في إطار النقاش الذي فتحه الأستاذ عبد الواحد حنو مع الأستاذ محمد فارسي، حول الترجمة من وإلى الأمازيغية (الريفية خصوصا)، ارتأينا أن ندلو بدلونا كما يقال أو بالأحرى أن نساهم في إثراء هذا النقاش المثمر في جو من النقاش الجاد والهادف نحو نقد بناء وبلورة رؤية واضحة من أجل الرقي بالأعمال المترجمة من وإلى الأمازيغية.
هذا الحقل الملغوم، حقل الترجمة ربما نعد من المحظوظين الذين فتحوا هذا النقاش مبكرا، عبر الترجمة يمكن للغة والثقافة الأمازيغيتين أن تزدهرا، لما تنم عنه الترجمة من تلاقح حضاري وثقافي وابداعي ولسني وفني… ويمكن للترجمة أن تفتح لنا آفاقا عديدة وجديدة نحو بناء ثقافة علمية وفكرية وأدبية وفلسفية جديدة، تتمثل في انتاج مصطلحات ومفاهيم وتعابير جديدة في شتى المجالات والتي لا يمكن لها إلا أن ترتقي بثقافتنا وحياتنا الاجتماعية والفكرية والنفسية والجمالية اي الفنية، ستمكننا من تقوية ملكاتنا وقدراتنا الابداعية في شتى المجالات، والتي نعبر عنها بلغات ليست لغتنا (العربية، الفرنسية، الاسبانية…) رغم وجود النواة الأساسية لإنتاج هذه المصطلحات والمفاهيم والتعابير وغيرها في لغتنا وثقافتنا الريفية ونعتقد جازمين أن المحرك الأساسي لهذا الرقي هو البحث العلمي الذي يقوم به العديد من الباحثين اللسانيين خصوصا في مجال النيولوجيزم أو إحداث مصطلحات جديدة في الثقافة الأمازيغية (الريفية خصوصا) إضافة إلى المترجمين (رغم المحاولات الموجودة إلا أنها تبقى ناقصة دون نقد من طرف جميع المهتمين في كل المجالات ما دامت الترجمة تمس كل مناحي الحياة الثقافية والفكرية أو بالأحرى كل ما كتب ويكتب)
عودة إلى النقد، فالنقد بكل بساطة هو السلب أو هو السالب (هيجل)، فإن كان النقد في اعتبار أي كان هو الوقوف عند نقاط القوة أو بالأحرى هو التملق والمدح فلا أظن أنه نقد في شيء، فالمدح اسمه مدح وليس نقد، والتملق اسمه تملق (ثاربوث ن تخانشت) بالتالي فالنقد بشكل بسيط وواضح الوقوف عند النقط والثغرات الضعيفة دفعا بالمبدع والصانع نحو تقويم الضعف في عمله كي يكون متقنا وفي مستوى الجمالية والرقي.
لماذا نقول ان النقد هو السلب؟
لنتخيل أن صانعا لمظلات الهبوط عرض منتوجه في السوق قبل عرضه على الناقد – الذي يمثل هنا مصلحة الجودة في كل شركة أو مصنع- ربما سيتسبب في قتل العديد من الأرواح جراء خطأ أو هفوة أو عيب في تلك المظلات. في حالتنا هنا – الترجمة – القضية أخطر بكثير مما نظن، لا يمكن التساهل مع أي عمل من أعمال الترجمة والابداع والتصفيق لعمل باهت بحجة أن ورش الترجمة في بدايته ومن الضروري تشجيعه بل إن تشجيعه يتم عبر نقده والتفصيل في كل صغيرة وكبيرة في هذا النقد.
لماذا هذا التأكيد على التفصيل في النقد بكل قوة وحزم؟
حينما نتحدث عن الحزم في النقد والنقد السالب بشكل خاص ونسطر عليه جيدا. لاحظنا منذ مدة على أن هناك أعمال (سواء كانت فناً، نصاً، نحتاً أو فكراً…) يظن أصحابها على أنها أعمال مثالية، لكن في حقيقة الأمر أن أي عمل مهما كان أو منتوج مهما كان يظل باهتا ما دام لم يسلط عليه أي ناقد الضوء. من هنا يتضح لنا أن هناك اختلاف بين الكلام والنص (دريدا). هناك من يتكلم وهو يظن أنه يكتب نصا أو يبدع فنا أو يبني فكرا وغيرها… في حين أنه فقط يتكلم، من جانب آخر هناك من ينتج نصاً حقيقيا عبر الفن أو الكتابة أو بناء الفكر وهكذا…، ويميز دريدا بين الكلام والنص في ميزة أساسية وهي مدى قابلية النص لتدريسه في المدرسة للأجيال القادمة، خلاصة القول أن النص يتحول إلى تراث ثقافي لدى شعب معين وثقافة معينة، عكس الكلام الذي يمضي دون أن يقف عنده أحد في المستقبل حتى صاحبه، هذا التراث قد يكون عبارة عن فيلم مثلا، لوحة فنية، رواية، نهج أو تيار فلسفي، نص لسني وغيرها…
الترجمة:
فيما يخص مقالي الأستاذ محمد فارسي حول الترجمة في جزئيه، لن أتوقف عند مجموعة من النقط المنهجية والتقنية التي وقف عندها الأستاذ عبد الواحد حنو، والتي كانت واضحة ودقيقة من وجهة نظر فكرية ولسنية تعكس تخصصه في اللسانيات الأمازيغية، خصوصا وأنه وقف عند عدة نقط مفصلية في الترجمة من وإلى الأمازيغية وفصل في العديد من الأمثلة نواقص الترجمة التي كانت ضعيفة في مقالي الأستاذ محمد فارسي. لكني سأقف عند الترجمة واشكالاتها من وجهة نظر تربوية وفلسفية تخص المنهج بالخصوص وبعض النقاط الأساسية في بناء مقال علمي أو فكري واضح المعالم.
للوهلة الأولى يتضح من خلال مقال الأستاذ محمد فارسي في جزأيه يفتقر لمبادئ المقالة الفكرية أو النقدية أو العلمية وذلك للاعتبارات التالية:
1- من حيث الشكل:
يفتقر في عموميته للتخطيط والتراتبية التي دأبنا عليها في بناء مقالة فكرية أو علمية أو نقدية، خصوصا وأن الكاتب أو الناقد حاصل على ماستر في اللغة والثقافة الأمازيغية، يعني مقبل على بلورة دكتوراه، والتي تقتضي الدقة المنهجية في البناء والتخطيط الفكريين والضبط المنهجي الصارم. دأبنا على عرف اساسي في المنهج الفلسفي وفي العلوم الانسانية والاجتماعية عموما، العودة إلى المفهوم والتعريف به قصد فهمه جيدا والوقوف على تفاصيله كمدخل لبناء مقالة نقدية كانت أم فكرية أم علمية، كان على كاتب مقالة النقد في الترجمة أن يقف على معنى الترجمة ومفهومها العام والخاص بما أنه يستهدف الخوض في الترجمة الأدبية.
2- من جانب العنونة:
هناك غموض وخلاف (ليس اختلاف) واضح بين العنوان الذي يوحي لنا أن الكاتب سوف يتحفنا بطرح قوي ومعالجة مفصلة للنموذج المطروح، ما يوحي أنه سيضع لنا طروحا فكرية جديدة ربما ستكون لبنة للترجمة الأمازيغية التي ما فتئت تخطو أولى خطواتها. في حقيقة الأمر يغيب البناء الفكري تماما داخل الكلام الذي نحن في صدد قراءته، فقط لأن ما كتب مجرد كلام لا يرقى ليكون مقالة ناهيك أن يكون نصا سيتحول لتراث مستقبلي يمكننا أن ندرسه لأجيالنا القادمة، رغم المحاولات التي قام بها الكاتب – نعتبرها مجرد حشو – وتتمثل في وضع بعض المراجع – الأجنبية بالخصوص – كي يوحي كلامه على أنه ملم بمجاله نظريا وبعدها تطبيقيا، لكن العالم والناقد والأديب والفيلسوف والمفكر، سلاحه وذكاؤه الأول هو المنهج بالأساس (هناك مقالات وبحوث كثيرة في المجال التربوي تعالج قضية الفقر المنهجي في أوساط الباحثين المغاربة إلا النزر القليل ممن يتقن هذا السلاح، وعموما تعاني منه الجامعة المغربية) لذلك مهما كان الباحث أو الكاتب ملما بالمعرفة والعلوم لكنه إن افتقر للمنهج فلا داعي لتطفله على الكتابة.
3- من حيث المدخل:
يتضح جليا المدخل الثقافي واللغوي للمقالة دون ربطها بالمفاهيم الأساسية للترجمة (على الأقل تعريف عام) ثم تعريفا خاصا للترجمة الأدبية وربطها بالعلوم التي ترتبط بها بالأساس (علم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة، المنطق، الفن –الجماليات عموما).
