ما هي القيم؟
نستطيع أن نبني تصورا لأنواع القيم التي ينبني عليها الفكر الأمازيغي المعاصر من خلال إقامة تمييزين أساسيين:
التمييز الأول: نتعلم من الفيلسوف الألماني كانط إيمانويل أن القيم التي تحكم الإنسان هي دائما من نوعين مختلفين. أولهما القيم الكلية Categorical، وثانيها القيم التطبيقية Practical القيم الكلية هي مبادئ عامة تصدر عما يسميه إيمانويل ب”العقل الأخلاقي” وتتميز بكونها كونية … وجازمة ولا يختلف الناس الأسوياء على مصداقيتها. من الأمثلة على هذه المبادئ ذاك المبدأ الذي يشجعنا على عدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان في علاقة سُخرية أو عبودية. فهذا المبدأ تشترك فيه جميع الثقافات وتدعو إليه.
أما القيم التطبيقية فهي الشكل الذي تتخذه القيم الكلية في وضعية من الوضعيات أو في مجتمع من المجتمعات أو في ثقافة من الثقافات. لذلك فشكل تصريف هذه القيم يختلف بحسب الإنتماء الثقافي والموقع السوسيواقتصادي للإنسان. من الأمثلة على هذا النوع من القيم ذاك المبدأ الذي يشجعنا على تقديس الطعام أو إضفاء طابع رمزي خاص عليه، كما يحدث في المجتمعات التي تعرف فترات طويلة ومتواترة من الجفاف والتي تفرض ميلا إلى الحفاظ على الموارد الغدا’ئية الذي قد يصل أحيانا إلى درجة التقديس.
نستفيد من الفيلسوف الفرنسي پول ريكور أن القيم التطبيقية كما نعيشها في حياتنا اليومية هي أشبه ما يكون بالخط الوسط بين الأفق البعيد، الذي يظهر لراكب القطار ثابتا لا يتغير، والمستقيم القريب من السكة الحديدية الذي يبدو وكأنه يعود وراءً بسرعة عالية. فالقيم الكلية (الكونية الجازمة) تميل للثبات، كالأفق البعيد، والقيم التطبيقية الخاصة تميل إلى التغير بحسب ظروف الناس وأحوالهم. ولكن قيم الناس الملموسة الحقيقية لشعب من الشعوب هي حد وسط بين الثابت الذي يعيد إنتاج نفسه في تاريخ هذا الشعب، والمتغير الذي يدور مع تغير الأحوال حضورا وغيابا.
التمييز الثاني: نميز بين القيم “الحافظة لوجود الجماعة البشرية” …، أي تلك القيم التي تكون وظيفتها الأساسية هي حفظ وجود ثقافة من الثقافات وضمان بقائها، والقيم “التقدمية” …، أي القيم التي التي تكون وظيفتها الأساسية دعم انفتاح ثقافة من الثقافات على الثقافات الأخرى وعلى بُعد المستقبل. القيم الحافظة لوجود الجماعة تؤكد على معاني “الأصالة” و”التميز” و”الفرادة” و”الإستقلال”. أما القيم “التقدمية” فتؤكد على معاني “التغير” و”التفاعل” و”الإبتكار” و”التعاون”.
من الأمثلة على القيم الحافظة لوجود الجامعة ذاك المبدأ الحقوقي الذي يؤكد على هق كل شعب من الشعوب في حفظ لغته وعاداته وملكية أراضيه. ومن الأمثلة على القيم التقدمية ضرورة التعاون الإيجابي المثمر بين الشعوب والثقافات المختلفة والإنفتاح على منجزات العصر.
نتيجة مهمة
إن فقدان القيم الحافظة لوجود شعب من الشعوب يؤدي إلى ضياع الهوية الثقافية وذوبانها في كيانات ثقافية غريبة. والإفتقار إلى القيم التقدمية يؤدي إلى الإنغلاق واستعداء الآخر وتوقف عجلة التغير نحو الأفضل. لد
لذلك فإن أكبر تحدٍّ يطرح نفسه على أمازيغ العالم اليوم هو: كيف نحافظ على قيمنا العملية (التطبيقية) دون أن نفقد اتصالنا بالمبادئ القيمية الكلية التي تصدر عن العقل الأخلاقي للنوع الإنساني؟ وكيف نحمي قيمنا الحافظة لوجودنا الهوياتي دون أن أن نحكم على أنفسنا بالإنسحاب من نهر التقدم الدائم الجريان.
مرجعية القيم الأمازيغية
لقد استطاعت الشعوب الأمازيغية المعاصرة اليوم من التأسيس لمرجعية فكرية نتجت عن تفاعل الثقافة العالِمة للنخبة المثقفة في الحركة الأمازيغية مع واقع الثقافة الأمازيغية كما يعيشها الإنسان الأمازيغي في حياته اليومية.
فالحركة الأمازيغية بجميع أطيافها وألوانها ليست مجرد فهم نخبوي للثقافة الأمازيغية، كما يدعي خصوم هذه الحركة، بل هو وعي عالم بهذه الثقافة وإدراك نقدي لكل محاولات اختزالها إلى مجرد مشاهد فلكلورية يستعملها صناع القرار والسياسيون أكسيسوارا أو أرضية خلفية يسوقون به وهم “الإعتناء بالتراث الأمازيغي”، وكأنما الوجود والكينونة الأمازيغيتان مجرد “محمية إيكولوجية” معزولة ينبغي الحفاظ عليها وعرض مكوناتها في المتاحف.
الحركة الأمازيغية، في جوهرها، وعي ذاتي حادّ بهوية الشعوب الأمازيعية، وفضح لكل أشكال الوعي الزائف التي حاولت أو لا زالت تحاول سلب الحقوق الهوياتية لهذه الشعوب.
أولا ـ القيم الكلية الحافظة للوجود الأمازيغي
هذه هي جميع المبادئ والمرجعيات الحقوقية الدولية التي أعلنتها المواثيق الدولية والتي تبنتها الحركة الأمازيغية واعتمدتها في الترافع المحلي والدولي كمرجعية “الإعلان العالمي حقوق الإنسان” و”المعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية” و”المعاهدة الدولية للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية” و”معاهدة إنهاء جميع أشكال الميز العنصري”، وغيرها. هذه مرجعيات حقوقية مبنية على أصول أخلاقية تجد مبرراتها في العقل العملي الطبيعي الذي يشترك فيه جميع أعضاء النوع الإنساني. لذلك فقد استدخلتها الحركة الأمازيغية في ممارستها وفي أساليب ترافعها من أجل استرجاع الحقوق الهوياتية المسلوبة بجميع أبعادها.
أولاـ القيم التطبيقية الحافظة لهوية الشعوب الأمازيغية
القيم الكلية التقدمية التي تبنتها الحركة الأمازيغية
القيم التطبيقية التقدمية التي تبنتها الحركة الأمازيغية
ثانيا ـ القيم الكلية التقدمية
لقد كانت الحركة الأمازيغية ولا زالت حركة تقدمية نقدية تتبنى القيم التي انبنت عليها الثقافة المعاصرة وهي:
- التسامح: تتخذ قيمة “التسامح” في الحركة الأمازيغية بعدين مختلفيين ولكنهما متكاملان. أولهما بعد التعايش مع الآخر، وثانيهما بعد الحق في الإختلاف. “الحق في الإختلاف” ينبني على الإعتراف الضمني بحق الآخر في الإيمان بما يراه صحيحا شريطة ألا يتضمن اقصاء للآخر، والتعايش هو البعد العملي لممارسة الحق في الإختلاف. فقد تعايش الأمازيغ منذ القديم مع ثقافات وحضارات مختلفة (فينيقية ورومانية وعربية إسلامية وأوروپية غربية) وتأثر بها وأثر فيها، بدون أن يطور الأمازيغي مواقف استعدائية من الآخر الذي يتفاعل معه. فلا يمكن للكم من يتشرب من هذه المرجعية القيمية أن يمارس الإرهاب تحت أي مسمى من المسميات أو أن يدعو له أو أن يتبنى فلسفته أو أن يبرره لأي سبب من الأسباب. فالإرهاب هو ثمرة من ثمار عدم التربية على التعايش والإستعداد المبدئي لقبول المختلف.
- العقلانية: لقد شهد كثير من الباحثين (الجابري، منيس وغيرهما) أن حضارة شمال إفريقيا تميزت بنزوعها العقلاني الذي جعلها تنتج فلاسفة عظماء منهم القديس أوغسطينوس الذي أبدع فكرة الكوجيطو (وليس ديكارت) وابن رشد الفيلسوف الذي ميز بين مستويي ممارسة الدين وممارسة العقلانية العلمية. لذلك فلا يمكن لمن ينتسب لحضارة تامازغا أن يخضع لتأثير الخرافات والشعوذات والدجل المذهبي المتلبّس بلبوس الدين.
- النسبية: وهي القيم التي تدفع العقل إلى عدم الإستسلام إلى الجاهزية في التفكير والنمطية في الفهم والإطلاقية في الأحكام. فأحكام العلم والفكر النقدي دائما تتخذ موقفا حذرا من التعميم وإقصاء البدائل والإمكانيات. فلا إبداع إلا بالتنسيب، ولا ابتكار إلا بالتنسيب، ولا علم إلا بالتنسيب. فعلاقة الأمازيغ السلمية بالثقافات العالمية جعلتهم دائما في موقع عدم التسرع إلى قبول الأفكار أو رفضها، بل اتخاذ مساحة نقدية تنسب كل شيء وتعيد النظر في كل فكر نمطي جاهز.
ثالثا ـ القيم التطبيقية الحافظة لهوية الشعوب الأمازيغية
القيم التطبيقية الحافظة لهوية الشعوب الأمازيغية التي تبنتها معظم مكونات الحركة الأمازيغية هي القيم اللغوية، وقيم الأرض، والقيم الثقافية. فهذه هي الأنماط الثلاثة التي كثيرا ما يعبر عنها المناضلون الأمازيغ برفع الإشارة الثلاثية ويختصرونها في شعار أوال …، وأكال، وأفڭان ….
ا للغة الأمازيغية لغة عريقة واحدة تفرعت عنها تنويعات سوسيولسانية متعددة احتفظت بالجزء الأكبر من نظامها الصوتي والمعجمي والتركيبي والتداولي الأصلي واختلفت فييما بينها في تفاصيل هذه المكونات الثقافية.
اللغة الأمازيغية ليست مجرد نظام تواصلي يستعمله الأمازيغ في حياتهم اليومية بل هي أيضا رمز من رموز انتمائهم لأرض تامازغا، ودليل على بقائهم رغم محاولات الإقصاء الذي تعرضت له الحضارة الأمازيغية.
فقد ساهمت سياسات التعريب والفرنسة في فترة الحماية الفرنسية وما بعدها في تراجع عدد المتكلمين باللغة الأمازيغية خصوصا في المناطق الحضرية. لذلك فقد برز مطلب ترسيم اللغة الأمازيغية ترسيما حقيقيا شاملا، بجميع تنويعاتها السوسيو لسانية، في جميع أقطار تامازغا، بصفته واحدا من المطالب الأساسية للحركة الأمازيغية ودافعا من دوافع نضالها، وذلك في إطار دساتير ديمقراطية حقيقية نابعة من إرادة الشعوب الأمازيغية. وارتبط بهذا المطلب السياسي والحقوقي بمطلب حماية اللغة الأمازيغية وتأهيل استعمالها باعتبارها رصيدا مشتركا بين جميعسكان شمال إفرياقيا، وتثمين حضورها بصفتها لغة رسمية.
الأرض في المنظور الأمازيغي ليس مجرد امتداد جغرافي بل هو أيضا كل ما تختزله هذه الأرض من ثروات معدنية، وما يحدها من بحار ويخترقها من أودية هي أيضا كل الثروات النباتية والحيوانية وغيرها من الموارد المنتجة للثروة.
والأرض أيضا هي المضمون الملموس للإنتماء الأمازيغي والتشبث بثقافة تامازغا العريقة.
لذلك فكل فصل لمطالب الحركة الأمازيغية بترسيم اللغة والثقافة الأمازيغيتين عن مطالبها باسترجاع القبائل الأمازيغية لأراضيها والثروات التي تحملها هذه الأراضي لن يكون سوى تجريد ميتافيزيقي يراد منه أن تختزل الهوية الأمازيغية في بعد فلكلوري هامشي.
ومن الرموز الحافظة لهوية الأرض الأمازيغية الطوپونيميا الأمازيغية التي حاول المستلبون أن يعوضوها بطوپونيميا غير أمازيغية (عربية أو فرنسية) من أجل الإلتفاف على هوية الأرض التي تشهد لها الأسماء العريقة التي استعملها الأمازيغ. لهذا فإن من القيم الأمازيغية ومطالب الحركة الأمازيغية أن تستعاد الأسماء الطوپونيمية التي ضاعت ويُهتفظ بتلك التي بقيت. من ذلك أيضا الحفاظ على المواقع الأثرية التي سعت الأيديولوجيات المهيمنة إلى طمسها، كما حدث عندما حاولت بعض الجهات التعتيم على جبل إيغود الذي برهن بالدليل الحفري الملموس على أن مهد الإنسان العاقل ومهده كان من غرب تامازغا بدون شك.
الثقافة
الثقافة الأمازيغية غنية بمكوناتها المتعددة التي تحمل ملامح نفس الأصل الهوياتي والنأنثروپولوجي. من معالم هذا الأصل الواحد أساليب العمران التي تعود أصولها إلى عهد الممالك الأمازيغية القديمة، وتمتد حتى العهد الإسلامي اللاحق (البنايات العالية المربعة، أساليب النقش، إلخ). منها أيضا اختيار التنوع اللوني في الملابس والحلي وغيرهما من الصناعات التقليدية، مما اشتهر به الأمازيغ في جميع أنحاء العالم. ومنها أيضا مختلف أنواع الأطعمة الصحية الغنية التي أصبحت مشهورة على المستوى الدولي (الطاجين، الكسكس، إلخ).
ومن أهم ملامح الثقافة الأمازيغية الإحتفال بعيد السنة الأمازيغية الذي يصادف يوم 13 دجنبر من كل سنة في التقويم الجورجي، والذي يذكر الأمازيغ بحدث تولية الملك الأمازيغي شوشنق على عرش المملكة المصرية القديمة، وبعطاء الأرض عند دخول السنة الفلاحية الجديدة.
رابعا ـ القيم التطبيقية التقدمية
إنها القيم التي غايتها القصوى هي الحفاظ على الوجود الأمازيغي وحمايته من كل محاولات الإقصاء والإقبار والإختزال. من هذه القيم:
- التعاون: فالمجتمع الأمازيغي كان ولايزال مجتمعا تعاونيا معروفا بتطويره لأساليب مبتكرة متعددة للتعاون في المهام الفلاحية الشاقة كالحصاد وتوزيع الماء بشكل عادل ومنصف، واتحاد القبائل في إطار كنفدراليات تعاونية منظمة لحماية إغسان والعائلات من اعتدا ء ات الأغيار وتهجماتهم.
- الديمقراطية التشاركية: جسدت الجماعات الأمازيغية هذا المبدأ من خلال مجالس الأمناء (أنفلاس) التي كانت تمارس التسيير الذاتي للقبائل والكنفدراليات بشكل جماعي، وتنتخب أمناءها بشكل دوري لا يسمح بتركيز السلطة وتأبيدها. بهذا المعنى، فإن السلوك الديمقراطي ليس أسلوبا دخيلا على النظام الإجتماعي الأمازيغي، بل هو جزء من بنائه الداخلي وسر من أسرار بقائه لقرون.
- قيم “أغاراس أغاراس”: وهي قيم الصدق والوفاء والإستقامة وحفظ العهود والوضوح والشفافية التي جعلت كثيرا من الشعوب عبر العصور تفضل التعامل التجاري مع الأمازيغ دون غيرهم من شعوب العالم.، بسبب ما عرف عنهم من نبذ الغش والتزوير وغيرها من مظاهر الفساد.
- المرأة: من القيم التطبيقية المميزة للثقافة الأمازيغية المكانة المتميزة التي تحظى بها المرأة في الأسرة الأمازيغية والمجتمع الأمازيغي، حتى إن الأمازيغ أطلقوا على المرأة اسم “تامغارت” الذي معناه “الأميرة” أو “القائدة”. لذلك فلا مجال في المجتمع الأمازيغي للتمييز ضد المرأة، أو التنقيص منها، أو التلاعب بمساواتها التامة مع رفيقها الرجل. بل إن هناك من الباحثين الأنثروپولوجيين من اعتبر أن المجتمع الأمازيغي كان في أصله مجتمعا أميسيا، ومنهم من لاحظ أن المرأة الأمازيغية كانت دائما حاملا لهوية قبيلتها في جسدها (بواسطة الوشم ولنوعية الملبس)، وصانعة المنتوجات الثقافية كالحلي والخيام والملابس والجرار، وغيرها من المصنوعات التي تحمل بصمة الإنتماء الثقافي.