مستقبل المغرب وضرورة الاستمساك بالأصول

بقلم
الدكتور أحمد الطاهري
أستاذ التعليم العالي (المغرب والأندلس)
https://univh2m.academia.edu/AhmedTahiri
ahmedtahiri31@gmail.com

مستقبل المغرب وضرورة الاستمساك بالأصول
الحلقة 23

أركان العزة

ليس من عوائدي تضييع الوقت في تمييز الطيب من الخبيث وسط الركام الهائل من الأوساخ المنشورة على شبكات التواصل التي انحطت بأهلنا في مستنقع الرداءة. وحتى لا أظل خارج التغطية، أستَرِقُ من حين لآخر بعض الوَمَضات الشاردة بالأخبار الدقيقة والأفكار النِّيرة والمواقف الرائعة والمُستَمْلَحات الذكية والفضائح المُخزية، أضغط على الزر فينكشف في الحين ما يستحق المتابعة مما يندرج ضمن قش المزابل المتراكمة في مستنقعات الجهل، على طول البلاد العربية.

ما كنت لأتصور أن تبلغ الجرأة بأحد المتعلمين حد تكسير كافة القواعد المتعارفة، فيُصَرِّح في الملأ اليوم سادس رمضان الأبرك 1441 بقوله مَزهُوّاً: “سَنُعَلِّمُ البشريةَ كيف تعيش، بالإنجليزية والفرنسية والعربية”. وإذا كان الأنبياء والأولياء والعلماء ما تجرأوا على الخالق يوماً للزعم بأنهم سيُعلِّمون البشرية، إذ جبَلوا على التواضع للعليم كلما ازدادوا يقيناً وترسَّخوا عِلماً، فلا أدري أي فضائح مُخزية أرْدَانَا فيها أمثال هؤلاء الدكاترة والأساتذة وأشباه العلماء الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً.

ولم أكن أعلم قبل اليوم مفعول هذه الموجة العاتية التي تنتسب لِما يُصطلَح على تسميته جدلا بعلم الأغذية التي هبَّت رياحها على البلاد العربية تخلط الحق بالباطل فتُعشِّش بالترهات الخرقاء في عقول ملايين الأميين الذين أخذ بهم الفقر والعوز والجهل مبلغه، وألباب مئات الآلاف من المتعلمين الذين مزقوا الكتاب وهجروا مجالس العلم ووضعوا عقولهم وعاء للهذر المسترسل عبر الفضاءيات المأجورة وشبكات التواصل المتحركة، وِفقَ آخر تقنيات التواصل المُخربة لنُخاع من لا يُحسن استعمالها.

وما كان ليخفى عن العارفين كيف أصبحت الحِميَة وحرق الدهون والحفاظ على رشاقة الأبدان منذ عقود “موضة” نافقة الأسواق بالولايات المتحدة وكبريات الدول المثخنة بالمنتجات المُصنعة والأكلات السريعة، وقد وُضِعَت في مختلف ما يرتبط بالتغذية من مواضيع آلاف الأبحاث والدراسات والتجارب الميدانية في كبريات المعاهد والمختبرات العلمية بالبلدان المُصَنَّعة من أقصى اليابان عبر أروبا إلى كاليفورنيا. وتزخر المصنفات الأكاديمية بالمعلومات الدقيقة عن الأغذية وأصنافها وفوائدها وأضرارها، كما تَعُجّ بأدق التفاصيل عن أضرار الأدوية المصنعة في المختبرات الطبية والصيدلية.

وتزخر المكتبة الوطنية والمكتبة الحسنية بالقصر الملكي بالرباط ومكتبة القرويين العتيقة بفاس والمكتبة العامة بتطوان ومكتبة دير الأسكوريال بإسبانيا وغيرها من دور المخطوطات المغربية والأجنبية بمئات الكتب المؤلفة من طرف كبار العلماء والأطباء والحكماء المغاربة في قوى وخواص “الأغذية والأشربة” وفي “النباتات والأعشاب” وفي “الأدوية المفردة والمركبة” وفي “الطب والصيدلة”، و”الأمراض والطواعين”، وفي “الفلاحة والبيطرة”، مما أفنى ثلة من الباحثين المغاربة المجتهدين من أمثال العلامة محمد المنوني ومحمد العربي الخطابي أعمارهم في التعريف بها وفهرست بعض مضامينها ونشر مختارات منها.

ونحمد الله تعالى أن هدانا إلى الإطلاع على مضامين مئات الكتب والرسائل المخطوطة في هذه الحقول المعرفية. ولم نتوقف، منذ الثمانينات من القرن الماضي على تنبيه المغتربين عن أصولهم، المحتقرين لبلدهم، إلى قيمتها العلمية المنفردة، من خلال الكتب والفهارس والدراسات التي أصدرناها في الموضوع. وقد ألححنا في دعوة المؤرخين إلى إعادة النظر في تصورهم لتاريخ العلوم وتصحيح وضع المغرب في المكان الطبيعي الذي يستحقه ضمن السياق العام للحضارة الإنسانية.

وكنا نأمل أن تستجيب النُّخَب المُشرِفة على البحث والتكوين في كليات الطب والعلوم ومعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، وتشرع في إعادة الارتباط بالأصول، بما يُحَصِّن الأجيال المُتخَرِّجة من الأطباء والمهندسين والأساتذة من آفة الاغتراب عن الذات ويُعيد ربطها بالأصول. ويبدو أن اللقاح الفرنكفوني المضاد للحضارة المغربية الذي خلفه الاستعمار في الوسط الأكاديمي ما زال ساري المفعول، رغم مرور نحو 64 سنة عن استقلال البلاد.

وعلى عكس النخب العلمية في بلدانٍ، لم يكن لها ما كان للمغرب من آثار في الفكر والتاريخ والحضارة، مثل اليابان والصين وكوريا وتركيا، فقد ظلت نخبنا العلمية مجرد مصرانة زائدة لصيقة بمعاهد وجامعات وأساتذة ما كان معروفا لدى أجدادنا بالإفرنج. من الطبيعيى في مثل هذا الوضع أن يطالعنا الدكتور المزعوم بالقول دون استحياء: “إن الصيام يساعدنا على التخلص من كورونا”. وما عساه أن يقول أو يفعل لدرء عجزه العلمي وشلله الفكري سوى إضفاء مسحة دينية على خطاب فارغ.

وللإمساك بتلابيب العامة، لا يتورع هذا الصنف من أشباه العلماء في اختلاس نتائج أبحاث أقرانهم من العلماء الحقيقيين المجتهدين في طلب العلم في قضايا الأغذية والأشربة والأدوية، وتغليفها بالدين لشد الانتباه لخطاباتهم الجوفاء. إن مَكمَن اجتهادهم الوحيد يتلخص في ربط خلاصات أبحاث العلماء، بمحفوظات من القرآن الكريم ومرويات السنة النبوية فيتألق الخطيب النِّحرير في أوساط بِحَار الجهل المسجورة بأهلنا من الفقراء والمُعوزين.

قلة هم الباحثين المجتهدين الذين شرعوا أخيرا في ربط الحاضر بالماضي عبر العودة إلى الموروث الطبي والنباتي والصيدلي المشرقي والمغربي الأصيلين، والنهل من كتابات السلف التي لا ينضب معينها في مجالات “الأغذية والأشربة”، من أمثال الدكتور الفلسطيني مازن السقا الذي يقدم لأهله المُحاصَرين بقطاع غزة ولعموم فقراء الأمة أفضل الوصفات الطبية والعلاجات الغذائية بدون مقابل. مما يهدد في الصميم مافيا الصيدلة العصرية وكبريات مختبرات وشركات صناعة الأدوية التي لا تهمها صحة المواطنين بقدر اهتمامها بجني الأرباح. ولا نستبعد أن تتحرك بقوة لمنع النهل من علوم دار الإسلام وتحرر الأطباء والصيادلة من رذيلة الجشع والاستمساك بفضيلة الحكمة، أليس يقال للطبيب والمداوي لِشَرف مهنته: الحكيم، تشبُّهاً بالصانع الحكيم؟

وعلى غرار حُذاق قلب العين في الأسواق، لا يتورع الأشباه عن مطابقة العلم البشري النسبي، بالدين ذي الأبعاد الإلهية المطلقة، فيما اندرج سُذَّج المفكرين الإسلامويين – ضمن ما اشتهر لديهم بالإعجاز العلمي في القرآن، وكأن كلام الله الذي أفنى كبار علماء دار الإسلام ومفسري القرآن أعمارهم في ملامسة معانيه، محتاجٌ إلى دليل من العلم الغربي الحديث، يُقدِّمه أمثال هؤلاء المتمدرسين في معاهد الإفرنج وغيرهم من الكسالى المعتوهين. وهم بذلك يسيئون للعلم وإساءتهم للدين أخزى وأنكر.

ويحق لنا أن نتساءل وكيف يستطيع أمثال هؤلاء وغيرهم من الدجالين المرفوعي الهامات في كبريات وسائل التضليل العربية الإمساك بتلابيب ملايين الخلق والزج بهم في دهاليز الجهل المظلمة؟ إن الإطلاع على الأوضاع المزرية للمنظومة الصحية والظروف التي يعمل فيها أطباء القطاع العام وأحوال أبدان ونفوس ملايين المعوزين والعجز المتراكم عبر عقود من الخلل الهيكلي غير المقبول في عز القرن الواحد والعشرين، كفيل بتقديم نصف الجواب.

أما النصف الثاني فعلينا أن نلتَمِسَه في القطاع الخاص. فباستثناء ثلة من العيادات الطبية التي تعمل على التخفيف من حجم الأضرار المترتبة عن ضعف وتردي القطاع الصحي، وباستثناء ثلة من الأطباء الشرفاء المتفانين في خدمة مرضى بلدهم ومراعاة أحوال المعوزين، فلا يخفى كيف انزلقت الإرادات بتحويل معظم العيادات إلى حوانيت للتجر والاغتناء السريع بمعاناة المرضى، وقد ضاق العَرْض واستفحل الطلب واختلَّت معايير دعم المُقبِلين الشباب على فتح عياداتهم، ومراقبة عمل وزجر مخالفات الأطباء الممارسين، المستهترين بصحة المواطنين، المستنزفين لجيوبهم.

إلا أن السيف النازل على رقاب الجميع، يكمُن في إحكام قبضة حفنة من كبار المرابين من خلال الرأسمال المتوحش ذي الأبعاد الكونية على كبريات المختبرات وشركات صناعة الأدوية واللقاحات والأمصال وتسويقها على صعيد المعمور. وكلما ازدادت الاختلالات الهيكلية بين الأمم المُمسِكَة بزمام أمورها وعامة البلدان المُختلَّة البنيان، كلما ارتمى الفقراء والمعوزون من أهلنا في أحضان هذا الصنف من التجار بمآسي الضعفاء والمحتاجين، يرسمون لهم أملا في العلاج بالغرغرة والسمن البلدي.

ويظل الأمل معقودا على أن تكون هذه الجائحة التي ألَمَّت بالبشر، فرصة للمغاربة جميعا كي يتأملوا في مستقبل بلدهم وموقع أهلهم بين الأمم. وقد ترك لنا الأجداد تراثا علميا وفكريا ومجتمعيا لا يُقَدَّر بثمن، ألقينا إليه بالظهر وسارعت النخب المتعلمة إلى التفريط فيه واحتقاره والنَّيل منه جملة وتفصيلا. ومن الأمثلة الدالة عن الطابع الإنساني الرفيع الذي تمتع به الأجداد في مقابل الجشع الفضيع المسيطر على ألباب الأحفاد، إقدام الطبيب الشهير ابن الجزار القيرواني بوضع كتاب في “علاج الفقراء والمساكين بالأدوية”.

ويحق لي أن أًذَكِّر أطباءَنا ووزراءنا والنافذين في دواليب الدولة بمواقف أحد حكماء المغرب: وكان “طبيبا نبيلا عالما حاذقا” من أهل القرن الرابع الهجري (10م) استوزره السلطان فأنشأ مختبرا لصناعة الأدوية “واستأذن أمير المومنين أن يعطي منها، مَن احتاج من المساكين”. غاية الأمل أن تتكاثف جهود جميع المغاربة لصيانة أركان العزة: العلم والصحة والاكتفاء الغذائي والكرامة الإنسانية.

اقرأ أيضا

الأمازيغية والاحصاء العام للسكان بالمغرب.. أربع حقائق

أثناء مباشرة الاحصاء نبه اغلب المتتبعين الى ان المنهجية المتبعة غير مطمئنة النتائج ونبهت الحركة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *