لقد مات محمد جسوس (7 فبراير2014)، ويمكننا أن نطلق عليه شهيد علم الاجتماع بالمغرب، ومن المخجل لدعاة الحرية بالمغرب أن يكون لهذا العلم ضحايا وشهداء، كان منهم عبد الرحمان ابن خلدون الذي هرب من المغرب خوفا من القمع في ظل دولة المرينيين ومات بتركيا، ونتذكر منهم Paul Pascon (عالم مغربي من أصل فرنسي اختفى في موريتانيا أثناء قيامه بدراسة ميدانية) وجسوس قد التزم بهذا العلم الذي تخصص فيه ونال به درجة الدكتوراه في وقت لم يكن المغرب يتوفر على دكتور واحد في هذا العلم (سنة 1969)، ونقصد بالالتزام أنه لم يخرج عن اختصاصه في ميدان التأليف والنشر كما فعل مثلا دكاترة علم التاريخ الذين خرجوا إلى الروايات والقصص مثل عبد الله العروي وأحمد توفيق وأساتذة العلوم الطبيعية الذين انسحبوا إلى صف الوعاظ والدعاة الدينيين….، ولم يخرج إلى الشعر والفنون الأدبية كما فعل عبد الكبير الخطيبي، ولم يخرج إلى الفلسفة والايدولوجيا ومنافسة الفقهاء في تفسير القرآن كما فعل محمد عابد الجابري وعبد الله العروي…
مناسبة كتابة هذا المقال هي كوني حضرت لقاء تأبين محمد جسوس (18 فبراير 2014) بمدرج الإدريسي بكلية الآداب بالرباط، ولاحظت على تدخلات الذين تكلموا في لقاء التأبين غياب منهج المقارنة بين محمد جسوس وغيره ممن ينسبون أنفسهم إلى علم الاجتماع في المغرب، أومن يعرفون بكونهم اختصاصيين في فروع العلوم الإنسانية، والعلوم الاقتصادية والسياسية، وكان لابد من إنصاف محمد جسوس من طرف الآخرين، وأعني أبناء وبنات الشعب المغربي، الذين لم يحضروا تأبين محمد جسوس لأنهم يمتنون له بالإشراف على شهاداتهم الجامعية، ولا كانوا تلامذته في الكلية منحهم وقته في الكلية وفي بيته بحي الرياض بالرباط…، ولا ينتمون إلى نقابته المهنية ولا إلى حزبه السياسي، ولا مكنهم من النجاح في مباريات الدخول إلى سلك الأساتذة المساعدين بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، وإنما يعجبهم مسار محمد جسوس في حياته والتزامه بمبادئه، وقلت بضرورة إنصاف الرجل، لأظهر أنه كان مظلوما من طرف السوسيولوجيا المنتمية للثقافة الفرنسية والثقافة العربية الإسلامية معا، لأنه كان ينتمي الى الثقافة الأمريكية المعتمدة على اللغة الانجليزية، مع أنه لم تكن تنقصه الثقافة الفرنسية والعربية وكان مهمشا من طرف لوبيات الثقافة العربية المشرقية التي تستهوي بعض مفكري المغرب وتغريهم بالمال والجاه..وتمنحهم الجوائز والإكراميات…وتنفخ شهرتهم وهو ماجعل مؤلفاته ومحاضراته لم تلق التشجيع في النشر مثلما لقيته كثير من توافه المؤلفات التي أنفقت عليها المطابع المخزنية والحزبية بمختلف انتماءاتها.
كما لاحظت أن بعض المتدخلين في لقاء التأبين وصفوا محمد جسوس ب”الزاهد” وربطوا مصطلح” الزهد “بكونه لم يكن يتهافت على مناصب الإدارة المخزنية، ولا يتقرب إلى السلطات، فهو لم يعين سفيرا ولا وزيرا ولا عميدا لأية كلية ولا رئيسا لمؤسسة مخزنيه كما (كما فعل معاصره محمد عزيز الحبابي وتلميذته رحمة بورقية مثلا، وبنعمور، والعلمي الحليمي، ومحمد الطوزي والكثيرون) ولا رئيسا لأية جامعة، حتى عندما كان يتولى المناصب وزراء بإمكانهم تعيينه مثل الحبيب المالكي وإسماعيل العلوي، وفتح الله والعلو، واليوسفي. وعبد الرحيم بوعبيد. ولابد من تفسير الزهد حسب ذهنية الذين روجوه بكونه وصفا قدحيا لايليق برجل ذي مبادئ، لأن الزهد هو وصف يتعلق بالصوفية والسذاجة، ولايمكن استعماله في وصف متخصص في علم الاجتماع، ولكي لا يقولوا بأنه لم يكن انتهازيا يبيع ثقافته وعلمه وضميره للمخزن ولا لفرنسا، ولا لأثرياء البترول مثل مافعل الكثيرون من زملاء محمد جسوس في الحزب والجامعة الذين حضروا مراسيم دفنه ولقاء تأبينه ( للتوضيح فقط حضر الحبيب المالكي، وفتح الله والعلو، وإدريس لشكر، والعربي عجول، وأمينة بوعياش، وخديجة محسن، ومحمد اليازغي، ومحمد الأشعري وغيرهم كثير.(..
محمد جسوس سئل ذات يوم وهو يتلقى أسئلة الحاضرين بإحدى دورات جمعية الجامعة الصيفية بأكادير (أظن سنة 1985) هل اسمه العائلي يعني بالأمازيغية gususأي ألسوسي، فقال متواضعا أنا من فاس ومنحدر من عائلة أندلسية كان أحد أجدادي جاسوسا، وكان من منهجيته أنه كان لا يخجل من الحقائق الاجتماعية، يحرص على استعمال الدارجة في محاضراته وهو سباق إلى تطبيق التدريس وإلقاء المحاضرات بالدارجة عن وعي، ويمكن أن يعتبر نموذجا لمثقف رفيع المستوى لم يكن يتعالى عن الجماهير المغربية باستعمال العربية الفصحى والفرنسية التي لايفهمونها، كان أغلب المتدخلين في لقاء التأبين يعبر عن كون محمد جسوس كان يمكن أن يحصل على كثير من الامتيازات السياسية والمناصب والأموال التي حصل عليها من هم أقل منه علما وثقافة ونضالا سياسيا، وهو ماكان يقلق زملاءه الذين لم ينافسهم في ميدان الانتهازية وسقطوا معنويا أمام مغريات السلطة والمال، وأشفى غليل هؤلاء الانتهازيين متدخل في التأبين وصف محمد جسوس ب”السياسي الفاشل” لكونه لم يستعمل المكر والدهاء السياسي الذي استعمله سماسرة الثقافة والانتماء الحزبي والنقابي..
كانت تربية وتكوين محمد جسوس في الكتاب القرآني بمدينة فاس، وتلقيه التعليم في المدارس العصرية التي فتحتها فرنسا في المغرب ومدرسة أبناء الأعيان التي تخرج منها كثير من السياسيين والأطر المعاصرين لمحمد جسوس في شبابه(مثل محمد شفيق، ومحمد بوستة، ومحمد الفاسي، وعبد المالك اوسادن، وغيرهم) تتطلب أن يستكمل ثقافته بفرنسا ويصبح ملتزما الفرنكوفونية كما فعل الكثيرون من تلامذة التعليم والتكوين الفرنسي (بنبركة، رضا كديره، اليوسفي، عبد الله إبراهيم، احمد العلوي،…) لكنه اختار الدراسة بالولايات المتحدة (جامعة PRINCETON) وكندا (جامعة (Laval ربما بتشجيع من مركز تومليلين Toumliline بأزرو الذي كان يسيره مفكرون وملتزمون بالعمل الخيري للمسيحية ووجهوا هذا المفكر لعلم الاجتماع وأهدوه للشعب المغربي (للتذكير فقط فان السلطات المخزنية رحلت رهبان توملييلين وانتقلوا الى الجزائر وهم الذين قتل منهم الإرهابيون اثني عشر المعروفين بمذبحة الرهبان في الجزائر.(
أشار جل المتدخلين إلى كون محمد جسوس عاش قلقا سياسيا بسبب علم الاجتماع الذي لا يجد له صدى وترحيبا لدى التيارات السياسية المسيطرة على الميدان الثقافي والسياسي والمعتقدات الدينية بالمغرب، ويوضح ذلك أن علم الاجتماع كان علما مقموعا في سنوات الرصاص، ولم يتم إنصاف هذا العلم ولا المصالحة معه، فمثلا هو علم يدرس الأديان والمعتقدات والمقدسات كظاهرة اجتماعية.
وأتذكر أن محمد جسوس كان يفسر سياسة الحسن الثاني حول السدود Les barrages ويتصورها سدودا سياسية في سنوات بداية السبعينات من القرن الماضي، وأهمها هو سد باب التعليم الابتدائي على الأطفال الذين تتجاوز أعمارهم ثماني سنوات، وكان أول منظر سياسي مغربي يطرح مشكلة الزبونية في الإدارة المغربية.