من أجل فهم موضوعي لمشكلة الريف

د.عبدالله الحلوي

كتب السيد خالد الحري، رئيس تحرير جريدة الصباح، مقالة افتتاحية لجريدته شكك فيها في ما سمّاه ” الركوب الممنهج على التاريخ والجغرافيا والخصوصية ومآسي السكان لإشعال الفتن والمؤامرات” مشيرا بذلك إلى الإحتجاجات التي اندلعت في الحسيمة والمناطق المجاورة لها مؤخرا. ورغم أن الكاتب يعترف ب “المطالب الاجتماعية لسكان الحسيمة والناظور وإمزورون والدريوش التي تدفع، كغيرها من المدن والقرى المغربية، ضريبة اختيارات لاشعبية وبؤس برامج التنمية والتوزيع غير العادل للثروات” فإنه يدعو الدولة إلى عدم التساهل مع هذا الحراك لأن كل تعامل مع هذا الحراك بمنطق “ضبط النفس” و”الصبر الإستراتيجي” سيؤدي إلى التشجيع على “التمادي في الاحتلال الدائم للشارع، ليس فقط في الريف، بل في مناطق أخرى”.

خلاصة كلام خالد الحيري: حراك الريف “فتنة” وينبغي أن تتعامل معه الدولة بمنطق العصا الحديدية … يصعب أن يصدق المرء أن هناك مثقفا في القرن الواحد والعشرين يحرض الدولة ضد شعبه، لكن تناول خالد الحيري اللاعقلاني لمشكلة الريف لن يثنينا عن تناول مشاكل الريف بشكل عقلاني.

لا أريد، من خلال هذا المقال، أن أمارس “الأستاذية” على الدولة وأهل الريف، ولكني سأحاول أن أطرح مجموعة من التساؤلات العقلانية التي تحتاج إلى أجوبة عقلانية … أسئلة ينبغي أن يساهم مثقفو المغرب في الإجابة عنها بكياسة العلماء ونضج الحكماء.

ما هي المحددات الموضوعية لما يحدث في الريف؟

هل تستفيد مدينة الحسيمة من ميزانيات تلائم حجم وطبيعة متطلباتها؟ .. في إطار الحوار الذي أجرته مجلة Economie Entreprise 7/17 مع السيد محمد بودرة، رئيس المجلس البلدي لمدينة الحسيمة، ذكر هذا الرجل أنه سبق لعبد الإله بنكيران وعباس الفاسي أن أوضحا له بأن مدينة الحسيمة استفادت من ميزانيات مهمة تتجاوز في قيمتها الميزانيات التي استفادت منها مدن أخرى تعاني من نفس المستوى من العجز. إلا أن السيد بودرة يعقب على كلام بنكيران وعباس الفاسي قائلا: “هذا كلام صحيح، ولكنهما ينسيان أن ما يحدث هنا هو تعويض عن الأخطاء les erreurs التي ارتكبتها الدولة في هذه المنطقة” … لكن ما هي “الأخطاء” التي ارتكبتها الدولة حسب بودرة؟ أخطاء الدولة حسب فهمه هي:

1ـ أن هناك خلطا في فهم الدولة بين “الحسيمة” و”الشمال عموما” (طنجة وتطوان مثلا). فالمصالحة النسبية مع “الشمال” لا تعني المصالحة مع الحسيمة خصوصا أن مؤشرات الصحة والتعليم والبطالة في هذه المدينة متدنية كثيرا بالمقارنة مع بقية مدن المملكة.

2ـ أن التقطيع الترابي الجديد أخرج هذه المدينة من كونها مدينة رئيسية إلى ما أصبحت عليه من كونها مدينة هامشية أمام مدن أخرى كبرى كطنجة وتطوان. مما نتج عنه انتقال كل الإدارات الجهوية بمواردها البشرية وعائلاتها من الحسيمة إلى طنجة.

3ـ أن الدولة لم تأخذ بعين الإعتبار أن هذه المدينة أصبحت بفعل زلازل 2016، والأزمة الإقتصادية الدولية التي تقلصت معها عائدات المهاجرين ــ تحولت إلى مدينة منكوبة. فانخفض رقم معاملات تجار المدينة بنسبة 75%، ونشاط المستشفيات بنسبة 60%، وارتفعت البطالة بشكل كبير حتى بين الشباب الذين يتراوح عمرهم بين 30 و 34 سنة!

لكن ألم تساهم “الجهوية الموسعة” في تمكين المدينة من الإستفادة من مواردها الخاصة؟ .. الجواب وللأسف هو: لا. لذلك يشير السيد بودرة إلى معضلة أخرى وهي أن 95% من الميزانيات العمومية لا تزال تسير على المستوى المركزي، بينما لا تُخصص للمستويين المحلي والجهوي سوى 5%، وأن حجم الميزانية المخصصة للمجلس البلدية بالحسيمة هو 60 مليون درهم تصرف 70% منها على أجور الموظفين، لذلك فمجرد إكمال الطريق السيار أجديرـ تازة يحتاج لاستثمار ستين سنة من ميزانيتنا هاته دون اقتطاع قيمة أجور الموظفين.

لكن لماذا لا تستفيد مدينة الحسيمة والمناطق المجاورة من مواردها الطبيعية؟ الجواب هذه المرة سيأتي على لسان السيد حسيم نباني من جمعية “التدبير المندمج للموارد البحرية” AGIR الذي صرح بأن المنتجات السمكية للحسيمة كانت ذات سمعة طيبة وصلها صداها حتى روسيا. إلا أن الإستغلال الكبير للموارد السمكية أدى إلى تقلص مثير في الموارد السمكية (السردين ولانشوا) بشكل جعل هذه الموارد عاجزة عن تلبية حتى الإحتياجات المحلية من السمك، خصوصا أن المطبخ الحسيمي يعتمد على السمك كمكون أساسي. هذا الإستغلال المدمر، حسب شهادة السيد نباني حسين، لم يتضرر منه قطاع الصيد البحري فقط بل أيضا قطاع السياحة وقطاع الفلاحة اللذان تعرضا إلى نهب ممنهج من طرف المقاولين العقاريين promoteurs immobiliers … لكن من هم هؤلاء “المقاولون العقاريون” ولماذا لا يحد القانون من تدميرهم للموارد الطبيعية؟

كان من الممكن أن يلعب التكوين والتعليم العالي دورا أساسيا في تأهيل المدينة وتجويد استغلالها لمواردها الطبيعية. فهل هناك معاهد للتكوين والتعليم العالي بمدينة الحسيمة لتخريج الأطر والمهندسين من المستوى المطلوب؟

حسب بحث أنجزته وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني سنة 2013 عنوانه Répertoire des Etablissements de Formation Professionnelle Privée Accrédités Par région فإن عدد مؤسسات التكوين المهني الخاصة المعتمدة في المغرب كله هو 360. توجد منها 64 مؤسسة في جهة الرباط، سلا، إيموزار زعير، و 60 بالدار البيضاء الكبرى، و34 بجهة طنجة تطوان، بينما لا يتجاوز نصيب الحسيمة ـ تازة ـ تاونات منها 5 مؤسسات اثنتان منها في تازة (اثنتان منهما للإعلاميات والتسيير وواحدة للمرضين) واثنتان في ڭرسيف، كلاهما للإعلاميات والتسيير. ينبغي أن نتساءل إذن: لماذا لا توجد مثل هذه المؤسسات الخاصة في الحسيمة؟

ماذا عن مساهمة القطاع العام في تكوين المهندسين والأطر؟ .. لحسن الحظ تم افتتاح المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بمدينة الحسيمة عام 2008 لتكون مدرسة وطنية للتعليم العالي يتكون فيها مهندسو دولة في مجالات الإعلاميات والتدبير المدني والبيئة والمخاطر الطبيعية، وهي بدون شك احتياجات حقيقية للمحيط السوسيو اقتصادي لمدينة الحسيمة. إلا أن الفساد المستشري داخل هذه المؤسسة كان ولا يزال عائقا لتحقيق هذا الهدف العملي. ففي سنة 2011 صرح مصدر من داخل هذه المؤسسة لمنبر “شبكة دليل الريف” ” ان المدير ومنذ استقدامه لم يول أي اهتمام لهذا الجانب، فأغلبية الأساتذة الذين يستقدمهم من معارفه، ولا يتوفرون على الكفاءة والقدرة على التكوين والتأطير. فاصبح كل من هب ودب يستقدم لإعطاء الدروس في هذه المدرسة المنكوبة” نشر في شبكة دليل الريف يوم 13 – 01 – 2011

لقد كان من الممكن أن تلعب هذه المؤسسة دورا تنمويا رائدا فتكوين مهندسين يساهمون بحلول تقنية لمشكلة الموارد البحرية والسياحية والفلاحية للمنطقة، لكن واقع الفساد المستشري فيها حرمهم من التكوين الجيد الضروري لتحقيق هذه المهمة النبيلة. وفي هذا الإطار يصرح نفس المصدر “ان الطلبة يعانون من ضعف التكوين الراجع إلى الغياب الشبه التام للدروس التطبيقية وعدم اكتراث المدير بهذا الموضوع، وتساءل كيف يعقل أن يتخرج المهندس من هذه المدرسة وهو لم يتلق دروسا تطبيقية ويضيف المصدر ان دروس مادة الجيولوجيا في السنة الثالثة ( شعبة هندسة البيئة) يلقيها شخص قريب من المدير، ويتم مكافأته ماديا من طرف المدير، في حين أن المدرسة تتوفر على أستاذ للجيولوجيا ولا يقوم بهذه المهمة التدريسية، لسبب بسيط، لأنه صديق للمدير ويعفيه من واجب العمل.” .. هل حققت وزارة الداودي في هذه الإتهامات؟ وهل تعاملت معها بما يجب؟

لكن ألم تساهم الدولة بمشروع رائد اسمه “الحسيمة منارة المتوسط”؟ هذا صحيح! لكن السيد محمد بودرة يرى أن هناك ما يعقد مهمة هذه المبادرة: وما يعقد مهمة حل المشاكل الإقتصادية لهذه المدينة بواسطة هذه المبادرة التي قدمها الملك سنة 2015 (الحسيمة منارة المتوسط) والتي يُنتظر إنزالها بحلول عام 2020 وخُصِّصت لها قيمة إجمالية مقدارها 6515 مليار درهم للفترة الممتدة بين 2015 و2019 أنه لا يُعرف من ينبغي إنزال هذا المشروع على أرض الواقع: هل هي المدينة أم الولاية أم الجهة أم الدولة؟ هذا مع العلم أن هذا المشروع لا يمكن أن يتحقق بشكل آني ويحتاج إلى إعلان مدينة الحسيمة “منطقة اقتصادية خاصة” … حسب بودرة. فكيف تبقى الدولة مشدودة الأيدي بخصوص تطبيق هذا المشروع الواعد في مدينة تنزف وتحتاج لتدخل آني وسريع وفعال؟

مدينة الحسيمة مدينة منكوبة ليس فقط بسبب الزلازل بل أيضا بسبب استغلال “المقاولين” للموارد الطبيعية بشكل يؤدي إلى التآكل المدمر لهذه الموارد، وبسبب حرمانها من تكوين الأطر، وبسبب تضييع مشروع “الحسيمة منارة المتوسط” في دهاليز بيروقراطية التنفيذ .. لذلك يحذر السيد بودرة من مغبة التعامل غير الناضج مع هذه المنطقة إذ يقول: ” مادامت هناك جراح تاريخية لم تلتئم بعد، فان محاولة إغلاقها بشكل سريع لن يؤدي سوى الى نشر العدوى وخلق نزيف ستكون معالجته مرتفعة الثمن”. احتجاج الريف ليس فتنة وليس دعوة انفصالية بل هو احتجاج يعلن فيه وبه شباب الريف رفضهم لهذا الواقع المزري.

فما أحوجنا اليوم إلى مثقف ينوّر صانع القرار ولا يحرضه على حماقات يستشفي بها هذا “المثقف” من ضغوطات مكبوتاته التاريخية.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *