طبعا هذا لا يعني أن العروبة قد ذهبت من المغارب، ولكن نقصد القول أنها عادت لتتقوى أكثر بطريقة أخرى أنجح وأنجع وهي الركوب على هواء الكرة ووضع القدم عليها. من أجل النفوذ إلى عمق قلوب الجماهير السفلية المحرومة والكادحة، ودغدغة عواطفها، وغرس الفكر العروبي داخل نفوسها، حتى يتحقق لها النصر والتمكين، ونصل إلى الانجراف الأخير، حيث تتم عملية السلخ الهوياتي بعناية فائقة.
في القبل؛ كانت ايديولوجية القومية العربية تعتمد على العمل السياسي المنظم، السري والعلني، المدني والعسكري الثوري، لنشر الفكر العروبي المتزمت، والقومية العربية كايديولوجيا سياسية فتاكة توهم الناس بتحقيق وحدة عربية في إطار مشروع نهضوي عربي، لمواجهة اسرائيل، التي اتخذت كعدو مفترض لطحن الشعوب بآلات العسكر والجيش وغرس الاستبداد، أوجه هذه المشاريع السياسية، تمثلت في الحزب البعث السوري والبعث العراقي وتجربة عبدالناصر في مصر ومشروع القذافي السيء الذكر في ليبيا. وكانت كل هذه الأنظمة السياسية تستهدف خصوصية المغرب وشمال افريقيا عامة. تحكموا في مصر وفي ليبيا وانفلتت منهم تونس البورݣيبية، في النهج ولكن سايرهم في الهدف من خلال شن حرب ضروس على الأمازيغية والامازيغ، وتمكنوا من الجزائر، بسبب وجود المشترك، الجيش والاشتراكية العروبية، ونسبيا تحكموا في موريتانيا.
أما المغرب، وإن انغمس هو الآخر في العروبة بسبب اختراق أحزاب البعث لصفوف الشباب والجامعات، ولكن انفرد بخصوصيات سياسية التي جعلته يحتمى سياسيا من نيران القوميين العرب، واستهدفوا النظام السياسي ووحدتة الترابية، وشكل غصة في حلقهم. وخلقوا للمغرب جمهورية عربية اشتراكية وهمية، ومولوها بالعتاد والعسكر وكل شيء، واستقطبوا شباب وطلبة بالمنح الدراسية في سوريا والعراق ومصر ولبنان، وتشبعوا بالفكر القومي العروبي، وبعد عودتهم انخرطوا في تنظيمات سياسية ثورية وسرية تتبنى العنف الثوري…الخ.
إن ما يهمنا هنا ليس الصراع السياسي بين النظام ومعارضيه، وإنما الافكار الخطيرة التي تبناها هؤلاء المعارضون الذين، لم يكونوا يستهدفون فقط النظام السياسي، وإنما أيضا الهوية الثقافية والحضارية للمغرب، وكانوا يعلنون صراحة عن نواياهم في قتل الأمازيغية ويدعون إلى اماتة اللهجات البربرية والقضاء عليها نهائيا بالتعريب الشامل، وكان زعمائهم يعلنون هكذا مواقف في التجمعات والمناشر والكتب، امثال بنبركة والجابري وآخرون، ولازال اليساريون يحلمون بتحقيق هذه الأهداف…نجانا الله واياكم من بأس هؤلاء القوميون.
أكيد فشلت هذه القوى في وأد الأمازيغية واقبارها، ولكن نجحوا كثيرا في الحاق أضرار جسيمة لها، فقد تدهورت اللغة الامازيغية وثقافتها، وتم انتاج مجتمع ممسوخ هوياتيا، يحتقر لغته وثقافته ويمجد هوية مزيفة ولغة أخرى بديلة ويتقمص شخصية ثقافية مصنوعة ومفبركة داخل حجرات المدارس والاعلام والفضاء العام. وقد ساهمت اندحار أنظمة البعث القومي في العراق وسوريا وليبيا، في تقهقر التيارات السياسية العروبية بالمغرب التي كانت تتلقى الدعم المالي من صدام والقذافي والاسد..
ولكن العروبة لم تمت أبدا.
فقد انتعشت مع تغيير موازن القوى في الشرق، وظهرت أنظمة خليجية أخرى تدعم العروبة وتصوب عيونها نحو شمال افريقيا، وخاصة المغرب. هذه الأنظمة البترودولار نهجت اسلوبا آخر وهو دعم تيارات الاسلام الوهابي والسلفي وتنظيمات الاخوان المسلمين. واستثمرت اموال ضخمة جدا في تمويل وسائل وقنوات إعلامية متعددة، كلها تسعى إلى قنبلة الخصوصيات المحلية الشعوب، قوامها المزيد من التعريب، وتفكيك أنظمة التدين الشعبي التي تنفرد بها البلدان وخلق نمط ديني موحد متزمت، يتحكم فيه دعاة وشيوخ جدد خارج الأقطار، ويوجهون ملايين الناس بافكار وتفسيرات دينية معينة تخدم توجهات الفكر الوهابي.
هذه النزعة الممولة للتحكم في الشعوب والانظمة، خلق اصطدامات كثيرة، أهمها الصراع الاماراتي السعودي مع قطر…والصراع السعودي الايراني والصراع الخليجي اليمني….الخ…وانتقل هذا الصراع إلى البلدان الأخرى، وجعلوا من ليبيا مسرحا له، ومن مصر مرتعا، ومن تونس قاطرة، وهكذا دواليك للوصول إلى الجزائر والمغرب والصحراء الكبرى…..
امتدادات الصراع معقدة ومتشابكة، السياسة، الاعلام، الثروات الطبيعية….ثم الرياضة. ولكن الثقافة هي الحلقة الأهم في هذه الخطاطة. كل هذه الأنظمة الخليجية التي تملك قدرات هائلة للتأثير والقرار والتعبئة والتجييش خارج الحدود، لها وسائلها الاعلامية القوية والمتطورة من شبكات القنوات المتعددة، ولها انصار واتباع في الأحزاب السياسية والتنظيمات والجامعات، ومراكز البحث ومجموعات التفكير، وتتحكم في الجميع عن طريق التمويل. كل هذا من أجل أهداف سياسية واقتصادية معروفة، ولكن في العمق هذا الدعم والاختراق يسعى بالاساس إلى ضرب الخصوصية المغربية التي تتمثل في الهوية الأمازيغية.
اليوم، يتضح في استدراج الفرق المغربية للانخراط والمشاركة في بطولة كرة القدم غير مصنفة دوليا وغير معترف بها من طرف الفيفا، وما واكب ذلك من حملة إعلامية، يتضح أن الهدف هو استغلال الكرة الاكثر شعبية واستغلال الجماهير الشعبية والشباب العريض جدا الذي يتابع هذه الفرق، والمنظم على شكل الالتراس المعروفة بانخراطها في السياسة عن طريق الاناشيد والشعارات المرفوعة… كما يظهر أن كرة القدم دخلت هي الأخرى في المنظومة الاستراتيجية الأنظمة البيترودولار للتغلغل في اوساط الشعوب…
ونسجل بأسف شديد، عدم احترام خصوصيات المغرب الثقافية واللغوية المبنية على احترام التعددية الثقافية والتنوع اللغوي الذي يزخر به المغرب، فالاستعمال المفرط لشعارات وخطاب اقصائي مثل “ديربي العرب” والبطولة العربية، الوطن العربي، العالم العربي، فيه استفزاز واضح لشعور وانتماء لعدد كبير من المغاربة.
يظهر الصراع السياسي بين قطر والامارات في صورة الصراع الاعلامي بين قطب البينسبوتس وابوظبي سبور لاكتساح فضاءات البلدان والشعوب…والضحية في شمال افريقيا هي اللغة والثقافة الامازيغيتين.
مشكلتنا هي أن هناك امازيغ ناطقون بالامازيغية لا يعلمونها لاولادهم وهذه اكبر كارثة.