لغة الموسيقى.. أغاني “نبا” و”لوناس” نموذجا

اللغة هي الملكة التي يتميز بها الكائن البشري ( الإنسان) عن باقي الكائنات الحية الأخرى، فالإنسان كائن عاقل، مفكر، قادر على التأمل، يتميز بجهاز رمزي يمكنه من التعبير عن أفكاره بواسطة مجموعة من الأصوات التي تجمع في كلمات لتشكل بدورها عبارات نسميها “لغة”. إنها مؤسسة اجتماعية ولا يمكن الحديث عنها بمعزل عن المجتمع. تؤدي اللغة وظيفة أساسية وهي خلق التواصل، لكن هذا لا ينفي عنها تأدية وظائف أخرى كالتعبير، التفسير، الإخبار، التأثير، إلى غير ذلك. فاللغة كما يقول “علي عبد الواحد وافي”:” نظام يشترك الأفراد في إتباعه، ويتخذونه أساسا للتعبير عما يجول بخواطرهم، وفي تفاهمهم بعضهم مع بعض”[1].

مما لاشك فيه أن جل الحضارات الإنسانية عرفت أشكالا موسيقية خاصة بها وهذه الأشكال الموسيقية توظف فيها لغتها في الغناء و ألحان بواسطة الآلات تعد بدورها موروثا لهذه الحضارات وفي هذا السياق قال “جو بارو”:” لقد وجدت حضارات بلا رياضيات، حضارات بلا رسم، حضارات حرمت من العجلة أو الكتابة، لكن لم توجد حضارة بلا موسيقى “. وبالتالي فالموسيقى خاصية إنسانية بامتياز رافقت الإنسان في مختلف مراحل حياته وتطوره لهذا نصادف أشكال موسيقية قديمة، كلاسيكية، و حديثة.

عرفت الحضارة الأمازيغية كغيرها من الحضارات أشكالا موسيقية متميزة، وهذا ليس بالأمر الغريب باعتبارها حضارة أ

فريقية تنتمي إلى البيئة الأفريقية التي تعتبر الموسيقى من المسائل الضرورية في الحياة، فتارة تكون هذه الموسيقى على شكل أهازيج حزينة تعبر عن حالة من الحزن و تارة أخرى تعبر عن فرح و سعادة. لعل من بين أهم الأنماط الكلاسيكية في الموسيقية الأمازيغية حاليا نجد: ( أحيدوس، أحواش، أورار، إزلان، وغيرها) و جل هذه الأنماط تعتمد على آلة طبلية باستثناء النوع الأخير الذي هو عبارة عن غناء غير مصحوب بآلة. و كانت أغلب المواضيع المعالجة ضمنها تصب في خانة الحب والفراق و اللقاء و غيرها من المواضيع المرتبطة بجانب المشاعر داخل الذات الإنسانية.

تتشابه أنماط الموسيقى الكلاسيكية الأمازيغية لأنها تعتمد في الغالب على الآلات الطبلية و ناذرا ما يتم توظيف الآلات الوترية ك”الرباب” مثلا، غير أن الموسيقى الأمازيغية الحديثة أصبحت تعتمد بشكل كبير على الآلات الوترية stringed instruments ؛ أي “الآلات التي يصدر فيها الصوت باهتزاز أوتار مشدودة إليها”[2]، مثل:( القيتارة ، الماندول، الكمان،…)، إضافة إلى آلالات أخرى كالبيانو.

ليست نوعية الآلات الموظفة في الأغنية الأمازيغية فقط التي تغيرت بل حتى المواضيع المتناولة، فقد انتقلت من الجانب النفسي العاطفي إلى الجانب الاجتماعي المرتبط بالحياة السياسية وبالنضال السلمي، فأصبحت سلاحا يخترق ما لا تستطيع قوة الرصاص اختراقه، ولغة تفهمها مختلف شرائح المجتمع. ومن بين مبدعي الموسيقى الأمازيغية نجد: معتوب لوناس، إيدير، مبارك أولعربي، مجموعة إزنزارن، تابعمرانت، عموري مبارك، مجموعة تيناريون) وكل مبدع من هؤلاء يتميز عن غيره بأسلوبه و بنوعيته اللغوية الموظفة في الغناء، وهذه الأخيرة لها دور كبير في التحكم في المقاطع الموسيقية وكذا في حركة الحرف الأخير في كل مقطع؛ فالنوعية اللغوية( تقبايليت) التي يوظفها ” معتوب لونيس” و ” إيدير” لها تأثير على نمطهما الموسيقي الذي يتسم بالسرعة على عكس النمط الموسيقي الذي يؤديه ” مبارك أولعربي” ذو النوعية اللغوية ( تمازيغت) التي تفرض عليه أن يتثاقل  نوعا ما في الأداء نفس الشيء ينطبق على نمط مجموعة تيناريوين ( النوعية اللغوية التارقية).

سنكتفي في هذه المقالة بنمطين موسيقيين فقط هما النمط الموسيقي الخاص ب ” مبارك أولعربي” والنمط الموسيقي الخاص ب ” معتوب لونيس”.

يسمى النمط الموسيقي الذي يؤديه ” مبارك أولعربي” ب”أمون ستيل” يجمع فيه بين مجموعة الآلات الموسيقية أهمها:( الگيتار، البيانو، الأرمونيكا، الطبل،…) و يؤدي بنوعية لغوية تسمى ( تمازيغت) وهي أحد الفروع الجهوية الثلاثة للأمازيغية بالمغرب. في حين يسمى النمط الموسيقي الخاص بمعتوب لونيس ب ” الشعبي الأمازيغي” يجمع فيه كذلك بين العديد من الآلات الموسيقية تضاهي ما نجده في ” أمون ستيل” إضافة إلى آلة تسمى “الماندول” وهي عبارة عن آلة وترية. أما النوعية اللغوية التي يستعملها “لوناس” فهي ( تقبايليت) وهي نوعية متحدثة في منطقة القبائل بالجزائر.

قد لا تختلف كثيرا الآلات الموظفة في “أمون ستيل” عن الآلات الموظفة في ” الشعبي الأمازيغي” كما أن المواضيع المتناولة في النمطين قد تكون قريبة من بعضها مما يجعلنا أمام فرضية التشابه بين النوعين، لكن اختلاف النوعيتين اللغويتين في اللكنة أساسا وفي بعض البنيات المقطعية يجعلنا أمام فرضية الاختلاف بين النوعين. وفيما سيأتي سنورد مثالا تطبيقيا لنعرف من منهما الأصح؛ حيث سنستحضر في هذا الصدد مقاطع من أغنية ( Tabrat i ubama) أي؛ “رسالة إلى أوباما” لمبارك أولعربي و مقاطع من أغنية (Monsieur le president)؛ أي ” سيدي الرئيس” لمعتوب لونيس” و سنعمل على عقد مقارنة بينهما.

من خلال العنوان يتضح أن الأغنيتين هما رسالتان أحدهما موجهة إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ” باراك أوباما” و أخرى موجهة إلى رئيس الجمهورية الجزائرية، ومحتوى الرسالتان يتشابه كذلك فهو عبارة عن سرد لمسلسل المعاناة والقهر.

يقول مبارك أولعربي:

–      Amɣnas gubniq iɣmelالمناضل قابع في السجن

–      Tarwanɣ muten sudfal  و أبنائنا يموتون تحت الثلوج

–      Tidit n wi tedrɣal حقيقة هؤلاء حولاء

–      Nger aɣuyi ar agdalصرخنا فوصل صرخنا إلى أكدال (عاصمة المغرب)

–      Adasin aqryan ungal لكي يحملوا عنا القهر الأسود

–      Yaɣi uyas i listiqlal أنا متشوق إلى الاستقلال

يقول معتوب لونيس:

–      Tamtut iw n lehlal  إمرأتي الكريمة

–      Wissen kan ma d temmekti  ترى هل ستتذكرني

–      Ad asen sxerbeɣ lečɣal سينسون أعمالهم

–      Ad asen yeɛreq wawl وسيضطرب كلامهم

–      Taggara ma nemyeɛqal في الأخير سيتعرفون علي

–      Taddart ad tɛjel ɣuri و كلهم سيهرولون باتجاهي

بتأملنا للمقاطع نستخلص أن الحرف الأخير فيها يكون ساكنا باستثناء مقطعين، والسكون يقتضي الثقل وهو ما نلمسه في مقاطع أغنية ” مبارك أولعربي”؛ حيث يقف على الحرف الأخير لكن مقاطع أغنية ” معتوب لونيس” فيها نوع من التسارع بالرغم من كون الحرف الأخير فيهما هو نفسه ( حرف اللام). والسبب في اعتقادي راجع إلى النوعية اللغوية ( تاقبيليت) نظرا لأن لكنتها ذات طابع حركي أكثر من اللكنة الخاصة ب ( تمازيغت)، وهذا ما يظهر اختلافا طفيفا في إيقاع الأغنيتين. هكذا إذن يتضح لنا أن الاختلاف بين مقاطع الأغنيتين ليس سوى اختلافا في النوعية اللغوية الموظفة رغم إيماننا بأن الاختلاف بينهما مرتبط فقط باللكنة وبعض الفونيمات.

إن الموسيقى كما يقول “هندمت” مهما كان الصوت والبناء اللذان يفترضانها، تبقى محض ضوضاء لا معنى لها، ما لم تمس العقل. فأغاني “نبا” و “معتوب” بالرغم من اختلافها من حيث النمط إلا أنها تشترك في خاصية تتجلى في كونها تخاطب الإنسان الأمازيغي وتمس عقله وتسعى إلى توعيته بذاته وهويته ولسانه، كما أنها تحاول الوقوف ضد الظلم والقهر والاضطهاد الذي تتعرض له جميع الشعوب التواقة للتحرر.

شاهد أيضاً

جمعية “سكان جبال العالم” تطالب بتسريع بناء مناطق الأطلس الكبير المتضررة من الزلزال

جددت جمعية “سكان جبال العالم” فرع المغرب، هياكلها خلال الجمع العام العادي الذي نظمته بمدينة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *