يرجع الدكتور و الدبلوماسي المغربي علي أومليل بروز تيار الإخوان المسلمين بمصر كردة فعل لشعور الفقيه بفقدانه للسلطة السياسية و وضعه الهامشي في سلم الترتيب الاجتماعي بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية، لكن مع الأحداث وما أفرزته حركة المجتمعات و التحولات السياسية التي أحسن الإسلاميين استغلالها و تمكنوا من الوصول إلى أعلى مراتب السلطة في العديد من الدول بعد انتفاضة الشعوب بشمال افريقيا و الشرق الأوسط سنة 2011، حيث جمع الفقيه بين “السلطة العلمية” و السلطة السياسية.
لكن سرعان ما لفظت كراسي المناصب العليا الفقيه إلى ما دون المكانة التي كان عليها قبل 2011 لكونه فقد السلطة السياسية و فقد أيضاً مناصريه، هنا كانت انطلاقة ما سميناه بمحنة الفقيه المجهول مصيرها الفكري و مستقبلها السياسي. في هذه المقالة سنحاول التطرق إلى أهم الأخطاء و المنزلقات، الابستمولوجيا منها خصوصاً، التي عجلت بسقوط الإسلاميين و فشلهم في تدبير الشأن العام.
لن اتردد في التصريح أن السبب الرئيسي الذي وقف وراء ما وصلت إليه أحزاب الفقهاء هو تشبتهم بالنص الديني الثابت، وجعل ما هو ثابت يحكم المتغير الاجتماعي فيضبطه و يوجهه وبالتالي يحكم عليه، إذ يعتبرون القرآن هو المعيار الحاكم لمختلف مناحي حياة الفرد في علاقاته سواء بالمجتمع أو بالدولة، فرغم تسلّم الفقهاء السياسيين بأن الواقع الاجتماعي أوسع من النص القرآني المحدود إلا أنهم احكموا بأن هذا الاتساع ينبغي أن يضبط باستمرار عبر آليات وضعهوها لهذه الغاية ومن أبرزها آلية القياس، أي قياس ما لم يورد فيه نص على ما ورد فيه، وهكذا أراد الفقيه أن يؤمن لنفسه و يحتكر السلطة العلمية لوحده باعتباره من أهل الاختصاص و ممن له الحق دون غيره في الوراثة الشرعية الدينية و التكلم باسمها. هذه السلطة الدينية الثابتة بنص محفوظ و المهيمنة على واقع متعدد و متغير و شعوب و لغات و عصور مختلفة تمتد معها سلطة الفقيه على المجتمع و تبرز أهميته و مكانته داخله.
لكن ما أغفله الفقهاء السياسيين و أكدته تجربتهم السياسية القصيرة أيضاً أن منهاج القياس هذا الذي وضعوه ليس بمنهج علم المجتمع و السياسة كما عبر عنه ابن خلدون في كلامه هذا:”العلماء-أي الفقهاء- من بين البشر أبعد الناس عن السياسة لأنهم يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن ولا تصير بالجملة مطابقة للواقع”، وبهذا نجد الفقيه دائما على المستوى السياسي خارجا عن نطاق خبايا و قواعد علم السياسة، بل بعيداً أيضاً عن حركة التاريخ و المجتمع و لما وصل إليه العلم و تصنيف نتائجه ضمن البدع التي ينبغي نبذها.
تعد أزمة النص الديني و أزمة العقل الذي يقرؤه ما جعل الإسلاميين يخلفون وعودهم التي قطعوها مع الناس بل و تخلوا حتى على ما اعتبر في صلب خطابهم. فاللغة العربية كانت هويتهم السياسية و الثقافية و التي يحشدون بها آلاف الأنصار ،وفي عهدهم بالمغرب ثمة العودة إلى فرنسة العلوم، و الصراع العربي- الإسرائيلي كان قضيتهم الأولى وهم الذين وقعوا بأيديهم على اتفاقية تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل . كما أن محاربة الفساد كان هو شعارهم الإعلامي وفي ولايتهم الحكومية تغلغل الفساد أكثر، أما قضايا الحريات الفردية فكانوا يقفون ضدها ليصيروا في عهدهم أبطالها الرئيسيين من ربط علاقات جنسية خارج الزواج إلى غيرها من القضايا، وذلك كله معروف لدى الجميع و متداول في مختلف المنابر الإعلامية حينها، ومعه فشل الفقيه فشلا ذريعا في إثبات أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان كأبراز الأدوار المنوطة بالفقيه.
بالإضافة لما سلف ذكره، نذكر أن السلطة أيضاً نجحت في إبعاد عامة الناس عن نفوذ هؤلاء لأن العامة كانت قريبة من الفقهاء اكثر من أي فرقاء آخرين في العديد من القضايا بحكم البنية الفكرية السائدة من سياسة التعريب و نشر الاسلام المشرقي المتشدد و المتطرف عوض الاسلام المغربي الأمازيغي المنفتح و المتسامح و اللين جداً مع قضايا المجتمع.
لذا قد يكون من السخرية المساءلة حول إمكانية عودة الفقيه إلى التمسك بالمناصب العليا مرة أخرى رغم ما تحاول زعامة العدالة و التنمية أن تقدمه من نقد ذاتي لكي تظهر للعامة من الناس و للدولة أيضاً ارتدادها عن اعتقادها السابق، كما أن نزع اللباس العصري و ربطة العنق و العودة إلى الجلباب و الاتكاء حول العصا لن يغير في محنة الفقيه شيء.