تحت عنوان “”مجلس الدولة تكريس للأمن القضائي ضد تعسف الإدارة “” نشرنا مقالا في بحر شهر يونيه 2019 ، أي شهران قبل تسريب مسودة قانون المالية، وقبل تفعيل إجراء التعديل الحكومي بعلة ” الكفاءات “، وقد جاء في المقال بأنه من أكبر العيوب أن يكون المغرب، بعد مصر والجزائر والكويت و دول أخرى عربية، آخر من ينشئ مجلس الدولة كأعلى هيأة قضائية للبت في الطعون المقدمة من أجل النقض، في مواجهة القرارات القضائية الصادرة عن محاكم الإستئناف الادارية ، فكيف يمكن تطوير القضاء الإداري في مجال الحريات وحقوق الإنسان، والغرفة الادارية لدى محكمة النقض هي التي تتولى مهام البت في طلبات النقض ؟
كيف يعقل أن تظل الأمانة العامة للحكومة هي الرقيب التشريعي الوحيد للقوانين ، والحال أنه بإمكان مجلس الدولة أن يلعب هذا الدور الاستشاري المهني والمتخصص بحكم عضوية قيدومي القضاة المتمرسين ، فالقضاء الاداري ، بطبيعة تشكيله وتكوين قضاته ، عبر جميع اسلاكه ، قضاء مهيكل / انشائي ، يساهم في خلق قواعد القانون العام المتميزة عن القواعد العادية في ظل القانون الخاص ، كما هو محصور لدى قضاة الجنحي والجنائي والمدني.
لقد سبق للملك محمد السادس في خطابه خلال افتتاحه لأول سنة قضائية بعد توليته للعرش ، يوم 15 دجنبر 1999; أن طالب بالعمل على تأسيس مجلس الدولة ، بغض النظر عن حاجة القضاة أنفسهم لهيأة عليا يطعنون أمامها في المقررات التأديبية ،المتعلقة بوضعيتهم الفردية ، بحكم أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية لا يمكن ان تبت في الطعون المرتبطة بالقرارات الصادرة عنه ، كخصم ،حكم في نفس الوقت ،وتساءلنا عن الموعد الذي سترى المبادرة النور ، بعد أن فاتت الفرصة في خضم ازدهار اللحظة الدمقراطية خلال ورش اصلاح منظومة العدالة المفتوح ؟
يزعمون ان الوقت غير ملائم وأن المطلب يقتضي الدسترة بتعديل النص ، وأن عدد القضايا لدى القضاء الاداري قليلة ولا تتطلب انشاء كل هذا المجهود الكبير من اجل مؤسسة دستورية .
كل هذه مبررات لا تنهض حججا مقنعة، فهي بمثابة التعليل الناقص الموازي لانعدامه، والموجب لتأكيد حقيقة نوايا ضمنية لتراجع إرادة مقاومة شطط الدولة وموظفيها وتعسفهم في استعمال السلطة والقوة والقانون، مما يهدد مصداقية خطاب المفهوم الجديد للعدل والذي تأسس في بداية العهد على المفهوم الجديد للسلطة كمدخل اساسي لتفعيل المشروع الدمقراطي الحداثي ، وفي مقالات ذات الصلة ركزنا على أن العملية السياسية التي رافقت العهد الجديد استنفذت دورتها ، وقد حان الوقت لبلورة جيل جديد من الإصلاحات ، في إقرار الدولة في شخص رئيسها الدستوري بفشل النموذج التنموي، والذي يبدو عنوان اختلالاته بارزة اساسا في الفساد المستشري وعدم تفعيل مبدأ المحاسبة والمساءلة بما يكفي، كما يستدعي تعميق الاصلاح في آليات الحكامة والعدالة، ولأن المناسبة شرط فإنه يلاحظ بأن السلطة التنفيذية تتعسف في احتكار العملية التشريعة ، رغم ان الدستور تبنى النظام البرلماني، بما يعني من احتكار البرلمان للتشريع ضمن مجال القانون.
وطبعا قد يقال بأن المحكمة الدستورية تمارس رقابتها ، غير ان هذه الرقابة تكون لاحقة او بعدية ، ويستغل عامل الضغط الزمني في بناء مساومات وتسويات، سياسوية احيانا ، تؤثر على جدوى وجودة النصوص ، ناهيك عن الارتباك وفوضى التشريع والاحراج الحاصل للدولة والمس بهيبتها وسيادة القانون ، ومن خلال تنازع الاختصاصات بين السلط ، يفرغ مبدأ فصل السلط واستقلال بعضها عن بعض من محتواه، وهذا يقتضي أن تمتلك السلطة التنفيذية، برأسيها ، كامل النزاهة الفكرية والشجاعة المعنوية لتفعيل روح الخطاب الملكي ليوم 15 دجنبر 1999، وذلك بإنشاء مجلس الدولة ، ليس فقط كهيئة قضائية عليا ، ولكن كمستشار قانوني سامي للدولة ومؤسساتها ، العمومية والحكومية والوطنية ، على رأي الحكيم القانوني الدكتور عبد الرزاق السنهوري.