقنين سبل الحصول على الطعام وتقسيمه، وكانت هذه أهم المعضلات التي عرفها الوجود الإنساني على الاطلاق، سواء في الماضي أو في الحاضر، ومن المؤكد أنها لن تختفي في المستقبل.
كانت الشعوب القديمة، حسب ما أورده إلياس كانتي Elias Cannetti في كتابه الجماهير والسلطة، تتبع نظاما فريدا في تقسيم الطعام وتوزيعه، خاصة داخل الجماعات التي كانت تعتمد على القنص؛ فقد كان صدر الفريسة يذهب إلى رجال الجماعة القادرين على الإنجاب، ويذهب الظهر والفخذ والأرجل إلى من أصاب الفريسة، في حين تعود الأكتاف إلى من حملوها إلى الجماعة، وتكون الرقبة من نصيب أصحاب كلاب الصيد، ويترك الرأس والأحشاء لعرّاف القرية.
لا يزال هذا النوع من قسمة الطعام حاضرا في عادات بعض الأسر المغربية، خاصة المعوزة منها، فاللحم لا يُقسّم بين أفراد الأسرة بالتساوي أو كيفما اتفق، بل يقسم حسب أهمية كل شخص داخل الأسرة. وهناك من الأسر من يزيد على ذلك بتحريم أعضاء معينة من لحم الدجاج أو خروف العيد على الأطفال والنساء، وغالبا ما يقتصر التحريم على الكبد أو المخ، ولن يكون السبب وراء هذا التحريم إلا وجود من يريد أن ينفرد بأكلهما، كما ينفرد زعماء القنص بما هو أفضل في الفريسة.
الرغبة في الانفراد بالطعام ليست ظاهرة ثقافية محض، بل هي أيضا متغلغلة في جسم السلطة، وكثير ما يحرص الحكام والملوك على تناول الطعام وفق طقوس خاصة، أهمها أن لا يشاركهم أحد في الطعام، وأن يتابع الملكَ وهو يتناول طعامه واقفا كلُّ من كان بحوله.
هذا هو الطقس المتبع لدى أغلب الملوك قديما وقد اشتهر به ملوك أوغندا خاصة، حسب ما يرويه إلياس كانتي، وهو ما يتبين من ذيوع تعبير “الأسد يأكل وحيدا” بين الأوغانديين. كما كان هؤلاء الملوك يزيدون على ذلك بالمعاقبة بالموت كل من تأخر في إعداد الطعام، أو سعل أو عطس وهو يقدم الطعام بين يدي الملك.
تطورت لاحقا قواعد اقتسام الطعام، فظهرت جماعات تحرم تناول الطعام مع من يخالفها في المعتقد، والذي ليس في الواقع غير رفض مشاركة ما لدينا من طعام مع الآخرين. كما ابتُكرت قواعد أخرى تخصّ الامساك عن الطعام في أوقات ومناسبات محددة، من أجل التحكم في توزيع الطعام حتى لا ينفذ من أيدي الناس.
وحتى الجماعات التي لم تعرف أي شكل من أشكال الصوم، حددت لنفسها أوقاتا معينة للأكل، وهي التي تعرف اليوم بالوجبات الثلاث، ليس من أجل التنظيم وإنما اقتصادا في الطعام، ولعل أسماء بعض الوجبات في مختلف اللغات دالَّةٌ على ذلك؛ الفطور في العربية، déjeuner في الفرنسية، desayuno في الإسبانية أو breakfast في الإنجليزية. تشترك كل هذه الألفاظ في دلالة واحدة هي كسر الصيام، رغم اختلاف المرجعيات الثقافية التي تنتمي إليها، ورغم أن أسماء الوجبات ليس من المفروض أن تكون لها أي صلة بالمعتقد.
اعتبارا لكل هذه التفاصيل الخاصة بطرق تقنين اقتسام وتوزيع الطعام، لا يجب أن نعتبر فكرة الصوم فكرة دينية محض، كما لا يمكن أن نفهم دعوة الدكتور الفايد الناس إلى الصوم للقضاء على جائحة كورونا إلا بتأويلين اثنين؛ فهو إما يريد أن يذكرنا بالحكمة الصينية القائلة إن القردة تهضم طعامها بالقفز هنا وهناك، ولما كان الإنسان لا يمكن أن يُجاري قفز القردة، فربما قد يحاول ذلك حين تكون معدته خاوية من الطعام؛ وإما أنه يريد أن يذكرنا بالحكمة الأوغاندية القائلة “إن الأسد يأكل وحيدا”.
وإذا استحضرنا هاتين الحكمتين معا، فقد لا نتعلم أشكالا جديدة من الهضم، ولا صورا أخرى لاقتسام الطعام فقط بفصل الدين عن السلطة، وإنما نحتاج أيضا إلى إبعاد معدة السلطة عن الطعام. إننا نحتاج إلى فصل السلطة عن الاقتصاد.