نص المداخلة التي تشرفت بقراءتها يوم أمس الأحد 16 فبراير 2020، بمعرض الكتاب في الدار البيضاء، لتقديم إحدى الإصدارات المهمة التي خرجت إلى المكتبات على التو، ويتعلق الأمر بمذكرات كريستيان هويل “مغامراتي المغربية”، ترجمة الدكتور عبد الرحيم حزل.
كريستيان أويل هو في الأصل صحافي، عسكري وكاتب فرنسي، كان مولده أواخر ق.19، هاجرت أسرته إلى الجزائر وهو لم يتخط بعد سن الست سنوات. وقد مكنته الإقامة بين ظهراني الجزائريين من معرفة غير يسيرة باللغة العربية الدارجة. وعلى هذا الأساس، ستكلفه صحيفة “لوماتان” وصحيفة “لا ديبيش
ماروكان” للعمل كمراسل لهما من أجل تغطية الأحداث الدامية التي كانت مسرحا لها مدينة الدار البيضاء سنة 1907.
بهذا، يكون هويل أول صحفي فرنسي يحل بالمغرب، حيث كان نزوله أولا بمدينة طنجة، ومنها سينتقل عن طريق البحر إلى الدار البيضاء يوم 30 يوليوز 1907، لتغطية أصداء تلك الأحداث الدامية، التي تمثلت في مقتل تسعة من عمال المرسى الأجانب، وما رافقها من هجوم قبائل الشاوية على مدينة الدار البيضاء، واستهداف الملاح وممتلكات الأجانب.
تحصن كريستيان هويل بقنصلية فرنسا، بمعية الفرنسيين وبعض أفراد الجاليات الأخرى الذين التجأوا إليها، للاحتماء من هجمات قبائل الشاوية، وكان يقتنص بعض فترات الهدوء ليكتب مراسلاته إلى الصحيفتين المذكورتين، خصوصا فيما يتعلق بنزول القوات العسكرية الفرنسية بمدينة الدار البيضاء تحت قيادة الجنرال درود، والهجمات التي قام بها خلفه الجنرال داماد على قبائل الشاوية.
وقد وجد نفسه منغمسا في أتون الصراعات المتعددة الأطراف: ما بين القوى الغازية وقبائل الشاوية؛ والقوى الأجنبية نفسها، لا سيما الفرنسية الألمانية؛ و”الحرب الأهلية المغربية”، كما تطلق عليها الأبجديات الأجنبية، ما بين الأخوين مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ. وهذا ما دفع به إلى الاتصال بصناع القرار المغربي، كوزير فرنسا المفوض أوجين رينو، والسلطانين المتناحرين، والمدني الكلاوي، وزعماء المقاومة لقبائل الشاوية: الطيب البوعزاوي وعمر السكتاني، والمفوض الألماني الدكتور هولتسمان، ثم المقيم العام الجديد هوبير ليوطي، وخلفه ثيودور ستيك.
لعل من أهم أسباب القوة في مذكرات كريسنيان هويل، أنه وجد نقسه قد تحول من صحافي، المهمة التي أتى من أجلها إلى مدينة الدار البيضاء، إلى منحرط في أتون الصراع الذي جمع في حينه بين قوات مولاي عبد الحفيظ والقوات الفرنسية بقيادة الجنرال داماد؛ إذ بعد حصوله، في إطار عمله كصحافي، على مقابلة مع مولاي عبد الحفيظ، سيجد نفسه وقد تحول إلى وسيط بينه وبين قيادة القوات الفرنسية في طلب الهدنة؛ ثم إلى وسيط ما بين السلطان مولاي عبد الحفيظ والإدارة الفرنسية. هذه الوساطة التي تحولت، من مبادرة شخصية منه، إلى ما يقرب من التكليف من السلطات العسكرية الفرنسية، قد جلبت إليه المتاعب، وكادت أن تهدد حياته في عدة مناسبات من لدن الطرفين الفرنسي والمغربي، بفعل تهمة الخيانة والعمالة للجانبين معا.
سيحن كريستيان هويل إلى العمل الصحفي عبر مبادرته إلى تأسيس أول صحيفة فرنسية تصدر في المغرب، وهي “لا فيجي ماروكان”، حيث أراد أن يجعلها لسان حال المجتمع البيضاوي الفرنسي الناشئ، والتعبير عن المصاعب التي يواجهوها جراء سياسة إدارة الحماية، الشيء الذي عرضه للطرد من المغرب ثلاث مرات، اثنتين بقرار من ليوطي، والثالثة خلال فترة ثيودور ستيك، مما عرضه إلى ضائقة مالية خطيرة، لدرجة عدم تمكنه من توفير المأكل والإيواء، بل وصل به العوز إلى درجة عدم تمكنه من توفير الدواء لزوجته، وتلك كانت ضرائب مبادئه التي آمن بها كصحافي مؤمن بقضايا المجتمع.
أصدر كريستيان هويل مذكراته سنة 1954، أي عقودا خمسة على حلوله بالدار البيضاء سنة 1907. وقد أتاح له هذا التأخر إمكانية الاطلاع على مؤلفات مجايليه من القادة العسكريين والمؤرخين الذين شاركوه الكتابة في المواضيع نفسها. هكذا، كان يغتنم بعض الوقائع والأحداث التي عايشها، ليسوق لها نتفا من روايات الآخرين، ويرد على بعض أولئك الذين تناولوه بالاسم.
جعل كريستيان هويل مذكراته على محاور ثلاثة، متصلة فيما بينها، بحيث: اتجه في المحور الأول إلى تدوين وقائع الحروب التي جرت أطوارها ما بين القوات الفرنسية وقوات المقاومة المغربية، لاسيما من قبائل الشاوية. في حين، جعل المحور الثاني كيوميات لمعاناته الشخصية التي اعترت مهمته الصحافية وفضح الأعطاب التي اعترت جهاز الإقامة، ثم جهاز الحماية فيما بعد، وما كان يواجهه من مضايقات، امتدت إلى أسرته ومعيشه. أما في المحور الثالث، وهو بالمناسبة أكبر المحاور، والناظم لها جميعا، فقد خصصه لمدينة الدار البيضاء.
عملية الترجمة
سيلاحظ القارئ ضخامة حجم الترجمة العربية مقارنة مع أصلها الفرنسي، وحتى إنها تزيد عليه ضعفين اثنين، وذلك راجع إلى أن الترجمة عند المترجم الدكتور عبد الرحيم حزل لا تكون، ولاسيما في هذه النوعية من التآليف، “مجرد ترجمة تنقل النص، وتقتصر عليه بالنقل السلبي اقتصارا، بل تزيد عليه بما تتناوله بإحالاتها وحواشيها من صنوف التصحيحات وضروب التجريحات وألوان التوضيحات”، حسب تعبير المترجم.
في هذا الصدد، سعى المترجم إلى أن يجعل عمله في نقل مغامرات كريستيان هويل شيئا من ذلك كله، حيث استعان عليها بمختلف أنواع المعينات، فأما النصية، فكانت على ضربين اثنين: أولا، مغربية تناولت في زمن لاحق الوقائع نفسها، فجاءت لها بإضاءات يرى فيها أن قارئ الرواية الأجنبية يحتاجها في فهم المسوق إليه من تلك الوقائع؛ ثانيا، أجنبية؛ وهي على ضربين أيضا: معاصرة لمذكرات كريستيان هويل؛ فكان المترجم الدكتور عبد الرحيم حزل يعمد إلى مقابلة روايته بروايات أخرى، التي كانت، لحسن الحظ، كثيرة ووفيرة، تناولت الوقائع نفسها، واتصل أصحابها بالشخوص أنفسهم؛ بل منهم من شارك المؤلف ذلك الاتصال في الزمكان، إذ ما أكثر ما كان يقع المترجم ما بين تلك الروايات من أوجه الاختلاف، بل التضارب والتناقض؛ مما لا يعود معه مناص من إيفاد الرواية الأخرى المختلفة في بطن الإحالات.
وكان مأمل المترجم الدكتور عبد الرحيم حزل لهذا المنهاج “البياني” أن يصير هو المنهاج الذي تلتزمه الترجمة في هذا النوع من المؤلفات، التي تتناول من قضايا المغرب أشياءنا الصميمة، أو القريبة إلينا. ولذلك، لا يرى المترحم مناصا في مثل هذه الترجمات من أن يكون تعاملها مع تلك النصوص، لا تعامل النقل، بل تعامل المساءلة والتجريح والمقارنة والتصحيح. وتلك مرام لا تتحقق إلا بإعمال التفكير في عملية الترجمة نفسها، وتخليصها من النصورات التشييئية السائدة لها في الوقت الحاضر.
فحق الترجمة أن تكون في سائر ما تتناول من أنواع النصوص ترجمة “بيانية”، و”استكشافية”، لا مجرد ترجمة “نقلية” “سلبية”.