الشطر الثالث : محاولة استشراف ما بعد كورونا
بعد الشطرين الأول والثاني، واللذين استنتجنا منهما أن هواجسنا لما قبل كورونا، أكدتها وستؤكدها مرحلة الحجر الصحي، المؤطرة للحرب على جائحة كوفيد 19، فقد افتضح أمر المنظومة الصحية الهشة، وكذلك بعض المنظومات الأخرى، نتيجة السياسات العمومية والهويات الحزبية التي توافقت، موضوعيا، على التخلي عن البعد الاجتماعي، وقد لامسنا ارادة الدولة في رد الاعتبار للمقاربة الاجتماعية، وهو ما يمكن توصيفه باسترجاع الدولة لبريقها كدولة حامية وقادرة سياسيا ومقتدرة حقوقيا، وهي استعادة لدورها الأصلي، دور توفير الشروط الأساسية لحماية المواطن.
وفي هذا حاولنا في الشطر الأول من المقال أن نطرح للنقاش خلاصة اسنتاجنا الانطباعي والذي نتوخى ان نبرهن جميعا على صحة احتماله وحقيقته، حقيقة أن الدولة يمكنها أن تكون استباقية ليس فقط في القضايا الأمنية ولكن أيضا في القضايا الإجتماعية والصحية، ويفترض، تبعا، أنه سيكون من الصعب بعد اليوم على الدولة أن تزعم وتدعي العجز عن القيام بدورها الطبيعي، دور الحماية الاجتماعية وتوفير السلامة الصحية و الذوذ عن الحقوق والحريات، بما أن ذلك تبث في الملموس أنه ممكن.
وعلى أساسه نظن أن الليبرالية المتوحشة ستعرف تراجعا. وستستعيد القضايا الاجتماعية بريقها، مما قد يجعلنا نعيد النظر في سؤال علاقاتنا الدولية، ونتحرر من عقدة ثنائية “إما حسن الحوار أو عودة الاستعمار”، في ضوء اقتناعنا او توافقنا على حقيقة أننا نعيش لحظة وطنية بامتياز، وإن كانت لامحالة ستعمل على تأجيل اللحظة الديموقراطية المنشودة منذ زمن ماقبل كورونا؛ وبذلك نفترض، بل علينا أن نقرر تشاركيا انه على النموذج التنموي الجديد أن يستند وجوبا ولزوما إلى هذه الوقائع المستجدة وأن يستدمجها “كمكتسبات”.
ومن أجل اسباغ الطابع الإلزامي على التزامات الدولة الاجتماعية – المفترض اننا تعاقدنا في حضرة وحضور “كورونا” وسيادة حضورها القهري المستبد بحيواتنا وحياة الوطن – وذلك بترتيب الجزاء على منتهكي هذه الإرادة، والتي ينبغي ان تترجم إلى حقوق مضمونة دستوريا، وهذا يستدعي كأول إجراء مؤطر للمسؤولية الاجتماعية ويحصنها بربط المسؤولية بالمساءلة والعقاب، لقد كاد التفقير أن يكون جربمة، ترقى أحيانا من شدة فظاعتها الى جريمة المس بالحق المقدس في الحياة، وهذايستدعي و يقتضي بالضرورة والاستعجال، تعديل الفصل 31 من الدستور، لأن هذا سيكرس الاعتبار و القيمة الإنسانية المصيرية للحقوق الاجتماعية الأساسية، في مجال الصحة في منظومة التربية والتعليم والتكوين، وتأهيل بنيات وممكنات التشغيل، ثم دعم عودة الطبقات الوسطى والمتوسطة، كحلقات وسيطة وأساسية لتقريب الهوة في ما بين قمة وسفح الهرم السكاني.
ولأن المناسبة شرط تحضرني واقعة خطاب الراحل الحسن الثاني، غداة احداث 20 يونيه 1981، عندما قرر بمقتضاه، “تمزيق” جميع تصاميم التهيئة والعمرانية وإعداد تهيئات جديدة واعادة تأهيل تدبير المجال، رغم أن إشكالية التعمير وأزمة السكن لم تكن السبب المباشر، ولقد اعتبر آنذاك ان الإجراء منتج لسياسات حضرية ، تبين لاحقا ان الاختلاس والفساد حالوا دون تحقيق الهدف الخاص التنموي، وانما ما تحقق هو تكريس التهيئة كوسيلة للضبط الأمني و التحكم السياسي وفق ما تقتضيه الخريطة الانتخابية.
ولأنه لا تماثل بين البشر و لا بين الظواهر والوقائع، فإنه ينبغي استلهام، من “التجربة” على علاتها، ملامح جيل جديد من الإصلاحات في مجال التعمير والإسكان، مع التفكير في تأهيل وتجويد مساطر التدبير المفوض، على أسس جديدة، تغترف من إيجابيات خلاصات وتوصيات الحوار الوطني حول التراب الوطني، وهنا لابأس من اقتراح نقل تجربة التدبير المفوض الى قطاعي الصحة والتربية الوطنية والتكوين، بعد تقويم الاختلالات وتأهيل الموارد البشرية، وإنه من شأن هذه العقلنة للتدبير المفوض أن يغنينا عن مخاطر التعسف في تفعيل “النزعة الشعبوية” لمطالب تأميم المصحات والمدارس الخاصة، والمتنافية مصلحيا مع مطلب رد الاعتبار للطبقة المتوسطة، ففي ظل عدم تملكنا لأي مؤشرات لمطلب فك الارتباط بين المال والسياسة، ولغياب رؤيا واضحة لاستطاعة التمييز بين تماهي (مكونات ورأسمال) الدولة والطبقة، ولعدم تعبير الدولة الصريح عن تخليها عن خياره الاستراتيجي لخوصصة القطاع العام.
وفي ظل انعدام دراسات تشخيصية علمية لتحديد التشكيلة الإقتصادية والاجتماعية بالمغرب، يصعب، والحالة هاته، التسرع والمغامرة جزافا ؛ في ظل هشاشة البنيات العمومية /الدولتية الاستقبالية والتحتية، الصحية و التعليمية، وعلى الخصوص وأن الرأسمال المتوسط والأصغر من يتولى الاستثمار في القطاعين بواسطة مقاولات صغرى ومتوسطة، ناهيك عن سؤال الجودة والمحتوى والمناهج والمسؤولية والحماية الاجتماعيتين وشرط مراجعة وتأهيل المنظومة التربوية والسياسة الصحية، لذا يمكن أن نعارض الخوصصة ولكن يتعذر، ماليا وأخلاقيا، أن نطالب بتأميم المصحات والمدارس من مالكيها دون تعويض عن إعتداء المادي والذي يتخذ شكل نزع ملكية تعسفي، ويرتب آثار سياسية ومعنوية وجزاءات قانونية أوعقوبات جنائية حتى. وهذا يدعونا إلى إثارة سؤال سيادة ودمقرطة القرار المالي، الذي يحتاج إلى ترشيد السلطة التشريعية (المالية العمومية ومجال القانون) وتمكين المؤسسة من سلطتها الحقيقية الدستورية الرقابية؛ باستكمال مقتضيات الاستقلالية والأمن القضائي، وتمكينها من أدوارها الدستورية في مجال الأمن ضد الحاجة والأمن ضد الخوف، باعتبارها، حسب الفصل 54 من الدستور، عضو أساسي ومحوري، إلى جانب السلطة التشريعية، ضمن مكونات المجلس الأعلى للأمن، الذي تبين أنه يشتغل “فعليا” والظرفية هاته تحت قيادة رئيس الدولة، ويبدو أن الوقت حان لتدشينه واقعيا ومؤسساتيا.
وأمام تضخم المؤسسات الإرشادية والاستشارية ؛ يقتضي الترشيد العمل على تنفيذ توصية الملك محمد السادس، وهو يفتتح السنة القضائية الأولى في بداية عهده ( 15 دجنبر 1999)، بضرورة تأسيس مجلس الدولة، كهيأة مستشارة للدولة ومؤسساتها الدستورية والعمومية، وكهيأة درجة عليا للقضاء الإداري، الذي لابد أن يسترجع بريقه، ترسيخا للمفهومين الجديدين للسلطة والعدل، ما دام المواطنون عنصر بيولوجي، في ضوء دروس وعبر الكورونا المستخلصة، دونه لا حق للوطن في الحياة .