إذا كانت جميع الأديان ذات علاقة، بشكل أو آخر، بالسياسة، فإن الإسلام، بسبب خصوصيته التاريخية وظروف نشأته وعوامل توسّعه وانتشاره، ذو علاقة خاصة بالسياسة، علاقة سببية تجعل السياسة ملازمة، وجودا وعدما، للإسلام. ففصل الإسلام عن السياسة هو فصل له عن أسباب وجوده وبقائه. ولهذا فإن عبارة “الإسلام السياسي” التي نردّدها، اليوم، كلازمة، هي تكرار لا جدوى منه لأنها تحصيل للحاصل، مثل بدلَ أن نقول: “مثلث”، نقول: “مثلث ذو ثلاثة أضلاع”، مع أن من طبيعة المثلث أنه ذو ثلاثة أضلاع، وهو ما يدخل في تعريف المثلث، مثلما أن السياسة تدخل في تعريف الإسلام.
ومن هنا خطأ دول غربية غير إسلامية اعتقدت، مثل فرنسا، أنه بمجرد أن توفّر للأقلية المسلمة شروط ممارسة إسلامها، من بناء للمساجد واحترام لشعائرها الإسلامية واعتراف بأعيادها الدينية، فإن أصحاب هذه الأقلية سينضبطون للقوانين الوطنية ويندمجون في النسيج الاجتماعي الوطني مثل الأقليات الدينية الأخرى، كاليهود والبوذيين، حيث لا يكون هناك تمايز، بخصوص الانتماء إلى الدولة واحترام قوانينها، بين أبناء هذه الأقليات والمسيحيين، أبناء البلد الأصليين، الذين لهم كنائسهم ويمارسون شعائرهم في احترام للممارسات والمعتقدات الدينية للأقليات غير المسيحية. مصدر هذا الخطأ هو تصوّر الإسلام كدين غايته تنظيم علاقة المؤمن المسلم بربه، كما تتجلّى هذه العلاقة في مجموعة من الممارسات الإيمانية والتعبّدية. والغائب هنا، في هذا التصوّر الاختزالي الخاطئ، هو الجانب الأهم في الإسلام، ألا وهو الجانب السياسي الذي يجعل من الإسلام دينا يدعو المؤمن المسلم، كجزء مكوّن لإيمانه بهذا الدين، إلى نشر لإسلام إلى أكبر عدد من الناس يشكّلون جماعة من المسلمين، غايتها إقامة دولة تحكم باسم الإسلام، وتستعمل سلطتها السياسية لإخضاع الجميع لأحكام الإسلام.
هكذا نشأ الإسلام، حسب السردية الإسلامية، كإسلام جماعة من المؤمنين عملوا على استقطاب آخرين إلى جماعتهم الإسلامية، ثم شكّلوا سلطة سياسية كنواة لدولة إسلامية أصبحت تستعمل القوة لفرض الإسلام. طبيعة وظروف هذه النشأة ستشكّل جزءا من الإسلام نفسه بعد أن جعلت منها السردية الإسلامية جهلا مقدّسا إسلاميا، يوجّه سلوك المسلم ويحدّد تصوّره للمسلم الحق ولغير المسلم على الخصوص. وأستعمل هنا عبارة “الجهل المقدّس”، ليس بمعناها الذي استعملها به واضعها الأول “أوليفيي رْوا” Olivier Roy، في كتابه الذي يحمل نفس العبارة عنوانا له: “La Sainte ignorance. Le temps de la religion sans culture” الصادر في 2008، ولكن بمعناها اللغوي المعجمي، ولو أنه قريب من المعنى الذي قصده “رْوا” عندما بيّن في كتابه كيف أن الأديان انفصلت عن أصولها الثقافية، مما أصبح معه من الصعب فهمها وتفسير نشأتها وتطوّرها بسبب استقلالها الظاهر عن هذه الأصول. أقصد إذن بـ”الجهل المقدّس”، حسب المعنى اللغوي المعجمي، تلك المجموعة من الحكايات والأساطير والروايات والأخبار والتمثّلات والوقائع المختلَقة والتفسيرات المغرِضة لوقائع حقيقية…، تخص موضوع الإسلام والمسلمين، والتي لا يمكن التأكد من صحتها بأية حجة أو دليل، بالمعنى الإبستمولوجي، والمدوّنة، بعد أزيد من قرنين على ظهور الإسلام، كتراث أصبح يشكّل مصدرا “علميا” منه يغرف المسلمون معرفتهم بالإسلام. ولأنه لا يمكن إثبات صحة وحقيقة العناصر المعرفية لهذا المصدر “العلمي”، كما قلت، فهو إذن مصدر مجهول، يقوم بالتالي على الجهل وليس على العلم. ولكن هذا الجهل، لأنه مصدر معرفتنا بالإسلام، فهو جهل مقدّس لأن حقائقه دينية. ولأنها حقائق دينية فهي مطلقة وثابتة، لا يمكن بالتالي إعادة النظر أو التشكيك فيها، لأن ذلك سيعني إعادة النظر والتشكيك في الإسلام نفسه. ومن هنا تكتسي هذه الحقائق طابعا مقدّسا عند المسلمين المؤمنين بها.
وبما أن أهم عنصر في هذا الجهل المقدّس هو ذلك المرتبط بنشأة الإسلام وانتشاره، والذي هو جهاد الرسول (صلعم) وصحابته ضد الكفار الرافضين للإسلام، ومحاربتهم وقتلهم وفتح بلدانهم لنشر الإسلام بها، فإن المسلم يعمل دائما، تحت تأثير هذا الجهل المقدّس، الذي يدور حول طبيعة وظروف نشأة الإسلام كما كرّستها السردية الإسلامية ابتداء ن القرن الثالث الهجري، على إعادة إنتاج هذه النشأة ومواصلة “الفتوحات” اقتداء بالرسول (صلعم) والصحابة، وذلك بالتعامل مع غير المسلمين ككفار لا بد من قتالهم حتى يدخلوا الإسلام، تماما كما فعل المسلمون الأوائل، كما رسّخ ذلك الجهلُ المقدّس. هذا الجهل المقدّس، الجهادي والحربي، حاضر عند العديد من المسلمين، وهو الذي يحدّد كيف يجب عليهم أن يتعاملوا “شرعا” مع بلد غير مسلم. فالعمليات الإرهابية التي عرفتها فرنسا في السنين الأخيرة، وغيرها من البلدان الأوروبية كإسبانيا وبريطانيا والنمسا مؤخرا، هي إعمال لهذا الجهل المقدّس الذي يدور، كما رأينا، حول الجهاد ضد غير المسلمين، والذي قاده الرسول (صلعم) وصحابته حسب هذا الجهل المقدّس. فمنفذو هذه الأعمال الإرهابية إنما يقتدون بالرسول (صلعم) وصحابته، ويمارسون الجهاد كما مارسوه (الرسول والصحابة) ودعوا كل مسلم إلى ممارسته، حسب ما هو مسطّر في الجهل المقدّس. وهل هناك من قدوة أفضل من الرسول (صلعم) وصحابته؟ ولهذا لا يسعى عديد من المسلمين، الذين يعيشون في أوروبا مثلا، إلى الاندماج في هذا المجتمع الغربي الذي استقبلهم واحتضنهم. بل يسعون إلى إدماج هذا المجتمع في إسلامهم وعقيدتهم، ولو تطلّب الأمر اللجوء إلى “الجهاد” لتحقيق ذلك. وهكذا يصنع الجهل المقدّس من هؤلاء مسلمين متطرفين، وحتى إرهابيين، يعتقدون، في نوع من النرجسية الإسلاموية، التي تجد مصدرها طبعا في هذا الجهل المقدّس، أنهم وحدهم المالكون للحقيقة، العارفون بالعقيدة الصحيحة، وأما غيرهم من أتباع المِلل الأخرى فهم على باطل وفي ضلال، ويشكّلون بذلك خطرا على عقيدتهم الصحيحة، التي بجب الدفاع عنها بـ”الجهاد” في أعداء الله ورسوله. ومن مظاهر هذه النرجسية الإسلاموية أن مثل هؤلاء المسلمين يرفضون رفضا مبرما حرية المعتقد التي تجيز للشخص أن يختار الدين الذي يرغب فيه ويتخلّى عنه عندما يريد، في الوقت الذي يحتفون فيه بالمسيحي الذي يرتدّ عن دينه المسيحي ويعتنق الإسلام تطبيقا لمبدأ حرية المعتقد. لكن المسلم الذي يرتدّ عن إسلامه ويعتنق المسيحية، ممارِسا حرية المعتقد كما فعل المسيحي المرتدّ، يصدرون في حقه حكما بالقتل. مع أن سبب هذا الحكم، الذي هو ممارسة حرية المعتقد، هو ما سمح لغير المسلمين أن يدخلوا الإسلام ويمارسوا “الردّة” التي يرحّب بها المسلمون عندما تأتي من غيرهم. فلو أن المجتمعات المسيحية الغربية كانت تحكم بالقتل على المرتدّ، كما في عهد محاكم التفتيش، لما دخل أحد منهم الإسلام. إنها إذن نرجسية إسلاموية بيّنة أن يقبل هؤلاء المسلمون الفوائد التي يجنيها الإسلام من حرية المعتقد عندما يمارسها أتباع الديانات الأخرى، لكنهم يرفضون هذه الحرية للمسلم. طبعا تفسيرهم لهذا التناقض جاهز ومعروف كما تعلّموه من الجهل المقدّس: تلك الأديان محرّفة وفاسدة، ولهذا يحوز الارتداد عنها عكس الإسلام الذي هو العقيدة الصحيحة. وهكذا يصادرون عن المطلوب فيدافعون عن النرجسية بالنرجسية.
أما الاعتراض أن القرآن يعترف بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، فخروج عن الموضوع. لماذا؟ لأن الإسلام، كما يفهمه ويمارسه مثل هؤلاء المسلمين المتطرفين، والذي يحددّ على الخصوص، كما قلت، نظرتهم إلى الآخر غير المسلم، ليس هو القرآن، بل هو الجهل المقدّس، كما شرحت، والذي إن كان يعتمد ضمن عناصره على القرآن، لكن كما أوّلته السردية الإسلامية المشكّلة للجهل المقدّس. فما يحرّك منفذي الأعمال الإرهابية باسم الإسلام، سواء في دول غربية أو حتى إسلامية، مثل المغرب، ليس هو القرآن الذي لا يفهم فيه هؤلاء في الغالب شيئا، والذين فيهم من لا يعرف حتى القراءة والكتابة بالعربية، وإنما هو الجهل المقدّس الذي صنعته السردية الإسلامية، كما قلت. فإذا كانوا يعتقدون أنهم، بقيامهم بتلك الأعمال الإرهابية، فإنهم يطبّقون أحكاما قرآنية، فلأنهم يعتقدون جازمين أن تمثّلاتهم للإسلام، كما تلقوها عبر الجهل المقدّس، هي مطابقة لأحكام القرآن الداعية إلى الجهاد، كما فعل الرسول (صلعم) وصحابته، حسب مضامين هذا الجهل المقدّس.
أما اعتبار الرسوم الكاريكاتورية، لصحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية، مسيئة إلى الرسول (صلعم) وهجوما على الإسلام، وهو ما يستدعي الدفاع عن مقام الرسول (صلعم) وحرمة الإسلام، فذلك ما يلقّنه الجهل المقدّس كمرجع وحيد لأولئك الذين نفّذوا أعمالا إرهابية نصرة للرسول (صلعم) والإسلام، حسب اعتقادهم. لكن يجب الاعتراف أن هذه الرسوم هي، بالنسبة لمنفذي هذه الأعمال الإرهابية وإلى الكثير من المسلمين، شهادة حية على صحة ما رسّخه الجهل المقدّس من وجود أعداء يتربّصون بالإسلام للنيل منه، مما يقتضي اللجوء إلى الجهاد للتصدّي لهم والقضاء عليهم والفوز برضا الله ورسوله.
النتيجة أن الإسلام الحقيقي، كما يفهمه ويؤمن به الكثير من المسلمين، وخصوصا المتطرفين منهم، ليس هو إسلام العبادات والأخلاق والمعاملات، وإنما هو الإسلام السياسي، الذي صنعه الجهل المقدّس الذي صنعته بدورها السردية الإسلامية، كما سبق أن شرحت. والعنصر المميّز لهذا الإسلام السياسي هو أنه لا يتحدّد انطلاقا من علاقة المسلم بربه، وإنما من علاقة هذا المسلم بالآخر المختلف وغير المسلم. وهو ما ينتج عنه أن إسلام هذا المسلم لا يكتمل، كما يعتقد استنادا إلى ما رسّخه الجهل المقدّس، إلا إذا واصل ممارسة “الفتوحات” لإخضاع الآخر غير المسلم لإسلامه أو محوه من الوجود، اقتداء بالرسول (صلعم) وصحابته حسب ما رسّخه نفس الجهل المقدّس، كما سبق بيان ذلك. هكذا يعيش المسلم، ولو أنه في القرن الواحد والعشرين، وبسبب الجهل المقدّس كمرجع منه يغرف إسلامه، نشأةَ الإسلام، الممتدّة في الزمان والمتواصلة في عصره، مع ما يصاحبها من “فتوحات” وحروب وقطع لرؤوس أعداء الإسلام. ولهذا إذا كان الإرهابي الذي قطع، بفرنسا يوم 16 أكتوبر 2020، رأس الأستاذ الذي عرض الرسوم المسيئة إلى الرسول (صلعم) في درس حول حرية التعبير، فذلك لأن هذا القطع لرؤوس أعداء الإسلام هو عنصر أساسي في الجهل المقدّس، الذي ألهم هذا الإرهابي أن يقوم بتلك الفعلة اقتداء بالرسول (صلعم) وصحابته، حسب ما هو ثابت في هذا الجهل المقدّس، كما أوضحت.
ما هو الحلّ للقضاء على الإرهاب الذي يمارَس باسم الإسلام؟ إذا كانت جميع الحلول التي اقترحت وطبّقت منذ أزيد من ثلاثين سنة لم تُعط أية نتيجة، فذلك لأن هذه الحلول لا تلامس جوهر المشكل الذي هو استمرار إنتاج وإعادة إنتاج الجهل المقدّس، بكل حمولته الجهادية والفتوحية الحربية. وهو ما جعل هذا الجهل المقدّس يحتلّ وضع ذات sujet فاعلة ومؤثرة، بها نفكّر في الإسلام ونفهمه ونمارسه، ملهمة وموجّهة لسلوك وموقف ذلك المسلم المتطرّف تجاه الآخرين المختلفين عنه، إما لأنهم غير مسلمين، أو أنهم مسلمون لكنهم يختلفون عنه في فهمهم لنفس الإسلام الذي يعتقد أنه يدافع عنه. فبداية الحل سيكون إذن هو الانتقال بهذا الجهل المقدّس من وضع الذات إلى وضع الموضوع objet، الذي نفكّر فيه بدل أن نفكّر به. ويتحقّق ذلك بدراسة ـ ثم تدريسه بعد ذلك ـ هذا الجهل المقدّس وتحليله كموضوع للتشريح والتفكيك، لتبيان أنه مصنوع ومتخيّل صنعه كتّاب السيرة ووضّاع الحديث بعد أزيد من مائتي سنة على موت الرسول (صلعم)، وأنه إذا كان ذا طابع مقدّس يعبّر عن قداسة الإسلام الحقيقي، فذلك لأن الخلفاء والسلاطين وجدوا فيه ما يدعم حكمهم واستبدادهم، فعملوا على نشره وانتشاره، وإنتاجه وإعادة إنتاجه، وتعليمه وتلقينه كإسلام حقيقي على كل مسلم الإيمان به والالتزام بمضامينه، والاقتداء على الخصوص برجالاته وأبطاله الذين كانوا نموذجا للجهاد ضد الكفار والزنادقة من أجل إعلاء كلمة الله. وهكذا تحوّل الجهل المقدّس إلى حقائق مقدّسة، يعاد إنتاجها والعمل طبقا لمضامينها، الحربية والجهادية. فالتعامل مع هذا الجهل المقدّس كموضوع، لا يعني أكثر من تشريحه وتفكيكه وتحليله، كما شرحت، لرده إلى مكوّناته التاريخية والبشرية التي صنعته وأنتجته. ومن هنا يكون التجفيف الحقيقي لينابيع الإرهاب الديني هو تجفيف للجهل المقدّس، الذي هو الينبوع الثرّ لما يمارس من إرهاب باسم الإسلام، وبذلك بجعله موضوعا لهذا التشريح والتحليل والتفكيك، كما قلت.
وإذا كان المفكرون والمثقفون المتنوّرون، وحتى رجال الدين من المتنوّرين، قادرين على أن يلعبوا دورا هاما في تحويل الجهل المقدّس من ذات إلى موضوع، كمنتوج بشري وسياسي، فإن ذلك مشروط بتوفير الدولة لحرية التفكير والتعبير بشأن الجهل المقدّس لجعله موضوعا للبحث والدراسة والتشريح والتفكيك، للكشف معرفيا أنه مجرد جهل يتشكّل من وقائع متخيّلة وعناصر اختلقها كتاب السيرة ووضّاع الحديث خدمة للخلفاء والسلاطين، كما أشرت.
ولنا في المسيحية مثال على أن حرية التفكير والتعبير شرط لتغيير الأفكار المغلوطة، وحتى المعتقدات الخاطئة. فالجهل المقدّس المسيحي، الذي صنعه المسيحيون بعد قرون على مقتل المسيح ـ حسب العقيدة المسيحية ـ، كان أسوأ بكثير من الجهل المقدّس الإسلامي، مما جعل الديانة المسيحة تكون من أسوأ الديانات التي عرفتها البشرية في تاريخها، فيما يتعلق بنظرتها إلى الآخر غير المسيحي، كالمسلم واليهودي، وحتى المسيحي الذي كان من السهل اتهامه بالهرطقة وتقديمه إلى محاكم التفتيش التي شكّلت وصمة عار في تاريخ المسيحية. لكن مع توفّر حرية التفكير والتعبير، وخصوصا ابتداء من القرن الثامن عشر، وإن كانت إرهاصاتها قد ظهرت مع بداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر، أصبح الجهل المقدّس المسيحي، ومعه المسيحية التي صنعها هذا الجهل، يُعرض لتشريح النقد والتحليل، وصل إلى حد تسفيه هذه الديانة والتشكيك حتى في وجود المسيح نفسه، والقول إنه مجرد شخصية اختلقها الجهل المقدّس المسيحي، ودون أن يتعرّض المسفّهون والمشكّكون لأية شيطنة أو إساءة أو متابعة قضائية، نظرا أن رأيهم في المسيح والمسيحية يدخل ضمن حرية التكفير والتعبير التي يضمنها ويحميها القانون. ونفس الشيء بالنسبة إلى العديد من الرسوم الكاريكاتورية التي تسخر من المسيح وأمه مريم وتستخفّ منهما، وذلك قبل أن تظهر الرسوم المسيئة إلى الرسول (صلعم) بعشرات السنين. وقد كان لهذه الحرية في انتقاد الديانة المسيحية تأثيرها الإيجابي الإصلاحي على هذه المسيحية، حيث انتقلت من دين متشدّد ومتخلّف، عدائي وحربي رافض للديانات الأخرى، إلى دين محبة وبِر ورحمة، عمليا وممارسة، وليس فقط كمبادئ نظرية وإعلان عن النوايا كما في الخطاب الإسلامي.
هذه الحرية في انتقاد المسيحية، بشخصياتها ونصوصها وتراثها وتاريخها، لم يؤدّ إلى إضعاف هذه الديانة كما قد يتخوّف من ذلك الذين يرفضون إتاحة هذه الحرية في التعامل مع الإسلام. والدليل على ذلك أن أزيد من ملياري مسيحي لا زالوا يمارسون هذه الديانة. فما تؤدّي هذه الحرية إلى إضعافه، في حالة ممارستها بالنسبة إلى الإسلام، لن يكون إذن هو الإسلام نفسه، وإنما هو الجهل المقدّس بهذا الإسلام. كما أن الغاية من حرية انتقاد المسيحية ليست هي القضاء على كل الجواب الخرافية واللاعقلانية التي تزخر بها المعتقدات المسيحية، بدليل أن هذه الجوانب لا زالت حاضرة بقوة في هذا الديانة. وإنما الغاية هي ضمان وحماية، كمقدّس ديني حقيقي، حرية التفكير والتعبير، في إطار المسؤولية والقانون، باعتبارها شرطا لكل إبداع وتجديد وتقدّم وتنمية. وليس من الضروري أن تكون الدولة علمانية حتى تُتاح فيها حرية انتقاد الأديان. فالولايات المتحدة ليست علمانية إلا بمقدار علمانية المغرب، العملية وليس الدستورية، إلا أن حرية انتقاد الأديان في هذه الدولة لا تختلف كثيرا عن التي يُسمح بممارستها في فرنسا. وهذا يؤكد أن هذه الحرية لا تستهدف الأديان تحديدا، وإنما انتقاد الأديان هو مما يدخل ضمن ممارسة هذه الحرية.