4- من حيث البناء:
لا أظن أن مفهوم البنية غائب بهذا الشكل عند باحث حاصل على الماستر في اللسانيات، فهو في أصله مفهوم لساني ظهر مع أعمال سوسير ومنه انتقل الى الفلسفة والأنثروبولوجيا عبر ليفي ستراوس وفوكو وغيرهم والى الأدب مع بارط وكيليطو وغيرهم. نلمس بشكل واضح وفاضح الغياب التام للأشكلة التي يعلنها بداية في العنوان بالجمع “الترجمة الى الأمازيغية، إشكاليات وحلول…”، هناك توجيه في الفقرة الثانية على أن الكاتب سيعالج إشكالية الاستنساخ في الترجمة، وهي التي تتبعناها طيلة المقال بجزئيه ليتم أشكلتها والتعريف بها وبتمفصلاتها المختلفة، دون أية نتيجة تذكر، غياب تام للاشكالية التي يعالجها الكاتب.
5- من حيث البناء المفاهيمي:
فقر مفاهيمي فضيع داخل النص النقدي الذي بين أيدينا، لقد تم بناء مقالة حول مفهوم غائب تماما في استراتيجيات الترجمة، ربما ترجمته في حد ذاتها خطأ، فهل يقصد الكاتب هنا الاستنساخ الذي يكافئه (clonage) بالفرنسية، أم نسخة طبق الأصل والتي يمكن أن تكافئ كلمة (copie) أو يمكنها أن تعني في بعض الحالات النادرة (reproduction)، في حين أن كلمة (le claque) معرفة قد تعني مباشرة الصفع أو صفعة، وفي الترجمة تعني الترسم (المحاكاة اللغوية) وهنا خلط مفاهيمي صارخ دخل فيه المقال النقدي. وقد تم بناء المقال كله حول اشكالية الاستنساخ التي بحثت عنها كثيرا في تقنيات واستراتيجيات الترجمة دون أن أجد لها أثرا، والتي تم ذكرها قرابة 27 مرة في المقال، وكأن لسان حال الكاتب يعبر عن فقر وجمود في تفرعات المقال وفي استراتيجيات الترجمة المعتمدة في أعماله، ليوحي لنا على أنه يعتمد هذه الاستراتيجية أو المفهوم فلا تنتظروا مني شيئا.
6- من حيث ضبط الخط الفكري للمقال:
نجد تخبط واضح في المقال بجزئيه، وذلك راجع لعدم التخطيط القبلي لبناء المقال والخروج عن السياق المنهجي والمفاهيمي لمجال الدراسة أو النقد. أحيانا نجد الكاتب يخوض في أمور هامة جدا تضرب في الصميم خصوصا حينما يتحدث عن الترجمة من اللغة الأصل إلى الهدف وباعتبار وجوب ضبط اللغتين من أجل القيام بالترجمة، لكنه يهرب منا في لحظة فنفتقده ونفتقد ماذا يريد القول بالتحديد، ثم نتوه في أمثلة دون أية مراجع.
7- من حيث التقسيم:
غياب تقسيم المقالة إلى عناوين فرعية، الأمر الذي كان سيسهل على الكاتب بناءه المنطقي والنسق الفكري، وليسهل على القارئ تتبع ماذا يريد الكاتب قوله، وأمام غياب العناوين الفرعية، جعل القارئ يتوه في خضم كلام غير ممنطق ولا منسق فكريا أو منهجيا.
كنا قد سطرنا العديد من الهفوات والمشاكل التي يعج بها الكلام “النقدي” الذي تم نشره حول الترجمة إلا أننا اكتفينا بهذه النقاط السبعة الأساسية والتي تستوجب على أي ناقد أو كاتب أو مفكر أو باحث عدم إغفالها من أجل بناء مقالة واضحة المعالم وممنطقة البناء فكريا وبناء ونسقا.
في الجزء الثاني سنحاول أن نتطرق إلى أشكلة مفهوم الترجمة الأدبية وتتبع ارتباطاتها وتمفصلاتها، كي تكون لنا سكة يمكننا أن نضع عليها قطار الترجمة الأدبية من وإلى الأمازيغية، دون العبث بالمفاهيم والمصطلحات هكذا، فالترجمة بحر هائج يمكن للقبطان في غفلة قصيرة أو هفوة أن يغرق سفينته.
يتبع…
* باحث في علم النفس وعلوم التربية