مغرب الوحدة في التنوع: التعايش الحاصل والهرطقات المبتدلة – حين لم تعد للتفاهة عنوان

امحمد القاضي
بقلم: امحمد القاضي، رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله

التغيير الحاصل في المجتمعات الحالية، من تمكين للمرأة والإعتراف بحقوق العناصر الأصلية والروافد المتنوعة، والتطور السريع الذي أحدثته التكنولوجيا الحديثة والعالم الإفتراضي والتقارب بين الشعوب الذي نعيشه قلب مجرى التاريخ. وجعل العالم يعيش وسط قرية متقاربة تمد الجسور بينها بحرية، بعيدة عن تحكم وسيطرة الإرادة المركزية، لتبادل الأفكار والمشاركة في تقدم البشرية.

إلا أن بعض العقول المتحجرة لم تستوعب بعد هذا التحول الذي هو جزء من سيرورة الحياة، وظلت تعيش معنا جسديا اليوم، وتفكر بفكر العصر الوسيط، بل وتحن لثقافة الإقصاء والجاهلية في السلوك.

إلى عهد قريب كان الباحثون في علم الأنتوبولوجية يصفون إحساس الأجنبي عند لقائه الأولي في بلد تفصله به مسافات وبمجتمع مختلف بعادات بالتصادم الثقافي (le stock culturel). لأن عالم القرن الماضي عرف فترة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والشرقي، وتباعد بين الشعوب، وتخوفات من المخالطات والتقارب بين الشعوب، وما بناء حائط برلين إلا نمودج على إنقسام الروحي والعاطفي لشعب واحد، ويعتبر إسقاط الحائط ثورة على الخوف من الآخر وعلى صناعة التباعد.

هذا التباعد كانت تغديه البربكاندا والآلة الإعلامية التي تصور الآخر كجاسوس، ومصدر الشر. وتجعل من المخبرين أبطال يتصدون للأجنبي حماية للوطن، وما أفلام جيمس بوند 007 الشهيرة، التي لم يعد لها مكان بيننا، إلا نمودج آخر لأفول حقبة زمنية. ولم تعد الكتاب والدبلوماسيبن المستشرقين، كلورنس العرب، والأفلام الوثائقية تصور شعوب العالم الثالث، تمهيدا للإستغلال وحجة للتدخل العسكري، كوحوش بدائية قابلة للإستعباد وإستعمار البلاد العذراء بدعوى المساعدة وإدخال التحضر.

في عالم يميل أحيانًا إلى الانقسام، يمكن أن يكون قبول الآخر طريقًا نحو مجتمع أكثر عدلاً وإنسانية.

أصبحنا اليوم نتحدث عن التعايش والإندماج الثقافي (Intégration culturelle)، والتسامح بين الأديان عوض الحروب الصليبية. أسقطت التكنولوجيا الحدود الوهمية، وتقاربت أنماط الحياة وغزت البتزا مطابخ البيوت، وسافر الطاجين لما وراء البحار، وأصبح الأسفار متاحة مع السماء المفتوحة وأسعار بعض الرحلات البعيدة في المتناول. وأصبحنا نرغب في إستكشاف المجهول والتعرف على الثقافات البعيدة التي كانت لعهد غير بعيد تشكل إندهاش وتخلق مخاوف وتوجسات داخلنا.

حين يقطع العالم كل هذه المراحل بكل ثقة، ويقبل بإحتضان الغريب، فكيف لا نستوعب وسط وطن، ألف التعايش لقرون من الزمن، التنوع داخل الحق في الإختلاف؟

قطعنا في المغرب أشواط بالإعتراف بالمكون اليهودي والعبري كجزء من الوطن، وجاء خطاب أجدير ودستور 2011 ليقطع رسميا مع إقصاء دام لعقود وعان منه نفسيا العنصر الأمازيغي داخل بلده.

المغرب على الدوام وخاصة حديثا خلق تربة خصبة للتعايش بين مكونات الوطن والتسامح بين الأديان والإحترام المتبادل يحسد عليها. وظل الشعور الشعبي بالوحدة في التنوع يلازم أحياء المدن. والتناغم بين الثقافات غنا وطنيا، نمت وسطه رحمة ومودة بين مكونات الوطن بعيدًا عن إثارة النزاعات الصغرى و الانقسامات التافهة.

ويخرج أحد المسمى “مؤثر” فيسبوكي ليغرد خارج السرب، ضدا في الإختيارات الرسمية للأمة، لأن تكوينه للأسف لم يسمح له أن يستوعب كل هذه التحولات، وليصف عنصر مكون للهوية الوطنية بأقلح النعوت. أي “مؤثر” هذا لم تؤثر فيه التغيرات العالمية الحديثة؟ ويعيش ببرودة الكتف من عائدات الأدسانس، بنقصان في القدرات وضعف في التربية ويستغل التهافت على التفاهة، ليخلق البوز أو الفتنة، ويعيد عقارب الساعة للوراء.

سبق لأحد الجامعيين والدعاة المحسوبين على التيار الإسلامي أن وصف علنا وسط مجمع بأحد الدول المشرقية السوسيين بالبخل، دون خجل، ونكت عن كيف يضع مرآة بالدرج للتأكد من أنه هو من يفتحه. كما وصف أحد القادة الحزبيين أثناء تحمله مسؤولية رسمية تيفيناغ “بالشينوية”.

لم يعد للتفاهة عنوان، ولا للفكر الإقصائي مرجع، ولا للسماحة مكانة في العقول المتحجرة، ولم تنفع لا التجربة ولا التدين ولا المخالطة إستشفاء بعض النفوس المريضة.

المغاربة متنورون واعون بوطنيتهم ووحدتهم ولن تغير الخرجات المتهورة للتافهين حق أنملة في التغيير الإيحابي البناء.

البعض منا فاتهم القطار ولم تعد أمامهم للأسف محطة أخرى للحاق بالركب، سيظلون بأمتعتهم ينتظرون داخل المحطة المظلمة الذي قد يأتي أم لا يأتي، كما هو حال بطل مسرحية الكاتب المسرحي الإيرلندي الشهير صامويل بيكيت في مسرحية “في إنتظار غودو.”

وإنتظروا أيه الغلات والتافهين زمن ولى دون رجعة.

اقرأ أيضا

“اللغة الأمازيغية بالمغرب: تحديات البقاء ومخاطر الانقراض بعد إحصاء 2024”

تقف اليوم اللغة الأمازيغية بالمغرب، باعتبارها ركيزة أساسية في تكوين الهوية الوطنية المغربية، أمام تحدٍ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *