كلما اندلعت المواجهات بين حماس وإسرائيل، وانطلقت مسيرات التضامن مع فلسطين، نشطت بجانب ذلك آلة أخرى للتحريض والإشاعة هدفُها تصفية الحسابات مع الخصوم الإيديولوجيين والسياسيين بسبب أمور لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية. إنها معركة موازية تستغل القضية التي استُعملت على مدى تاريخها الطويل استعمالا انتهازيا في كل الاتجاهات، دون أن ينعم الفلسطينيون بالأمان والتحرّر وإنهاء الاحتلال.
ويبدو أننا اليوم ملزمون بالتمييز بين جوهر القضية الفلسطينية بأبعادها التاريخية والسياسية والثقافية، والتي لا خلاف حولها بين النزهاء من أبناء المغرب، وبين الشوائب والقشور التي علقت بها على مدى عقود طويلة، هذه الشوائب والقشور هي الخطابات الإيديولوجية والأحكام والرؤى التي أنتجتها التيارات المختلفة حول القضية، والتي لم تكن خطابات بريئة بحكم التوظيف الذي قامت به للقضية الفلسطينية، في معترك الخلاف السياسي والإيديولوجي بين الفرقاء والتيارات المتناحرة في غياب الحلّ الديمقراطي الحاسم.
فعلى مدى 75 سنة تمّ تأطير القضية الفلسطينية بمرجعيتين إيديولوجيتين أضرّتا بها أيما إضرار: “القومية العربية” ثم “الإسلام السياسي”، الأولى جعلت القضية قضية تعريب لشعوب المنطقة، ووجهت خطابها لـ”وطن عربي” مدعو باسم “الدم العربي” و”الأخوة العربية” إلى النضال من أجل فلسطين، وكان على الأمازيغ والكورد والأقباط والزنوج والفرس والترك أن يثبتوا عروبتهم لكي يصحّ نضالهم من أجل فلسطين، حيث تمّ الربط عضويا بين القضية وبين وحدة العرب “من المحيط إلى الخليج”.
أما الإيديولوجيا الثانية فقد استعملت القضية من أجل الأسلمة السياسية بهدف الوصول إلى استعادة “الخلافة”، فكانت “كراهية اليهود” والصراع الديني معهم أساس التحسيس بالقضية الفلسطينية التي هي قضية تحرر من الاحتلال ولا علاقة لها بصراع المسلمين واليهود قبل 14 قرنا في سياق تاريخي خصوصي. ولأنّ منظمة التحرير الفلسطينية كانت تعتمد خطابا مغايرا فقد أدى ظهور الإسلام السياسي في فلسطين إلى انقسام الصف الفلسطيني وإضعافه، خاصة بعد أن رفضت المقاومة الإسلامية المفاوضات والحلّ السياسي المقترح في اللقاءات والقمم الدولية.
وهكذا استَنزفت التيارات الدينية القضية دون أن تجد لها حلاّ، ودون أن تنجح في إيقاظ الضمير العالمي الذي لا يهتم بانشغالات العقل القومي العربي ولا بأوهام الخلافة والانتقام لأمجاد متخيلة، بل إن الأنظمة السياسية العسكرية أيضا والتي تبنت القومية العربية استعملت القضية الفلسطينية استعمالا فاحشا دون أية نتيجة سوى الهزائم المتكررة، وآخر هذه الاستعمالات الانتهازية ما قام به النظام العسكري الجزائري سنة 2022 ردا على الاتفاقية الثلاثية بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل باستضافة مؤتمر للفلسطينيين من أجل “لمّ الشمل” وتحرير فلسطين، ثم التخلي عنهم بعد ذلك بمقاطعة قمة القاهرة قبل أيام فقط، والتي عقدت بهدف إيقاف إطلاق النار وحماية سكان غزة من العدوان والقصف الإسرائيلي اليومي.
ولعلّ الحركة الأمازيغية عانت أكثر من غيرها من آلة الدعاية الإخوانية والقومية، ويعود ذلك إلى أنها وجدت نفسها منذ البداية وهي تؤسس خطابها الترافعي من أجل الحقوق الثقافية واللغوية ملزمة بنقد هاتين الإيديولوجيتين، بسبب إنكارهما للخصوصيات الثقافية لشعوب المنطقة، ورغبتهما في تذويب تلك المكونات جميعها في بوتقة “العروبة والإسلام”، وقد اعتمدت نخبة الحركة في ذلك على العلوم الإنسانية وخاصة منها التاريخ والأركيولوجيا والأنثروبولوجيا واللسانيات والقانون وعلم السياسة، كما اشتغلت انطلاقا من المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، وفق آليات الترافع السلمي المتعارف عليها لدى المجتمع المدني عبر العالم. ولأن الحركة الأمازيغية استطاعت في النهاية أن تنتصر انتصارا مجيدا سواء من الناحية الفكرية أو السياسية، وأصبحت مطالبها ذات مرجعيات سياسية ودستورية وقانونية في الدولة المغربية، فقد أضمر لها أتباع القومية العربية والإسلام السياسي الكثير من الضغائن التي يفرجون عنها بين الفينة والأخرى، بشكل يخرج عن طور التعقل أحيانا ويبدو في صيغة هذيان أو وسواس قهري، يصرف انتباه المواطنين عن جوهر القضية الفلسطينية إلى التهجم على الأشخاص والتنظيمات، بل وحتى على الدولة نفسها.
ومن غرائب ما قام به هؤلاء الإيديولوجيون ـ بسبب انعدام البراهين لديهم فيما يدعون ـ فبركة أخبار وصُور وفيديوهات لا أساس لها في الواقع، معتمدين أساليب الدسّ والتزوير والكذب من أجل التشهير بمن يخالفهم في وجهة النظر ليس حول جوهر القضية الفلسطينية، بل حول قراءاتهم وتأويلاتهم لتفاصيل الأحداث والوقائع.
ومن غرائب هذه الأخبار الملفقة ادعاء بعضهم أن حراك الريف كان مخترقا من طرف المخابرات الإسرائيلية، في استهتار تام بمعتقلي الحراك الذين ما زالوا قابعين في سجون السلطة، وقول بعضهم إن الأمازيغ يتدربون على استعمال الأسلحة في أعالي الجبال بتحريض من إسرائيل لزعزعة استقرار المغرب (كذا !)، وادعاء بعضهم بأنّ كل يهودي مغربي مقيم بالمغرب هو صهيوني يعمل على تسهيل التطبيع مع الدولة العبرية، مع العلم أن التطبيع صار سياسة معلنة للدولة المغربية. وادعاء بعضهم بأنّ الحركة الأمازيغية معادية للقضية الفلسطينية وموالية لإسرائيل وتؤطرها أجهزة الدولة العبرية، ولأن الذين اخترعوا هذه الأكاذيب يعلمون قبل غيرهم بعدم صحتها فقد عمدوا إلى صياغة فيديوهات وصور ومنشورات بطريقة ماكرة تعتمد التزوير والتلفيق، ومن آخرها الفيديو الذي تناقلوه فيما بينهم وحاولوا نشره ويتضمن شخصا إسرائيليا يتحدث بالعبرية، ووضعوا له الترجمة التالية:
“لقد خسرنا المعركة الإعلامية، ونواجه إرهاب حماس لوحدنا، أين أصدقاء إسرائيل في المغرب مثلا، أين المتملقين من الحركة البربرية، نواجه حماس يا سفلة، كم صرفنا عليهم من أموال وتدريب، لا نريد مقالاتكم ومنشوراتكم على الشبكات الاجتماعية، انزلوا إلى الشوارع في مسيرات واحملوا أعلام دولة إسرائيل، إن لم تقفوا معنا في هذه المحنة ستندمون، إسرائيل ستنشر كل ملفاتكم وفضائحكم، إسرائيل لن تخدعوها يا خونة، نحن من صنعناكم ودعمناكم”.
ويبدو واضحا أن من صاغ هذه الفبركة يعاني من خلل نفسي لا غبار عليه، إذ لا يمكن لشخص سوي أن يقوم بهذا العمل الشنيع، حيث لا علاقة لكلام المتحدث لا بالمغرب ولا بالحركة الأمازيغية لا من قريب ولا من بعيد، مما يظهر بأن الفاعلين تعمدوا الكذب على الرأي العام بغرض الإساءة للحركة الأمازيغية، وهذا منافي لأخلاق النضال من أجل القضية الفلسطينية.
وتقول الترجمة الصحيحة للفيديو ما يلي:
“علينا أن نخطف رئيس إيران وأمير قطر ونقوم بأي شي ليقول العالم كله لحماس بأن من مصلحتها إطلاق سراح المختطفين، وكما نجحنا في الوصول إلى “عنتيبي” يمكننا أيضاً أن نحرر هؤلاء المختطفين وتكون يد إسرائيل هي العليا، لنحسم ونحفظ أمن إسرائيل ل100 سنة القادمة، حتى لا نحتاج في دولة إسرائيل إلى الملاجئ أو حراس الأمن في مراكز التسوق، حتى نتمكن بعون الله من ذلك”.
(المقصود ب “عنتيبي” عملية تحرير إسرائيل للمختطفين بمطار عنتيبي بأوغاندا سنة 1976).
والسؤال المطروح هو: لماذا يضطرون إلى الكذب والتلفيق والتزوير إذا كانت الحركة الأمازيغية حليفة لإسرائيل ؟ لماذا تعوزهم الحُجة وينقصهم البرهان إلى درجة صياغة الأكاذيب ؟ والغريب أن منهم من يذكر حتى أسماء العسكريين الإسرائيليين الذين يجندون المغاربة الذين يختلفون معهم، وهو سلوك ينمّ عن غاية الخبل والاضطراب النفسي.
لقد أصدرت النقابة الوطنية للصحافة بيانا تندّد فيه بظاهرة التشهير بالأشخاص عبر توظيف القضية الفلسطينية، ونعتقد أن على الحكومة أن تعمل على التسريع بإصدار النسخة المعدلة من القانون الجنائي، والتي ينبغي أن تتضمن المواد الزجرية الضرورية المجرّمة للكذب والتشهير والتحريض على الكراهية بشكل مجاني بغرض الإضرار بالأشخاص أو التنظيمات، سواء في الشارع أو على شبكات التواصل الاجتماعي التي تُستعمل أسوأ استعمال في بلادنا، إما بسبب الجشع المادي الانتهازي، أو بسبب الخلاف الإيديولوجي، وذلك حتى يتوفر لهؤلاء الذين يتعرضون لهذا النوع من الإساءة، السند القانوني الواضح من أجل المتابعة القضائية للمعتدين.
لا شك أن القضية الفلسطينية قضية عادلة تستحق الدعم المبدئي من كل أحرار العالم، لكن بعض المدافعين عنها يسيئون إليها بتوظيفاتهم لها بطرق غير أخلاقية.