صدر للباحث والكاتب الدكتور موسى أغربي كتاب بعنوان: موقف “الحركة الوطنية” من الأمازيغية. وهو عبارة عن دراسة عميقة لموقف الحركة الوطنية المغربية من الأمازيغية إبان الحماية الفرنسية وما خلفه من أثر على وعي المغاربة بحقيقة هويتهم، ذلك الموقف الذي لم يتم الإعلان عنه بشكل مباشر وبوضوح في الوثائق والخطابات الرسمية لهذه الحركة، إنما رصده الباحث من خلال قراءة متفحصة لمواقف غير رسمية لرجال الحركة الوطنية، ومن خلال المراجعة النقدية لتاريخ هذه الحركة.
يعد الكتاب ثمرة مجهود فكري أكاديمي للباحث، واستثناءا في الحقل الثقافي المغربي، بالنظر لجرأته وشجاعته في تناول موضوع حساس ألا وهو “القضية الأمازيغية”، والذي تم التغاضي عنه وتجاهله من طرف المثقفين المغاربة، الذين أنتجوا خطابات غالبا ما تبجل وتبارك إنجازات هذه الحركة ومواقفها ومزاعمها، دون خلق مسافة نقدية بينهما، تسمح بتقييم عمل هذه الحركة والكشف عن عيوبها ونقائصها. بيد أن أعزبي إختار الإتجاه المختلف تماما، حيث في دراسته هذه لم ينهج أسلوب العتاب والمؤاخذة، بل أسلوب المهادنة والنقد الهادف والبناء، إذ وضع الحركة الوطنية تحت المجهر، وقدم موقفها من الأمازيغية للمساءلة والنقد والمحاكمة النزيهة، في سبيل الكشف عن المستور والمعلن بخصوص القضية الأمازيغية.
إذا كانت الحركة الوطنية إبان الإستعمار الفرنسي قد بدت للمغاربة أنها حركة خلقت لمقاومة الإحتلال الفرنسي فقط، فإنها أيضا هي حركة إديولوجية تبنت وروجت أفكارا ومواقف وتصورات ذات طابع ثقافي وديني وعرقي، وعملت على نشرها والدعاية لها، بل واتخاذها إديولوجية للدولة والمجتمع المغربي برمته تحمل شعار “العروبة والإسلام”. هذه الأفكار والمواقف المفعمة بنفحة عنصرية وتمييزية واضحة أحيانا ومستترة أحيانا أخرى، خصوصا المتعلقة بالثقافة والهوية المغربية، حيث ادعت أنها أساس الوحدة واللحمة الوطنية. مواقف وأفكار إديولوجية إقصائية في جوهرها عملت على إقصاء متعمد لأهم مكونات الهوية المغربية عبر التاريخ (الأمازيغية) وكذلك المكون العبري، مقابل تكريس هوية مشرقية مستوردة، ألا وهي “القومية العربية” التي تبنت شعار العروبة والإسلام، حيث إكتفت بهذه الأخيرة فقط كشعار وعنوان لهوية المغاربة، دون اعتبار المكونات الأخرى ذات الأهمية القصوى. ومن أجل تنوير القارئ والرأي العام المغربي، عمل أغربي على العودة إلى زمن الحركة الوطنية المغربية، وبحث في هويتها وجوهرها ومكوناتها، وفي الجنسيات المحيطة بها، وفي الخلفيات الحقيقية التي تحكمت في وجودها، والمرجعيات الفكرية والمنطلقات الإديولوجية التي تؤطرها وتحركها، من أجل فهم أعمق لرهاناتها الثقافية والسياسية، والكشف عن أبعاد أفكارها المعبر وغير المعبر عنها. هذه الحركة التي رسمت صورة نمطية حول الأمازيغية وكرستها، بل وعملت على تلقينها للمغاربة زمن الحماية وبعدها، وتبنتها الأجيال التي أتت بعدها، عبر المدرسة والإعلام ودور العبادة والأحزاب والجمعيات والنقابات وغيرها من المؤسسات ذات الطابع الإديولوجي.
لقد قدمت “الحركة الوطنية” صورة قاتمة عن الأمازيغية، واتخذتها عدوا ثقافيا وسياسيا وإديولوجيا لذودا يهدد هوية المغاربة “الإسلامية والعربية” وأمنهم الثقافي والروحي، ونجحت في تدجين المغاربة واستلاب ذهنياتهم بشعاراتها التي تدغدغ العواطف، وادعاءاتها وأوهامها المعادية للمكون الأمازيغي، حيث صارت إيمانا تدين بها أغلب المغاربة الأمازيغ وغير الناطقين بالأمازيغية عبر عقود، كونها ألبستها لبوسا عرقيا وإثنينا ودينيا كذلك. كل ذلك أدى إلى تكوين وعي مغلوط بالهوية المغربية الحقيقية وبعناصرها الأساسية، بل وجعل المغاربة الأمازيغ أنفسهم يقفون ضد هويتهم الأمازيغية ويحاربونها بشدة، ويقاومون من أجل القضاء عليها.
لقد تناول الباحث موضوع الأمازيغية والحركة الوطنية، بروح نقدية صادقة، محاولا الإلمام بالموضوع من جميع الجوانب والأبعاد، معتمدا في ذلك على منهج تفكيكي دقيق وهادئ، وعلى تحليل رصين، مكنه من رصد مكامن وتجليات ومواطن الموقف السلبي للحركة الوطنية من الأمازيغية، إذ بين وشرح وفصل وقدم ما يكفي من الحيثيات والدلائل التي تحكمت في تبني الموقف المعادي للأمازيغية والأمازيغ من طرف الحركة الوطنية.
وأنت تقرأ في ثنايا صفحات الكتاب هذا، قد يبدو لك أن الكاتب يشن هجوما على الحركة الوطنية بخصوص موقفها المعلن والخفي من الأمازيغية، لكن التأهل في اللغة المعتمدة في الكتابة والقاموس المفاهيمي الموظف، والمنهج العلمي المتبع، والتحليل النزيه للمعطيات، وفي عمق المفاهيم المستعملة، سيؤكد لك أن الأمر يتعلق بنقد أكاديمي موضوعي ونزيه، ممزوج بقلق وغضب واع ومشروع، نابع من غيرة مشروعة على الهوية الأمازيغية للمغرب، التي أريد لها الوأد والتلاشي التام، وما يميز هذا النقد، هو أنه مجرد من المحاباة والتملق، وخالص من “الذاتية” الهدامة، لأنه قائم على الحجة والبرهان والمبررات المنطقية والواقعية. وهو نقد يسعى أساسا إلى تصحيح مغالطات وأوهام الحركة الوطنية التي اصطنعتها وتريد من خلالها الزج بالأمازيغية في دائرة النسيان ومزبلة التاريخ.
إن رهان هذا الكتاب أساسا، يكمن في سعي الكاتب إلى جعل القارئ يدرك ويعي جيدا أن الوضع الحالي الذي تعيشه الأمازيغية لغة وثقافة وهوية، وكل هذه المقاومة الشرسة والرفض الذي تتعرض له من طرف الدولة والمثقفين وبعض المواطنين، إنما جذوره تعود إلى ما قبل استقلال المغرب. والمسؤولية الكبرى في ذلك ملقاة على عاتق “الحركة الوطنية” التي يجب أن نراجع مواقفنا منها، على اعتبار أنها ارتكبت أخطاءا فادحة لا تغتفر في حق الأمازيغية، وتعاني اليوم بسببها.