مقاومة إنهيار قيمة الكونية وعودة لاهوت الخصوصية

مصطفى المنوزي

مهما كانت قيمة استجلاء الحقيقة التي نصبو إليها ، كمطلب يعلو على الواقع و على حسابات السياسة ، لا يمكن أن تقل عن الحقيقة القضائية كتوليف بين نسبية قرينة البراءة وبين نسبية مبدأ عدم الإفلات من العقاب ، باعتبار أن الردع العام شرط لاستثباب الأمن والحماية المجتمعيين وحفظ النظام العام ، وفي ظل نقصان التفعيل العميق لمبدأ استقلال السلطة القضائية بسبب نزوع السلطة التنفيذية ، برأسيها الأصل والمنتدب ، فإن تصور أي حماية من أي تعسف في استعمال القانون والقضاء في حق المعارضين والخصوم السياسيين لا ينبغي أن يتحول الى درجة توفير حصانة مطلقة للمعنيين ، وإلا صار العمل السياسي أو الحزبي ملاذا أو جنة للإعفاء من المسؤولية الجنائية حتى لا نقول للفارين من العدالة الجزائية .

وهذا يطرح عدة إشكالات قانونية ما فوق حقوقية وسياسية ، بل يثير مسؤولية المثقفين الذي يفترض فيهم إعمال التفكير النقدي عبر أدوات الفلسفة من أجل تأطير دواعي التأسيس لدولة الحق بالقانون ، لأنه لا يمكن الحديث عن العدالة ( عبر ثنائية الإنصاف والجزاء المتقابلين ) دون تأهيل مقتضيات الحقيقة القضائية ووسائل جبر الضرر ، ولأنه تنعدم الإرادة السياسية لدى السلطة العمومية لتمكين المؤسسة القضائية من السلطة والإستقلالية بصفة عملية وواقعية ، فإنه بمقتضى ربط النتائج بالمقدمات ، سنعاين تواتر تحول مطلب الحق في التقاضي وجبر الضرر ، إعترافا وإنصافا ، من مطلب دستوري أو قانوني و حقوقي إلى طلب سياسي ، تتجاوز ضرورة الحسم فيه وإجراءاته فضاء ” قصر ” العدالة ، فتبرم الأحكام خارج منطق ومعايير المحاكمة العادلة ، فتُقابِل هُتافاتُ الشارعِ المفترضة هَواتِفَ الدواليب الإفتراضية ، وفي هذه نحتاج إلى تسويات على هامش أطوار المحاكمات ،أي بالموازاة ، ليطرح السؤال المفترض علاجه منذ زمان ، منذ انتقال الصراع من استهداف السلطة إلى طلب المشاركة إلى جانب الدولة في تدبيرها أو إصلاحها من داخلها : كيف يمكن الإقتناع بأنه رغم إفتراض أو تمثل سلمية الصراع السياسي والإجتماعي.

ستظل الكلفة المطلوب تسديدها حاضرة بقوة ، وعلى من يريد ” النضال ” أن يعول على أداء ضريبة عن اختياره وفعله ، إن بالقمع المباشر أو بتصفية الحساب ، وفي نفس الآن الوعي بأن وسائل تدبير الصراع غير متكافئة ، في ظل اختلال موازين القوة ؟ أليس ما يدعو إلى تقييم ونقد مدى ملاءمة الشرط الذاتي للفعل الحزبي مع التحولات الحارية في العلاقة مع سؤال المراجعات الفكرية والسياسية التي تمت قبل سقوط جدار برلين ، ومع سؤال التحيين السياسي بالتجديد الفكري بعد انهيار المنظومة الشيوعية ؟ وهل تغني المقاربة الحقوقية ، كإنجيل للبرالية ، عن المرجعية الإشتراكية كعتبة ومدخل للمجتمع ” الخالي ” من الصراع الطبقي دون إحداث قطائع في التمثلات والفكر والممارسة وكذا كل تداعيات وأعطاب الماضي غير المنتجة للتطور والتقدم ؟ أليس التفكير في النبش في وعاء التناقضات عن فجوة ما لترتيب تحالفات غير طبيعية بمثابة تيه في صيغة حنين لعودة مطلب ” حيازة ” السلطة السياسية بصرف النظر عن نوعية البديل ومدى تقدميته أو ديموقراطيته ؟

أظن ، رغم أن بعض الظن إثم دون أن يكون عدوانا ، أن ما نعيشه من تماهي ، في الاختيارات والاصطفافات ، لا يخرج عن أمرين إثنين ، إما التخنذق مع الأصولية ذات المرجعية الدينية ، الحزبي أوالدعوي ، وإما السقوط موضوعيا ، أو عن طواعية وحرية اختيار في صف الأصولية الدولتية ، وإن هذا الأمر المحتمل مهدت له و تمهد له كل الإحباطات التي عرفها الحقل السياسي ، والذي تتقادفه الترددات والبياضات والتسويات التي تجسر العلاقة المتماهية بين ما هو مدني وما هو سلفي ، وانعكاس ذلك على التوازن بين الخرية والنظام العام ، وبين حماية الحق العام وفلسفة العقاب ، داخل الحقلين الحزبي والحقوقي ، مما يستدعي معالجة أسئلة ومهام الفصل بين السياسة والدين والمال وحقوق الإنسان بالعودة إلى تأصيل المرجعيات والمنطلقات، وإلا كرسنا القضاء قدرا ، والعدالة سياسة أمنية ، والحركة الحقوقية مجتمعا سلفيا بإسم حرية الإعتقاد المكرسة للخصوصية القاتلة لروح الحق القابضة على روح مدنية الدولة المنشودة ، وعوض أن نتحول دولة ومجتمع نحو التقدم والحداثة ، نغرف في مستنقع التكيف مع التعايش القسري لأنماط الإنتاج الهجينة ، حيث يهيمن النمط التقليداني بلبوس ظاهره ليبرالي وجوهره إقطاعي.

اقرأ أيضا

قراءة وتحليل لقرار مجلس الأمن رقم 2756 حول الصحراء المغربية

قبل أن نبدأ في التفصيل وشرح مقتضيات القرار 2756، يبقى جليا بنا أن نقف على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *