ما هو محدد “العقل السياسي” في تامازغا؟

د. عبدالله الحلوي

الحراك الريفي يدعونا اليوم ليس فقط لفهم محدّداته ( = العوامل الأساسية التي تسببه بشكل متضافر) ولكن أيضا لفهم محددات “العقل السياسي” الذي يؤسس للأداء السياسي لجميع عناصر الصراع فيه.

سنة 1989، كتب محمد عابد الجابري واحدا من أهم كتبه وهو “العقل السياسي العربي”. كان هدف الجابري من هذا الكتاب أن يفهم كيف تشكلت بنية العقل السياسي الإسلامي (الذي كان يسميه “العربي”) وأن يرصد المحددات التي ساهمت في تشكيل هذا العقل. الخلاصة التي خرج بها الجابري أن “العقل السياسي العربي” الذي كان ولا يزال يحكمه الإستبداد والفساد والريع تشكل بفعل تضافر ثلاثة محددات وهي: “الغنيمة” (الصراع على الغنائم والأنفال وشكل توزيعها)، و”القبيلة” (الصراع بين عرب بني أمية و”الشعوبيين”) و”العقيدة” (الصراع العقدي خصوصا بين السنة والشيعة).

الأطروحة العامة للجابري وتفاصيل الإلستدلال عليها من خلال كم هائل من النصوص مهمة ولكنها لم تتح للنقاش العمومي في المغرب بعد. إلا أن هناك نقطتي ضعف أساسيتين في هذه الأطروحة وما يتعلق بها من تفاصيل:

أولاها ــ أن الجابري لم يكن يتعامل مع المعطيات الإثنوغرافية والإسطوغرافية المباشرة (كما فعل المؤرخون الأنتروپولوجيون الكوليانيون وما بعدـ الكوليانيين) بل كان يدرس “العقل السياسي الإسلامي” كما كان يظهر في خطاب الثقافة العالمة. من نتائج هذا المقاربة “الخِطابية” discursive (التي تنطلق من خطاب الثقافة العالمة) أن كل المحددات التي تحدث عنها الجابري تدور حول “الأمير” وبلاطه ولم تستطلع دور “الهوامش الحية” dynamic residues التي تصنع التاريخ الحقيقي.

ثانيها ــ أن الجابري اغترب في فهمه ل”العقل السياسي الإسلامي” في الشرق وامتداداته داخل بلاد تامازغا (“شمال إفريقيا”). فكان من نتائج هذا الإغتراب الجغرافي أن الجابري لم يرصد أهم محدد من محددات “العقل السياسي” الأمازيغي وهو صراع القبائل الأمازيغية (ما يسميه المؤرخون الممخزنون ببلاد “السيبة”) و كنفردلياتها الكبرى، من جهة، وسلطة المخزن من جهة أخرى.

ففي إطار هذا الميكانيزم الصراعي الأساسي يمكن فهم الدور الذي لعبه جيش التحرير في مقاومة لإستعمار، وإنشاء أحزاب ممانعة ل”حزب الإستقلال”، وظهور الحركة الأمازيغية، وأخيرا اندلاع الحراك الريفي وامتداداته. فالقدرات الإنتاجية للمجتمع الأمازيغي واستقراره العقدي النسبي جعلاه في أغلب الأوقات بعيدا عن الصراع على “الغنيمة” و”العقيدة” … المحدد الأساسي للأداء السياسي والفعل الصراعي للعقل الأمازيغي كان ولا يزال محددا بعلاقته المتوترة مع المخزن.

لذلك فإن الأيديولوجية السلطانية سمّت كل المناطق المحيطة بمعاصمتها التاريخية مراكش ب”الحوز” (ما بين الأطلس الكبير ونهر تانسيفت)، هذا المصطلح الغريب على الحضارة الأمازيغية الذي لم يظهر إلا في القرن السادس عشر الميلادي. ف”الحوز” هو كل “ما يحوز عليه المخزن” من ” أرض السيبة” التي تحيط بالمركز “الإمپريالي” المخزني. لذلك كان بعض المؤرخين القدماء يتحدثون عن “مسالك مراكش” أي الطرق التي تمتد من القصر إلى أبواب المدينة المؤدية إلى حيث القبائل. فالمدينة السلطانية في تصورهم الممخزن مجرد “مسالك” تربط بين القصر و”الخلا” الذي ينبغي إخضاعه بالقوة العسكرية.

فلم يسبق للعقل الأمازيغي أن اعترف بالتعارض بين المركز و”الحوز” لأن تعارضه الأساسي كان تعارضا طبيعيا بين “أدرار” وأزاغار” فقط.

المحدد الأساسي للعقل السياسي في أرض تامازغا هو الصراع التحرري للقبائل الأمازيغية مع كل من يقيد حريتها سواء كان الإستعمار الفرنسي أو المخزن … هذا هو الإطار الذي ينبغي أن نفهم فيه الحراك الريفي.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *