مهما كانت قيمة استجلاء الحقيقة التي نصبو إليها ، كمطلب يعلو على الواقع و على حسابات السياسة ، لا يمكن أن تقل عن الحقيقة القضائية كتوليف بين نسبية قرينة البراءة وبين نسبية مبدأ عدم الإفلات من العقاب ، باعتبار أن الردع العام شرط لاستثباب الأمن والحماية المجتمعيين وحفظ النظام العام ، وفي ظل نقصان التفعيل العميق لمبدأ استقلال السلطة القضائية بسبب نزوع السلطة التنفيذية ، برأسيها الأصل والمنتدب ، فإن تصور أي حماية من أي تعسف في استعمال القانون والقضاء في حق المعارضين والخصوم السياسيين لا ينبغي أن يتحول الى درجة توفير حصانة مطلقة للمعنيين ، وإلا صار العمل السياسي أو الحزبي ملاذا أو جنة للإعفاء من المسؤولية الجنائية حتى لا نقول للفارين من العدالة الجزائية .
وهذا يطرح عدة إشكالات قانونية ما فوق حقوقية وسياسية ، بل يثير مسؤولية المثقفين الذي يفترض فيهم إعمال التفكير النقدي عبر أدوات الفلسفة من أجل تأطير دواعي التأسيس لدولة الحق بالقانون ، لأنه لا يمكن الحديث عن العدالة ( عبر ثنائية الإنصاف والجزاء المتقابلين ) دون تأهيل مقتضيات الحقيقة القضائية ووسائل جبر الضرر ، ولأنه تنعدم الإرادة السياسية لدى السلطة العمومية لتمكين المؤسسة القضائية من السلطة والإستقلالية بصفة عملية وواقعية ، فإنه بمقتضى ربط النتائج بالمقدمات ، سنعاين تواتر تحول مطلب الحق في التقاضي وجبر الضرر ، إعترافا وإنصافا ، من مطلب دستوري أو قانوني و حقوقي إلى طلب سياسي ، تتجاوز ضرورة الحسم فيه وإجراءاته فضاء ” قصر ” العدالة ، فتبرم الأحكام خارج منطق ومعايير المحاكمة العادلة ، فتُقابِل هُتافاتُ الشارعِ المفترضة هَواتِفَ الدواليب الإفتراضية ، وفي هذه نحتاج إلى تسويات على هامش أطوار المحاكمات ،أي بالموازاة ، ليطرح السؤال المفترض علاجه منذ زمان ، منذ انتقال الصراع من استهداف السلطة إلى طلب المشاركة إلى جانب الدولة في تدبيرها أو إصلاحها من داخلها : كيف يمكن الإقتناع بأنه رغم إفتراض أو تمثل سلمية الصراع السياسي والإجتماعي.
ستظل الكلفة المطلوب تسديدها حاضرة بقوة ، وعلى من يريد ” النضال ” أن يعول على أداء ضريبة عن اختياره وفعله ، إن بالقمع المباشر أو بتصفية الحساب ، وفي نفس الآن الوعي بأن وسائل تدبير الصراع غير متكافئة ، في ظل اختلال موازين القوة ؟ أليس ما يدعو إلى تقييم ونقد مدى ملاءمة الشرط الذاتي للفعل الحزبي مع التحولات الحارية في العلاقة مع سؤال المراجعات الفكرية والسياسية التي تمت قبل سقوط جدار برلين ، ومع سؤال التحيين السياسي بالتجديد الفكري بعد انهيار المنظومة الشيوعية ؟ وهل تغني المقاربة الحقوقية ، كإنجيل للبرالية ، عن المرجعية الإشتراكية كعتبة ومدخل للمجتمع ” الخالي ” من الصراع الطبقي دون إحداث قطائع في التمثلات والفكر والممارسة وكذا كل تداعيات وأعطاب الماضي غير المنتجة للتطور والتقدم ؟ أليس التفكير في النبش في وعاء التناقضات عن فجوة ما لترتيب تحالفات غير طبيعية بمثابة تيه في صيغة حنين لعودة مطلب ” حيازة ” السلطة السياسية بصرف النظر عن نوعية البديل ومدى تقدميته أو ديموقراطيته ؟
أظن ، رغم أن بعض الظن إثم دون أن يكون عدوانا ، أن ما نعيشه من تماهي ، في الاختيارات والاصطفافات ، لا يخرج عن أمرين إثنين ، إما التخنذق مع الأصولية ذات المرجعية الدينية ، الحزبي أوالدعوي ، وإما السقوط موضوعيا ، أو عن طواعية وحرية اختيار في صف الأصولية الدولتية ، وإن هذا الأمر المحتمل مهدت له و تمهد له كل الإحباطات التي عرفها الحقل السياسي ، والذي تتقادفه الترددات والبياضات والتسويات التي تجسر العلاقة المتماهية بين ما هو مدني وما هو سلفي ، وانعكاس ذلك على التوازن بين الخرية والنظام العام ، وبين حماية الحق العام وفلسفة العقاب ، داخل الحقلين الحزبي والحقوقي ، مما يستدعي معالجة أسئلة ومهام الفصل بين السياسة والدين والمال وحقوق الإنسان بالعودة إلى تأصيل المرجعيات والمنطلقات، وإلا كرسنا القضاء قدرا ، والعدالة سياسة أمنية ، والحركة الحقوقية مجتمعا سلفيا بإسم حرية الإعتقاد المكرسة للخصوصية القاتلة لروح الحق القابضة على روح مدنية الدولة المنشودة ، وعوض أن نتحول دولة ومجتمع نحو التقدم والحداثة ، نغرف في مستنقع التكيف مع التعايش القسري لأنماط الإنتاج الهجينة ، حيث يهيمن النمط التقليداني بلبوس ظاهره ليبرالي وجوهره إقطاعي.