لم تتجاوز نسب المشاركة في الانتخابات الرئاسية بمحافظات منطقة القبائل على العموم واحداً في المئة، في تجديد لسلوك هذه المنطقة تجاه معظم الاستحقاقات التي شهدتها الجزائر في العقود الثلاثة الأخيرة، ويبدو أن نسب المشاركة في هذه الرئاسيات كانت الأضعف على الإطلاق، بل رافقتها عمليات “عرقلة” لعملية التصويت، إذ بلغ عدد مكاتب الاقتراع التي أغلقها محتجون 293 من أصل حوالي 60 ألف.
وتمثل منطقة القبائل التي تسكنها غالبية من الأمازيغ، الهاجس الأكبر للسلطة عند كل استحقاق انتخابي، بسبب التمرد الانتخابي والقطيعة السياسية المستمرة التي تمارسها المنطقة منذ عقود، لظروف سياسية وتاريخية، بحيث لا تتجاوز نسبة المشاركة في التصويت في مدنها 20 في المائة في الغالب.
ولم يجرؤ أي من المرشحين الخمسة للانتخابات الرئاسية، عبد المجيد تبون وعبد القادر بن قرينة وعبد العزيز بلعيد وعز الدين ميهوبي وعلي بن فليس، على عقد تجمعات انتخابية في منطقة القبائل، عدا عن تجمع وحيد، انتهى بمشاكل وصدام عنيف، عقده بن فليس في مدينة البويرة قرب العاصمة الجزائرية. كما لم ينجح أي من المرشحين في فتح مكاتب مداومات انتخابية له في تلك المنطقة المتمردة سياسياً، والمنخرطة بالكامل في مسارات الحراك الشعبي والمتمسكة بالمطلب الديمقراطي، خصوصاً وأنها كانت أول منطقة تتمرد على السلطة بعد الاستقلال عامي 1963 و1980.
“لم يحصل بوتفليقة خلال أربعة انتخابات على 23 في المائة من أصوات الناخبين في الولايات الثلاث”
وتتشابه ظروف وسياقات الانتخابات الرئاسية، المتسمة بالحراك الشعبي وتصاعد رفض المسار السياسي الحالي الذي تفرضه السلطة، مع ظروف الانتخابات النيابية التي أُجرِيت في العام 2002، والتي تلت أحداث الربيع الأمازيغي بين إبريل/نيسان ويونيو/حزيران 2002، التي خلفت 165 قتيلاً من سكان المنطقة، حيث تداعت حينها القوى السياسية المؤثرة في المنطقة، جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وهيئات عرفية محلية بالغة التأثير على السكان (العروش)، للدعوة إلى مقاطعة الانتخابات والامتناع عن التصويت، على خلفية أحداث العام 2001. وأقرت السلطات وقتها بنجاح تلك المقاطعة، إذ لم تتجاوز نسبة التصويت في انتخابات 2002 حدود 7.1 في المائة.
وفي الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 2004، لم تتجاوز نسبة المشاركة في تيزي وزو 21 في المائة، و14 في المائة بولاية بجاية. وفي الانتخابات الرئاسية في 2009، سُجلت أدنى نسبة مشاركة وتصويت بولاية بجاية بـ21.30 في المائة، و21.45 في المائة بولاية تيزي وزو. وبقيت النسبة في تلك الحدود في آخر انتخابات رئاسية شهدتها الجزائر في 2014، إذ بلغت نسبة المشاركة التي أعلنتها السلطات في ولاية بجاية 23 في المائة، وولاية تيزي وزو 20 في المائة، مع الإشارة إلى ضرورة أن يتم الأخذ في الاعتبار أن هذه الأرقام أعلنتها السلطات الرسمية، والتي كانت تشرف بنفسها على الانتخابات وإعلان النتائج، فيما شككت الهيئات المحلية والناشطون باستمرار في هذه النسب، مؤكدين أن نسبة التصويت الحقيقية هي أقل بذلك بكثير. واللافت أن الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة لم يحصل خلال أربعة انتخابات رئاسية ترشح فيها على ما مجموعه 23 في المائة من أصوات الناخبين في الولايات الثلاث، تيزي وزو وبجاية والبويرة، التي تمثل منطقة القبائل. وفي آخر انتخابات شهدتها الجزائر في العام 2017، لم تتجاوز نسبة التصويت واقع 7.34 في المائة في تيزي وزو، و8.4 في بجاية، ثاني أهم مدن المنطقة، فيما لم تتجاوز نسبة المشاركة بالبويرة، التي تعد ثالث ولاية في منطقة القبائل، 9 في المائة.
وسبق الاقتراع العام في الانتخابات الرئاسية في الجزائر إعلان سكان المنطقة رفضهم إجراء الانتخابات، دعماً للحراك الشعبي واعتراضاً على رفض الجيش الانسحاب من الحياة السياسية، وكذلك تعرض قائد الجيش أحمد قايد صالح، في عدد من خطاباته، لما يعتبره السكان مساساً بهويتهم في ما يعرف بقضية الراية الأمازيغية واعتقال عدد من الناشطين. وأعلنت مجالس محلية مساندتها لموقف السكان، وقررت مقاطعة تنظيم الانتخابات، فيما أقدم محتجون في عدة بلدات على تدمير صناديق الاقتراع، وهو ما تواصل أمس الخميس حيث تم تحطيم مركزين انتخابيين في بجاية، وهو مؤشر كان كافياً ليرسم صورة عن طبيعة اليوم الانتخابي ونسبة التصويت في منطقة القبائل.
“حالة التمرد الانتخابي المستمرة في هذه المنطقة لها خلفيات تاريخية“
واللافت أن حالة التمرد الانتخابي المستمرة في هذه المنطقة لها خلفيات تاريخية، تتعلق بصدامات سابقة بين السكان والسلطة المركزية، منذ التمرد المسلح للزعيم الثوري للمنطقة حسين آيت أحمد على سلطة الرئيس أحمد بن بلة بعد سنة واحدة من الاستقلال في 1963، ثم أحداث الربيع الأمازيغي في إبريل 1980، بسبب مطالب الهوية الثقافية، وتجدد الصدام في إضراب المدارس في 1994، ثم في أحداث “الربيع الأسود” في إبريل 2001. وفي العام 1997 وفي غمرة انتخابية نيابية مثيرة، وصف القيادي في جبهة القوى الاشتراكية حينها أحمد جداعي منطقة القبائل بـ”النقابة السياسية للجزائر”، حيث تتصدر المطالب السياسية والديمقراطية أغلب المحطات الهامة في تاريخ البلد، وتتحمل بسبب ذلك ضغطاً من السلطة، وهو ما يفسر ارتفاع مستوى المقاطعة الانتخابية في منطقة القبائل.
مناهضة الانتخابات
وشهدت تيزي وزو، كبرى مدن منطقة القبائل في شرق الجزائر العاصمة، حملة مناهضة للانتخابات الرئاسية، وخلا وسط المدينة من أي أثر لملصقات، أو لوحات إعلانية للانتخابات، التي خرجت حشود عبرت عن رفضها لها في جميع أنحاء الجزائر.
في مقابل ذلك امتلأت جدران المدينة الرئيسية في منطقة القبائل بالدعوات لإضراب عام لقي استجابة واسعة، ما يدل على التعبئة ضد الانتخابات الرئاسية في هذه المنطقة الناطقة بالأمازيغية، والمعارضة تاريخياً للسلطة.
وأوضح عمار بن شيكون، وهو جالس أمام محله المغلق “الإضراب ضربة قوية ضد الانتخابات. نريد أن تكون نسبة التصويت هنا صفراً”.
وأمام مقر الدائرة، الهيئة الحكومية التي تضم عدة بلديات، تجمع مئات المتظاهرين الرافضين للانتخابات ومنهم بوجمعة لخضاري، الذي قال: “هنا لا إمكانية لأن يضع أي ناخب ورقة تصويت في الصندوق. وفي الحقيقة لا توجد صناديق، ولا مكاتب اقتراع!”.
وأمام حشد كبير في حالة غضب قال ماسينيسا حوفل، وهو محام يبلغ من العمر 29 عاما: “نحن هنا لنؤكد مرة أخرى رفضنا للانتخابات ولكن بطريقة سلمية، لا نريد أن نعيش مآسي الماضي”. وكان يشير إلى المواجهات الدامية التي عرفت بـ “الربيع الأسود” سنة 2001، واندلعت إثر مقتل شاب داخل مقر للدرك الوطني عشية الاحتفال بالربيع الأمازيغي، وهي مناسبة لتجديد مطالب الاعتراف بالهوية الأمازيغية. وأسفرت المواجهات عن مقتل 126 شخصا وآلاف الجرحى.
وقال ماسينيسا حوفل إنه “مصدوم” لوجود مرشحين مثل علي بن فليس، رئيس الوزراء أثناء قمع التظاهرات في عام 2001، أو رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون، وكلاهما عمل تحت السلطة المباشرة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة قبل أن يجبره الشارع على الاستقالة.
وأقسم حوفل أن “لن يكون هناك تصويت، يجب على السلطة أولا إطلاق سراح سجناء الرأي”، في إشارة إلى مئات المحتجين والنشطاء والصحافيين الذين اعتقلوا أو حُوكموا وأدينوا، حسب منظمات حقوق الإنسان.
*وكالات