بقلم: المخرج محمد بوزكو
مع بداية عرض الحلقات الأولى من مسلسل النيكَرو على قناة تمازيغت بدأت تتهاطل الملاحظات والتعليقات والإشادات والانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي وفي جلسات المقاهي …
إن هذا التفاعل، بهذا الحجم، مع عمل درامي بأمازيغية الريف ليعبر بحق عن اهتمام المشاهد الريفي بالإبداعات التي تعنيه والتي تعبر عن طموحاته ورغباته وتعكس انشغالاته ومخاوفه ،هذا الاهتمام يعكس مستوى الوعي لدى متتبعي الأعمال الدرامية وتطور حسهم الذوقي والنقدي وهذا في حد ذاته يدعونا للمزيد من الاجتهاد والعمل من أجل إنتاج مادة تليق بهذا المشاهد.وإن كنت أتمنى ان يتم الارتقاء بهذا النقاش الى برامج تلفزية وإذاعية حوارية ، الى مقالات لنقاد التلفزة والسينما ، الى مقالات تحليلية في الجرائد والمجلات المتخصصة .
طبعا بصفتي أحد من الذين سهروا على انجاز هذا العمل لا يسعني إلا أن أشكر كل الذين يتابعون هذا المسلسل وأشكر أكثر كل من تفاعل معه سواء بالإعجاب أو بالرفض او بالنقد على قلته، فمنطق الأشياء يجعل الأشياء المتميزة دائما محطة اهتمام الاخرين كل حسب فهمه ورصيده المعرفي ورؤيته للأشياء وكذا الانطباعات الحسية التي يتلقاها من محيطه العائلي ، من الشارع والمدرسة …
لا تغويني الإحصائيات ولا الأرقام، لذلك لن أقول أن أغلبية المتتبعين أشادوا بالعمل واستحسنوه وأن القلة هم من لم يتجابوا مع المسلسل كونهم لم يجدوا فيه القيم والقناعات التي يؤمنون بها وكونهم أيضا لم يستوعبوا ضوابط العملية الإبداعية القائمة أساسا على الخيال في توضيف جزئي للواقع..
سأتحدث عن نقطتين تطرق إليهما بعض الإخوان وتناسلت حولهما الكثير من الردود…
النقطة الأولى تتعلق بالمشهد الذي تظهر فيه امرأة تبيع السمك في الميناء مما اعتبره بعض الإخوان على أنه طعن وانتقاص من قيمة المرأة الريفية على أساس أن ذلك لم يكن في الواقع وأن الحرائر لا يبعن السمك في ميناء يرتاده الرجال بمختلف أنواعهم. كثيرة هي الردود التي دحضت هذه الفكرة بل وأن بعض التعليقات أكدت بأن المرأة في الحسيمة كانت تبيع السمك في الميناء وأن إحداهن كانت تسمى فاطمة، كما أكد آخرون أنه في أيث سيذار كانت النساء تبيع السمك وتمتهن الجزارة أيضا…
الذي يجب التسطير عليه أولا هو أن مسلسل النيكَرو هو من وحي الخيال، وأنه فقط تم الاعتماد على بعض الأحداث وقعت فعلا وبالتالي فليس كل ما جاء فيه قد سبق وأن حدث فعلا في الواقع. كل القصص خيالية، إنما تم توظيفها في إطار جغرافي، اجتماعي، تاريخي، وسياسي محدد وبالتالي أن يتم إقحام امرأة تبيع السمك أو تعمل كجزارة أو تقود سيارة أو تعمل كدكتورة أم تشتغل باحثة في معهد الصيد لا يعد انتقاصا من المرأة بل العكس هو رفع من شأنها وهو تشريف للمرأة الريفية التي تقف جنبا لجنب مع الرجل وليست تابعة أو مجرورة له… لماذا تم الوقوف بالضبط عند لقطة وحيدة تظهر امرأة تبيع السمك وتم التغاضي عن لقطات عديدة تظهر فيها المرأة دكتورة، باحثة بل وبحارة تدخل للبحر على متن قارب لتصطاد السمك كما سيأتي لاحقا؟ ماذا ستفعل امرأة لها زوج مقعد وابنة تتابع دراستها؟ هل ستشتغل خادمة في المنازل؟ هل ستنحرف؟ أم أنها ستلج سوق الشغل بكل حرية وكرامة؟ إن شخصية فطيمة التي أدتها سميرة المصلوحي بنجاح واقتدار من النساء المكافحات على قوت يومها بل وحريصة على سمعتها وسمعة عائلتها وإلا لما وقفت في وجه زوجها وابنتها رافضة أن تتركها تستكمل دراستها خارج المدينة خوفا عليها. إن المرأة الكريمة الحرة والأبية حينما تدخل سوق الشغل فإنها تفعل ذلك بكل أنفة وإباء بغض النظر عن محيط اشتغالها لأن المهم في الأمر هو تصرفاتها هي وليس تصرفات المحيطين بها، ولعل فطيمة زوجة خميس لم تبد أي تصرف غير لائق بل وتتعامل مع الرجال في حدود مهنتها كما يتبين ذلك من خلال حوارها مع محند الذي يبيع لها الأسماك… فطيمة هي نموذج المرأة/الزوجة الأبية التي تقف ندا بالند مع أخيها الرجل بكل كرامة وحرية. أما أن تمتهن بيع السمك أو أية مهنة أخرى شريفة فذلك تفصيل لا أقل ولا أكثر ما دمنا إزاء عمل درامي خيالي وليس شريطا وثائقيا. خلاصة الكلام في هذه النقطة:
يان: إن جنس المسلسل يدخل في خانة اعمال الخيال فكما يدل على ذلك اسمها فإن بناء الحبكة تشترط الخيال من قبيل اضطرار امرأة بيع السمك في الميناء بسبب رجلها المقعد بفعل الزلزال ولمساعدة ابتها على الدراسة، فالأمر هنا لا يتعلق ببرنامج وثائقي يؤرخ لعلاقة النساء بمهنة بيع السمك وإنما امام شخصية فطيمة والتي هي من وحي الخيال عبرها نقلنا ماسي الزلزال ومشكل تعليم الفتيات في الريف، فالسؤال المطروح هل وفق المخرج في وضع المرأة المناسبة في الدور المناسب .
سين : يفهم من بعض التعاليق المقرونة بشخصية فطيمة النزعة الأخلاقية في الإبداع والتي فشلت رغم النرويج لها كثيرا وبالتالي يكون تفسير رفض هذه الشخصية لاعتبارات دينية واخلاقية من منطلق ان المرأة مكانها البيت وليس العمل علما ان الحسيمة تعرف باحترام المرأة انها نموذج يقتدى به في انعدام التحرش
كراض : حتى وان لم يسجل ان اشتغلت المرأة في الميناء تبيع السمك ، فإن فطيمة ستكون قدوة لنساء الواقع للقيام بهذه المهمة النبيلة فالمرأة يجب ان تكون حاضرة في كل الاعمال والمهن فالخطأ هو بقائها في البيت وليس بيع السمك ، بهذه التوضيحات اعتقد انه انتهى الكلام في هذه النقطة المفتعلة.
النقطة الثانية تتعلق بلغة الحوارات وهنا ينقسم النقاش لقسمين؛ قسم يتحدث عن المعيرة وقسم آخر يحصر النقاش في الاختلاف اللساني واللكنة بين مختلف مناطق الريف…
فيما يخص المعيرة… لابد من توضيح مهم وهو أن أي عمل درامي لا يستقيم ما لم يراع ما يسمى بالفرنسية la vraisemblance أي أن العمل يحاكي الحقيقة والواقع وبالتالي فانه سنبتعد كثيرا عن الواقع ونحن نستمع لأشخاص في الريف يتحدثون لغة فيها مصطلحات لا يفهما الكثير من الريفيين أنفسهم. إن هدف المسلسل ليس تعليم المشاهد اللغة المعيار لأن ذلك ليس من اختصاصه، إذ هو عمل إبداعي يعكس واقعا معاشا. ولعل هذه المسألة قد عشناها مع الأعمال الدرامية باللغة العربية يوم كنا نشاهد المسلسلات والأفلام فيها حوارات بعيدة عن الحياة اليومية للمشاهد فتسمع “سافرت فالقطار عوض تران” “ولدي كان فالمستشفى عوض سبيطار” “كان عندو مسدس عوض فردي” ” شريت سيارة عوض طوموبيل”… الآن لقد فطن القائمون على هذه الأعمال هذا النوع من الحوارات ولم يعودوا يستخدمونها لأنها بعيدة عم ما يسمعونه يوميا. إن من يدعو لمعيرة لغة الحوارات إنما يريد بنية أو بسوء نية إفراغ الأعمال الدرامية من روحها ونكهتها وواقعيتها.
ما سبق ذكره له أيضا علاقة مع القسم الثاني والمتعلق باختلاف اللكنة بين قبائل الريف نفسها…
أولا، لابد من التأكيد على أنه رغم الاختلاف في اللكنة بين مختلف مناطق الريف فان ذلك لا يؤثر على الفهم والإدراك وكل الكلمات مفهومة باستثناء قلة قليلة جدا. ثم إننا إذا أخذنا اختلاف اللكنة والنطق لانجاز أعمال درامية في الريف فإننا لن نحقق ذلك أبدا، على الأقل في الوقت الراهن.
انطلاقا مما سبق، ورجوعا للمسلسل نجد فيه عائلتين (عائلتي عيسى وعائلة خميس) يتكلم فيهما الأبوين بلكنة قلعيه فيما ابنيهما ينطقان الريفية بلكنة آيث واريغل أو اِبقوين كما نجد أخوين (ليلى ومروان) يفعلان نفس الشيء باستثناء بنعيسى المستيري الذي اجتهد في الحديث بلكنة آيث واريغيل مع ابنته. هل تعتقدون أننا حين كنا ننجز هذا العمل لم نأخذ بجدية أمر اختلاف اللكنات؟ طبعا لا… بل كنا واعين بالأمر ولكن ما العمل ونحن نعرف مخزون الريف من الممثلين والممثلات خاصة ممثلين محددين من حيث السن أولا ومن حيث الأداء ثانيا. العملية ليست سهلة بتاتا… أين يمكن أن تجد ممثلا بارعا يؤدي دور النيكَرو غير ميمون زنون (قعلي) وأين يمكن أن تعثر على ممثل أبان على كعب عال في التمثيل مثل محمـد المكنوزي (ورياغلي) ليؤدي دور سمير ابن عيسى ونفس الشيء بالنسبة لابنه الآخر سعد (ورياغلي) الذي شخصه بإتقان سليم اليعقوبي ؟ أين يمكن أن نعثر على زوجين مثل سميرة المصلوحي وفاروق أزنابط (قلعيين) اللذان برعا في أداء دور فطيمة وخميس وان تكون لديهما ابنة مثل صفاء التي شخصتها بإتقان أيضا شيماء علاوي (ورياغلية)؟ إننا في الريف بأكمله لا نتوفر إلا على عدد قليل من الممثلين وعدد أقل من المشخصين وبالتالي يصعب إن لم أقل يستحيل انجاز مسلسل بناء على تعدد اللكنات في ريف واحد يجمعه التاريخ.
بعد كل هذا، لابد من طرح سؤال آخر… هل الريف يتسم بالصفاء اللغوي في أقاليمه، في مدنه، في أحيائه وفي عائلاته؟ لا أضن بتاتا. إن الريف عرف ولا يزال يعرف هجرات متشعبة الاتجاهات نتج عنها تمتزج بين مختلف مناطقه يستعصى تنقيته.
وفي الأخير أود أن أشير إلى أن القيمة الفنية لعمل ما لا يتحدد باللغة أساسا أقول أساسا، لأنه في وضعنا نحن في الريف لا نختلف كثيرا رغم اختلاف اللكنة… إن القيمة الفنية لإبداع ما يحددها ما هو أهم… أولا الموضوعات المتطرق إليها، ثانيا القصص والأحداث التي توظف تلك المواضيع ثم الحبكة الدرامية وعنصر التشويق وأداء المشخصين، والإخراج والتصوير… مرة أخرى نلخص افكارنا بخصوص
النقطة الثانية :
يان : لغة المسلسل يفرضها طلب العروض والذي اشترط انتاج مسلسل بالتعبير الريفي مما يستحيل معه التفكير في شيء يسمى اللغة المعيارية وهو الامر الذي لم يستوعبه بعض أصدقائنا الذين نشارك معهم قناعة الدفاع عن توحيد الامازيغية لكن في مقامات اخرى.
سين: نقاشات اللكنات بين مناطق الريف، يقابله أيضا الدفاع عن الامازيغية المعيارية امر لا يستقيم وان أصحاب هذه المتناقضات لا يملكون رؤية سواء من زاوية اللغة التي يدافعون عنها هل هي امازيغية الريف بغض الطرف عن لكناتها ام اللغة المعيارية حلمنا جميعا، كما انهم لا يستحضرون وضعية الإنتاج التلفزي بالريف خاصة من زاوية الموارد البشرية ولعل اقص ما نتوفر عليه تلك الوجوه التي صنعت مسلسل النيكرو.
حاولنا أن نقدم لكم عملا واقعيا، صادقا، قريبا لكل أبناء ريف هذا الوطن… قد نكون توفقنا في بعض الأمور وفي أمور أخرى ربما عجزنا…
لي اليقين أنه عمل حقق ما هو أهم وهو تفاعل المشاهدين معه وتتبعهم لأحداثه. حتى وان كان اول مسلسل تلفزي يصور في الحسيمة، اول عمل تلفزي درامي يتناول موضوع النيكرو والذي يستوجب إمكانيات عالية للتصوير في البر وفي البحر وبسناريو استغرق مدة طويلة لبناء الاحداث من دون زيادة ونقصان.