في خضم سوق لغوية واقعية وافتراضية متعددة ومتنوعة، تبدو صيرورة التلهيج والتدريج والمعيرة عائقا أمام تواجد اللغتين الرسميتين الأمازيغية والعربية في الفضاء العام الواقعي والافتراضي: هل سيتم اعتماد واستعمال الصيغة المعيارية في حالتي اللغتين الرسميتين الأمازيغية والعربية أم توظيف التنويعات الجهوية والترابية؟.
فهذا السؤال ينطوي على إشكال اختيار المرور إلى الشكل المكتوب والمعياري من اللغة أم الإبقاء على الشكل الشفوي العفوي والترابي من اللغة. هل الفضاء العمومي يقترن بالشكل الأول للغة أم بالشكل الثاني؟ هناك عدة تجارب تجيز الشكلين، لكن يظهر في الحالة المغربية أننا بصدد فعل الترسيم، مما يفرض وجوبا توظيف الشكل الكتابي للصيغة المعيارية في الفضاء العام لتثبيت الصفة الاعتبارية والدستورية لا سيما في حالة اللغة الأمازيغية.
لكن ما يمكن ملاحظته في السنوات الأخيرة هو بزوغ فضاء عمومي ثلاثي الأقطاب يتكون من علامات تشوير ومن واجهات ومن إعلانات لا تحترم الزمن الدستوري للثنائية الرسمية وتتعداه إلى ثلاثية غير رسمية تقع خارج الزمن الدستوري، وهذه الثلاثية تتكون من اللغات العربية والأمازيغية والفرنسية. مما يشير إلى مقاومة هذه الأخيرة أي اللغة الفرنسية لجميع تحركات ومواقف ومرافعة المجتمع المدني والجمعيات، المهتمة بالتعددية اللغوية بالمغرب، للمد الهوياتي والدستوري الذي يطالب باستعجالية تمكين الفضاء العمومي من الثنائية الرسمية الأمازيغية والعربية.
بموازاة هذه الثلاثية، تهيمن ثنائية الفرنسية والعربية، وهي كذلك ثنائية خارج الزمن الدستوري، على الحياة المؤسساتية والإدارية في جل جهات المملكة المغربية. مما يدعو إلى التساؤل عن أسباب هذا الانزلاق اللغوي الناتج عن تذبذب وفراغ قانوني، الذي من تداعياته المباشرة حضور مكثف وعمودي للغة أجنبية وهي اللغة الفرنسية في مجالات الحياة العامة والفضاء العمومي والمواقع المؤسساتية بصفة قارة وإجبارية، حضور لا يكترث بالصعوبات والعقبات واستحالة الفهم والتداول بالنسبة للمتكلمين باللغتين العربية والأمازيغية، لا سيما أن اللغة الفرنسية تلعب دور ووظيفة اللغة المؤسساتية الأولى في بعض المرافق والخدمات العمومية.
من المستحب التذكير بأن المرحلة الراهنة تتطلب أولا تفعيل الثنائية الرسمية التي ستمكن من استشراف أوضاع اللغتين الدستوريتين في علاقتهما بدينامية التعدد اللغوي. من هذه الزاوية، يظهر جليا أن الحاجة صارت ملحة لتأطير قانوني وإجرائي للثنائية الرسمية والمؤسساتية لتفادي تلاشي هذه الثنائية داخل الفضاء العام، من خلال اعتماد عدة آليات واستراتيجيات، منها لا للحصر إعادة النظر في الهوية المرئية للغتين الرسميتين داخل الفضاء العمومي، ورفع رصيد اللغة الأمازيغية في السوق اللغوية المغربية، وتأهيل متون اللغتين الرسميتين لضمان توزيع عادل لصفاتهما الاعتبارية.
في المقابل يمكن اعتبار أن التدرج في التعددية اللغوية في الفضاء العمومي انتقل من الأحادية اللغوية (العربية أو الفرنسية)، إلى الثنائية المؤسساتية ( العربية والفرنسية)، إلى ثلاثية مبغولة وهجينة تخلط بين الدستوري والمؤسساتي (العربية والأمازيغية والفرنسية)، إلى فوضى لغوية تجتمع فيها عدة أنساق لغوية (العربية والفرنسية والأمازيغية والدارجة والإنجليزية..) مع اختلاف تعابيرها الكتابية (حرف عربي وحرف لاتيني وحرف تيفيناغ وعلامات ورموز ديجيتالية).
كما أن تداخل هذه البنيات اللغوية فيما بينها أفضى إلى تراكيب لغوية تجمع بين الاقتراض اللغوي والتناوب اللغوي والنسخ اللغوي وظواهر لغوية أخرى صارت تغزو الفضاءات العمومية، منها على الخصوص فضاءات الإشهار والفضاءات التجارية. هل يمكن اعتبار هذا التغير اللغوي تغيرا إيجابيا يساهم في تطوير وتأهيل اللغتين الرسميتين أم هو بمثابة حالة تصلب وتفتيت لمقوماتهما البنوية واللسنية؟.