لغة الأرض … ثقافة الأرض

بقلم: فريد المساوي
بقلم: فريد المساوي

بعد ندوة لغة الأرض المنظمة من طرف جمعية حب الأرض ( تايري ن واكال ) بتزنيت، هل يمكننا الحديث عن مفهوم ثقافة الأرض؟

أولا أود أن أثمن خطوة جمعية تايري ن واكال على اهتمامها بهذا الموضوع الهام والذي أولت له على ما يبدو اهتماما خاصا، تهدف من خلاله إلى التنبيه والتحسيس بأهمية العلمية المكانية أو ما يسمى بالطبونيميا، خاصة هنا في المغرب حيث أن التهميش الذي لحق بهذا المجال كانت له نتائج خطيرة جدا أدت إلى التأسيس لثقافة مؤسساتية مفارقة لثقافة الأرض والمجال والواقع المعاش.

العلمية المكانية:

لعل بداية الاشتغال على موضوع العلمية المكانية أو الطبونيميا في مجال جغرافي معين يكون أولا بالقيام بجرد وجمع أسماء الأماكن المتواجدة ضمن هذا المجال ومحاولة تقديمها بالتعريف بها بالبحث عن معاني لها، ابتداءا من المدلول اللغوي للكلمة، ثم الاصطلاحي ثم بعد ذلك محاولة البحث عن تاريخ وظروف إطلاق المفهوم على المنطقة حسب المعطيات المتوفرة، ولعل أهم ما ينبغي أن نركز عليه في مجال العلمية المكانية هو حفظ المعجم المكاني من التحريف أو الترجمة حتى لا يفقد حمولته الثقافية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالمنطقة، لقد سبق للحركة الأمازيغية بالمغرب أن نددت في عدة مناسبات بالحملة التي تستهدف تغيير أسماء الأماكن بتعريبها أو تشويهها أحيانا كتعريب أو تغيير قالب الكلمة فقط دون ترجمتها لغويا مما ينتج عنه أسماء لا معنى لها إلا كونها تطلق على منطقة كذا أو مدينة كذا ولكن التنديد والدعوة إلى الحفاظ على أسماء الأماكن كان ينظر إليه من زاوية سياسية مختزلة كما كانت نظرة النخبة والمؤسسات إلى مطالب الحركة عامة على أنها مطالب ضيقة مبنية على نزعة الإنتماء أو مدفوعة من الخارج لزعزعة وحدة الهوية، ولم ينظر إلى المسألة في جوهرها وما تشكله من خطورة، ولا إلى أهمية العلمية المكانية وارتباطها الوثيق بالنسق الثقافي العام للبلد.

لغة الأرض:

إن المقصود بلغة الأرض هنا هو ذلك الزخم الكبير من الأسماء والنعوت والصفات التي تطلق على الأماكن ومعانيها ومدلولاتها اللغوية والجغرافية والتاريخية، والتي ينبغي أن تجمع في إطار معاجم خاصة والتحسيس بأهميتها والحفاظ عليها والاهتمام بها بالجمع والتدوين وكذا بالدراسة والتحليل، وتشجيع الباحثين في شتى المجالات للبحث فيه، لأنه مجال تتقاطع فيه اللغة بالتاريخ والجغرافيا والسوسيولوجيا والدين وغير ذلك من التخصصات والميادين، ولكن اللغة تكتسي فيه أهمية بالغة ذلك أن أسماء الكثير من الأماكن تعرض للتحريف أو التغيير أو في أحيان أخرى حافظت على صيغتها الأصلية ولكن نجد أن الكلمة لم تعد مستعملة في الواقع مما يتطلب مجهودا وبحثا لإيجاد مدلولها ومعناها، إن لغة الأرض الأصلية في المغرب والتي لم تتعرض للتشويه أو التحريف هي اللغة الأكثر صدقا في التعبير عن الهوية الوطنية وهي المفتاح لحل وفهم الكثير من الألغاز المستعصية في تاريخ المغرب سواء القديم أو الوسيط أو الحديث مثلها مثل الحفريات واللقى الأثرية المادية التي تسلط الضوء على حقب التاريخ المنتمية إليها، وكذلك في مجال الجغرافيا مثلا فقد كنت أعرف أستاذا جامعيا من الذين انتبهوا لهذه المسألة دون أن تكون له علاقة بالحركة الأمازيغية فقد كان يؤكد أن على الأقل المصطلحات الجغرافية في المغرب كان ينبغي أن تدرس بلأمازيغية، فكان يقول إن القمة معناها إش وجمعها إشاون فالذي لا يفهم هذه الكلمة لن يعرف علاقة اسم مدينة اشاون بقمتي الجبلين المطلين عليها، كما قال يوما أن سفوح الجبال لابد من التمييز فيها جغرافيا بين السفح المشمس والسفح المظل، فإذا كانا في اللغة العربية كل منهما يسمى سفحا ولكن نضيف إليه الصفة التي تميزه مشمسا أو مظلا فإن في الأمازيغية لكل منهما اسما خاصا (أسمار) و (أمالو)، كان الهدف من ذكر هذه الأمور التأكيد على أهمية لغة الأرض في تقاطعها مع مختلف المجالات والدراسات الأكاديمية والأمثلة غير هذا كثيرة جدا، كما أود الإشارة إلى أن الاهتمام بلغة الأرض أو العلمية المكانية لا ينبغي أن يقتصر على المراكز الكبرى فقط والأماكن المعروفة كالمدن والقرى والوديان والسهول بل في القرية الواحدة والأماكن المحيطة بها من جبال وسفوح وسهول ومنحدرات نجد الكثير من الأماكن يسمى كل منها باسم خاص متميز وعريق وذو دلالة قد تكون لها أهمية كبرى لا ينبغي إغفالها.

ثقافة الأرض:

في كل منطقة وفي أي مجال جغرافي أردنا دراسته والاشتغال عليه في مجال الطبونيميا، نلاحظ أن الأماكن لا تحمل فقط أسماء ذات دلالات ولكن الأماكن لها ذاكرتها الخاصة، ولها ثقافة لصيقة بها ولها خصائص تميز كل منها عن غيرها، ابتداءا من الطبيعة الجغرافية كنوع التضاريس ونوع التربة والغطاء النباتي وغير ذلك، أو من الناحية التاريخية كوجود أثر أو خربة أو غير ذلك أو للمنطقة ذكر في مصدر أو كتاب معين، أو هناك موروث شفوي لدى ساكنة المنطقة مرتبط بالمكان سواء كان الموروث ذات طابع تاريخي كحكاية عن حدث في الماضي، أو أسطوري أو ديني أو به ضريح (سيدي فلان أو لالة فلانة) أو أن المكان تسكنه الجن أو غير ذلك، فهذه الأمور مجتمعة تشكل ما يمكن تسميته بثقافة المكان أو ثقافة الأرض، إن هذه الثقافة في الغالب ترتبط بالأسماء والأعلام المكانية ولا يمكن فصل المجالين العلمي (الإسمي) والثقافي في المكان، لأن كل منهما قد يكون موضحا ومفسرا للآخر، وإذا ما تعاطينا للكتابة والتدوين في هذا المجال، فإنه يمكننا جمع كم هائل جدا من المعطيات حول مكان صغير أو حيز جغرافي محدود، وتلك المعطيات ستكون لها أهمية بالغة تفيد الباحثين من الأجيال القادمة، كما سيكون تأكيدا لحضور واستمرار ثقافة الأرض وحفظها من الاندثار والضياع، كما ستكون، وهذا هو الأهم، أكبر عمل لخدمة وحفظ الهوية الحقيقية للبلاد لأنها هوية مرتبطة بتلك الثقافة اللصيقة بالأرض كالصخور الصماء التي ليس من السهل اقتلاعها أو تكسيرها، كما أن التفكير في تدوين ثقافة الأرض في المغرب ليس عملا سهلا بل هو عمل يتطلب الكثير من الجهد والتعاون والتشارك، ويتطلب إمكانيات هائلة جدا، ولكن إذا توفرت الإرادة على الأقل فكل يعمل ما يستطيع ويمكن مستقبلا المطالبة بتدخل المؤسسات الرسمية لدعم العمل في هذا المجال، والمطالبة بإحداث شعب في الجامعات وتشجيع الباحثين في مجال لغة وثقافة الأرض.

خاتمة:

إن الأرض لها لغة وثقافة مرتبطة بها أشد الارتباط لا يمكن لأحد أن ينكرها أو ينزعها عنها أو يعوضها بغيرها بسهولة، خاصة إذا نالت هذه اللغة والثقافة قسطها من الاهتمام والتدوين والحفظ، ولو تغيرت لغة الإنسان التي ينطق بها فإن لغة الأرض تستمر وتبقى، لأن لها جذور ضاربة عميقا في تربة الأرض وصخورها، ولكنها رغم ذلك فإنها في حالة الإهمال واللامبالاة والتواطؤ فقد يقع لها الطمس والاجتثاث، مما يتطلب منا أن نعي هذه المسألة ونفكر في الأساليب الكفيلة بحفظ ثقافة الأرض وضمان الاستمرار لها في عصر زحف الثقافة المعولمة حيث البقاء للأقوى ولا مكان للضعفاء، ولهذا فعلينا أن نولي ثقافة الأرض الكثير من الاهتمام والعناية، ابتداءا من الجمع و الجرد والتدوين كخطوة أولى موازاة مع التحسيس بقيمة هذا الموروث وأهمية الاحتفاظ به، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التحليل والنقد والدراسات المقارنة المبنية على ما تم جمعه وتدوينه.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *