بقدر ما تتاح فرص تاريخية لتحقيق مزيدا من المطالب الحقوقية، تفرض علينا بعض الصراعات الثانوية معارك هامشية، نضطر معها العودة الى الصفر، ولا يعود يهمنا سوى تحصين المكتسبات والاستقرار في نفس النقطة، بإسم «تفضيل» بقاء الحال على ماكان، قبل أن تنطلق «حمى» الانتخابات، غير كافية حتى لتقييم الحصيلة، سوف تستغرقنا الحروب الصغيرة، وهاهي التصفيات اللفظية تتواصل على صفحات المواقع الافتراضية، أبطالها بعض الزعماء «المأجورين» والشخصيات التي أعياها الزمن السياسي بسبب التعرية والاستعمال غير المنتج للنظريات، تكشر عن أنيابها وتخرج مخالبها، لكي يفوز «السياسي» على أنقاض “الفعل الحقوقي”، والبعد الإستراتيجي الإجتماعي.
و بعيدا عن قواعد النبل والتنافس المشروع، والروح الرياضية أو العمالية المتبجح بها، ليظل العمل الجماهيري/الجمعوي مجرد ورقة للضغط أو الإبتزاز والمساومات، والحال أن الملفات المطلبية تفوق في ارتفاع رفوفها ناطحات سحاب أفق ديمقراطيتنا المنشودة، فكيف لنا أن نؤهل الفعل الحقوقي ليرقى بالعناية بالحقوق الإنسانية في شموليتها وكونيتها، وليصير موضوعها الفرد والجماعة كمواطنين ومواطنات دون تكريس لأي مواطنة إمتيازية، بين هذا الإنسان الذي أعتقل لأسباب سياسية مباشرة أو ذاك الذي اعتقل لأسباب غيرها، مادام المطلوب هو ضمان إحترام القانون ومساطر المحاكمة العادلة.
منذ الإيقاف إلى تنفيذ العقوبة، إذا كان للإدانة موجب، بعد إستنفاذ كل ممكنات الطعن العادية وغيرها؛ مرورا بظروف الإعتقال والإستنطاق والتحقيق، ورصد مدى إحترام آجال الحراسة النظرية وسلامة الإجراءات وإنعدام الإكراه أو التعذيب أو التعنيف وسوء المعاملة أو العقوبة القاسية، وكذا إجراءات ضمان حق الدفاع، وهي مقتضيات قانونية كونية لا يمكن مراعاتها بالتمييز بين معتقل الرأي أو معتقل الحق العام، مادام أن الوعي يفترض أن القضاء لم يتملك سلطته المستقلة بما يكفي، في ظل نظام يتكيف دون أن يتحول ديموقراطيا. صحيح أنه ينبغي فضح خلفيات الإعتقال وبأن الذريعة مفارقة للسبب الحقيقي رغم التماهي بينهما ولكن دون الرهان بالمطلق على قرينة البراءة، لأن التمثلات المجتمعية والأمنوية تعطي الأولوية ل “لردع” الأخلاقي على “الردع” القانوني، مما يؤكد بأن جدوى التمييز، بين المواطنين، غير مجدية وغير منتجة للحقيقة القضائية، بل أحيانا تكون موجبة لظروف التشديد لمساسها بالمساواة كمبدأ حقوقي وبتكافؤ الفرص كمبدأ دستوري، خاصة وأن بعض القضاة لا زالوا يعتبرون أنفسهم موظفين عموميين لدى السلطة التنفيذية، وكل ما هو سياسي يفزعهم.
لذلك فدور الحقوقيين هو مقاربة الاعتقالات والمحاكمات، حقوقيا، أي من زاوية رصدها كانتهاكات تعسفية و غير قانونية لحقوق الإنسان، لا من زاوية اعتبار ضحيتها فاعلا سياسيا أو حقوقيا، فهذا دور يبقى حكرا على الفاعل السياسي أو الإعلامي اللذين عليهما مساءلة وإدانة سياسة الإنتقام و تصفية الحسابات، وفضح غاياتها التعسفية، تنويرا للرأي العام، لأنه في جميع الحالات لا ينبغي أن يفهم لدى هذا الأخير بأنه هناك إرادة لتكريس حصانة مفترضة وشرعنة للإفلات من العقاب لفائدة فئات معينة من المواطنين، بسبب هذه المواطنة الإمتيازية؛ بدعوى أن للضحايا علاقة بالعمل الحزبي ومشتقاته، في زمن صارت للجميع علاقة اضطرارية بالسياسة كفاعلين أوكموضوع لها، مع فارق جلي أن المناضلين الحقيقيين يعون جيدا أن أساليب القمع والردع تغيرت، وبأن كلفة النضال لن تقل عن عقوبة الإغتيال، وما أفظع وقعا وألما من الإغتيال المعنوي أو الرمزي، فاستعمال “الجريمة الأخلاقية” مفيد جدا للعقل الأمني وغير مكلف سياسيا او حقوقيا لدى الخارج، وخاصة في مجتمع يعيش ازدواجيات سشيزوفرينية، بفعل طول تاريخ القمع والانتهاكات على امتداد عقود.
هذا العقل الذي لم يعد يتحمل الصمود و التعايش مع نضال النزاهة والمبادئ والكرامة وقيم السياسة النبيلة، من هنا وجب التعامل مع معطى حلول عصر تطبيق القانون الناعم بعقلانية، والتفكير في صيغ بديلة للتعامل مع جدوى دمقرطة الحق في الأمن وتجويد تدبير القوة العمومية، لأن مطلب الحكامة الأمنية لم يعد ترفا فكريا، خصوصا وأن الفاعلين الحزبيين يعتقدون بأن الشأن الأمني مجال محفوظ ويستسلمون طوعا لمقولة “كم من حاجة قضيناها بتركها “. لذا فإن مناهضة الاعتقال التعسفي والتحايلي يقتضي فتح نقاش عمومي لتسطير خطة وطنية تعتمد مبدأ التحقيق بدل سلطة الاتهام توفق بين جدوى مبدأ عدم الإفلات من العقاب وبين جودة قرينة البراءة؟