مصطفى شاطر، ذاكرة تجابه ضباب المحو

ما أجل الاعتراف الذي تنطوي عليه كل تلك الرسائل والنصوص التي تنعي سليل جبال جرجورة، وتقف وقفة تأمل لتستعيد ذكرى أشعار وموسيقى تجابه في ليلها الطويل ضباب المحو وريح النسيان، ما أشد هول الفقدان حين يسقط هذا الجسد الجريح دمه على تراب هذا العالم، دم شبيه بما كان يروي به أونامير نسره في ترحاله البعيد، وما أعمق تلك القسوة التي تكتنف وداع حضارة من حضارات الإيقاع كما اجترح لها الخطيبي ذات لحظة مضيئة من لحظات الفكر المغربي، كلما غاب عنها واحد ممن ينسجون حكاية الأصوات كأنهم يترجمون هسيس الوجود. ما أجمل كل ذلك، طلب صفح ومحبة وتحية على مقربة من شاهدة الغياب.

لكن ماذا لو امتد هذا الاعتراف إلى الذين يعيشون بيننا، الذين يقاومون من أجل المعنى، الشعراء الجوالون والروايس والراقصات والحكواتيون والمنسيون أكثر، ماذا لو تخفف من مفردات الخطاب المأثمي وانفصل عن لحظة الموت، اعتراف بوسعه أن ينفصل عما يتلبسه في العمق من هواجس وأراجيف وما ينغل الكائن ويساوره إثر كل رحيل من قلق الانمحاء، ليغدو أكثر عنفوانا وأكثر وعدا بالحياة، يدا ممدودة إليهم في عزلتهم قبل موتهم، إنهم لا يموتون بالتأكيد حين تتوارى أجسادهم، لأن أرواحهم تعيش دوما بين ثنيات أعمالهم وتسكن ليل الزمن، بعد أن تتخفف من المادة وأعطاب الطين وثقل العناصر، ماذا لو فكرت كل هاته الذوات الحزينة إذ تقف كل مرة على عتبات هذا الجسر، لتلوح بأكفها وتكتب المراثي في نعي موتاها، أن تزرع وردا في أصص أرواح أخرى تكابر ضد سطوة الألم لتمد العالم بما لا يبلى ولا يشيخ.

ماذا لو فكرت الٱن في مصطفى شاطر وهو الذي يكابد النسيان والألم الشخصي، أيقونة ازنزارن وحارس سرها المهيب، الشامخ الذي أدار جسده لكل ما يفضي إلى غير الموسيقى منذ السبعينات. وبكبرياء وزهد شبيه بأحوال المتصوفة، وببذل شبيه بمطر يهمي بعد طول يباس وشم الذاكرة بحديثه عن الثاوي في مسار ازنزارن الذي كانت تتصادى فيه صرخات عالم ثالث يمجد في معاشعو ذاكرته فكرة التحرر ويبحث عن مستقبل لإنسانية الإنسان، وعن لقائها السعيد بالباحث محمد ابزيكا الذي أخذ بيدها لأول مرة ليقدمها في الجامعة الصيفية بأكادير ويقدمها في الوقت نفسه للزمن المعرفي ولتؤسس بعدها انعطافات دالة في سجلاتها الشعرية والغنائية، مصطفى شاطر الذي أسس لنفسه مكانة كبرى كمثقف وكمحاور ظل وجهة الباحثين والباحثات في موسيقى وأشعار ازنزارن. مثقف حريص على بسط معالم المغايرة وتأمينها، إذ كان يرفض أن تكون ازنزارن صدى لمجموعات غنائية في جغرافيات لغوية مغايرة، ويعتبر أن هذه الإحالة ليست سوى ملمح دال على وضعية الثقافة الأمازيغية في سوق المبادلات الرمزية، والتي تكشف دوما عن تراتبية تحيل الممارسات الرمزية والجمالية الأمازيغية تابعة لأنساق ثقافية أخرى، وهي تراتبية تضمر اشتغال التصورات الكولونيالية التي كانت تنفي عن المتخيل الأمازيغي حيويته، كان في العمق يرج التطابق الذي يطمس فرادة التجارب ويبني تصوره برؤية تعددية واختلافية، وكموسيقي كان يتساند في حضوره عنفوان الإبداعي وهدير المعرفي وحرقة أسئلته. موسيقي خلع عن جسده ونزع عن روحه كل ما يعيق الخطو وسير الأقدام الحثيث جهة المغارات والأعماق والينابيع وجهة إيقاعات ضاربة بجذورها في الزمن الإفريقي.

الجسد الذي احتمى لأربعين سنة بأبراج ازنزارن العالية يرنو من خلالها إلى أراض شعرية بعيدة، بعيدا عن المبتذل والسطحي وهتافات الحياة وخلبها وضوضاء عالم لا يشبه نفسه، قبل أن تمتد إليه أياد فتبعده عن حضنه وحليبه الأول دون أن تبعده من الذاكرة ودون أن تمتلك جسارة فعل ذلك، كان يرهبها بالتأكيد صوته مثلما كان يشعرها صمته أيضا بالوجل، أياد من تلك الطينة التي قال رشيد أترحوت ذات يوم إنها تستخف بالذاكرة الحية.

لقد طهى من النار المتقدة في أعماقه وليله خبزا رمزيا به نسكن سغب الأعماق في خيباتنا وخسراننا وفي ضجرنا وحزننا وإحساسنا باليتم والاغتراب والعزلة.

إن الأصوات التي تنشغل بأسئلة هذه الثقافة وبأسئلة الذاكرة والتعدد الثقافي، وفي أوضاع ثقافية معقدة ومركبة ملزمة بالإنصات لهاته التجارب التي تنتمي إلى الأفق ذاته، أفق المقاومة والسؤال والبلاغة المقموعة، ملزمة بمصاحبتها المتأنية والاحتفاء بأثرها في أعمال تشق لنفسها مسارات إلى المتداول الثقافي وضمنا إلى المستقبل.

“ماذا لو…”، لست أمارس هنا إلا حقي في الحلم، صوتا قد يظفر برجع بعيد وفي الذاكرة تلتمع شذرة لنيتشه الذي كتب “قد قيل عن حق إن شعبا ما لا يتميز برجاله العظام، بل بالطريقة التي يكرمهم بها ويعترف لهم بالفضل”.

أحمد بوزيد: كاتب وناقد

شاهد أيضاً

أكادير تحتضن الملتقى الأول لتجار المواد الغذائية

تحتضن مدينة أكادير من 24 الى 26 يوليوز الجاري الملتقى الأول لجمعية تمونت لتجار المواد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *