إن دور النساء الأمازيغيات لايزال أحد المواضيع التي لم تدرس بما فيه الكفاية، إنه شبه غائب في البحث الأكاديمي وقليلا ما يُثار في النقاش العام بدول شمال افريقيا. وهكذا، تم تجاهل الدور التاريخي للمرأة الأمازيغية بشكل كامل تقريبًا في الكتب التعليمية والمدرسية. ومع ذلك، لا يزال للمرأة الأمازيغية فضل كبير في نقل التراث الثقافي الأمازيغي، من جيل إلى جيل، والذي يتجاوز “ثلاثة آلاف سنة من تاريخ التونسيات” حسب آمنة بن ميلاد، و”33 قرنا من التاريخ” التي لخصها العميد محمد شفيق في أحد مؤلفاته، والذي يتجاوز العشرة آلاف سنة، منذ تكوين الحضارة الأمازيغية المهمة في الصحراء الكبرى، حسب الاكتشافات الأثرية وآخر نتائج الأنثروبولوجيا الوراثية.
لقد تحدّت النساء الأمازيغيات، المحافظات على تراث حضاري لا يقدر بثمن، قرونًا وعصورًا من خلال نجاحهن في الحفاظ على هذا الإرث ونقله عبر الأجيال إلى أن وصل إلينا في الألفية الثالثة. ولا أدلّ على ذلك استمرار اللغة الأمازيغية منذ العصر الحجري الحديث إلى يومنا هذا، في الوقت الذي انقرضت فيه لغات حضارات عظيمة حول البحر الأبيض المتوسطً، مثل بونيقية الفينيقيين أو لاتينية الرومان أو لغة الفراعنة.
يعتبر “حسن الضيافة” و”الكرم”، من بين القيم المميزة التي لا يمكن تجاهلها في المجتمع الأمازيغي، وهذه قيم لم تكن لتصمد وتستمر لولا النساء. وهكذا حرصت النساء الأمازيغيات دوما على حماية الأطفال والتماسك الأسري والتضامن الاجتماعي للقبيلة، لدرجة أنهن تنازلن عن نصيبهن من ميراث الأراضي الصالحة للزراعة لفائدة إخوانهن، وذلك بهدف الحفاظ على التماسك القبلي، رغم أن القانون العرفي ينص على مبدأ المساواة بين الرجال والنساء في القسمة.
بالرغم من ان المجتمع الشمال-افريقي، بجماعاته المختلفة، أضحى أبويا بشكل أساسي منذ ظهور الديانات التوحيدية، وخاصة بعد الاعتناق الشبه الكامل للدين الإسلامي من طرف الغالبية العظمى للأمازيغ، في القرن السادس الميلادي، فإن المرأة واصلت لعب دور أساسي في الدينامية المجتمعية وشُغل الفضاء العام وإحراز سمعة ونفوذ، وقد تركت بعض النساء الامازيغيات بصمات لا يمكن محوها على صفحات من التاريخ.
كان للمرأة الأمازيغية سلطات حاسمة على الرجال، وأدوارا في مجال التحكيم وفي الوظائف القيادية، وذلك على الرغم من النظام الأبوي الذي سيطر بالكامل على نظام “الأمومية” الأصلي في كل مكان، باستثناء فضاء الطوارق. وفقًا لعالمة الأنثروبولوجيا الفرنسية كميل لاكوست دوجاردان، في دراستها المهمة “أمهات ضد النساء”، أصبحت المرأة الأمازيغية من المدافعين الشرسين عن النظام الأبوي، حيث عرفت النساء كيف يستغلن امتيازاتهن ويسايرن بذلك لعبة الأنظمة، ليس فقط من خلال أزواجهن، ولكن أيضا وبالأخص من خلال ذريتهن، من خلال أبنائهن الكثيرين، والتأثير على قرارات مجلس القببيلة “أكراو” أو “تاجمّاعت”، ويزداد هذا الدور أهمية عندما يصبحن أرامل. وبهذا المعنى يمكننا فهم هذا المثل القديم الذي يعود لعهد المرابطين: “وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة”.
وكما تؤكد ذلك هيلين كلودوـ هاود، في كتابها “الطوارق، بورتريه في شظايا”(منشورات إيديسود 1993)، “على المستوى السياسي، “اسيگوور” هو عبارة عن جمع عام أو مجلس، ينعقد داخل خيمة، وتصدر عنه قرارات واستراتيجيات الأسرة، من أضيق دائرة إلى أوسعها. وفي “اسيگوور”، الذي يضم رجالا ونساء ينتمون إلى شجرة انساب واحدة، يكون للمرأة صوت مساوٍ لصوت الرجل أو أكثر. ولا يمكن اتخاذ أي قرار إلا بموافقة النساء”. وتضيف عالمة الأنثروبولوجيا الفرنسية:” عند اتخاذ أي قرار حاسم يهم الجماعة، كما هو الشأن بالنسبة لتحالف استراتيجي، أو إعلان حرب، أو اقتراح سلم، فإن أول شرط يجب أن يتوفر هو موافقة النساء. حيث يبدأ التشاور أولا مع النساء، وعند موافقتهنّ، يأتي دور الرجال للإدلاء بأصواتهم، وبعدهم الحلفاء ثم الروافد إلى أن يتم استدعاء الجمعية العامة.”
إنهن نساء استثنائيات لعبن، بشكل من الأشكال، أدوارًا في الذاكرة الجماعية، من خلال التعهد باللوجستيك، والتمريض، والاتصال، وتوفير الأسلحة، وتشجيع المقاتلين، أو ببساطة عن طريق بث الحيوية والحماس عبر الأغاني والقصائد الشعرية والرقصات… نساء كانت تربطهن علاقات متبادلة مع الملوك ورؤساء القبائل في حقب محددة، وكنّ يملكن سلطات ويشاركن أحيانًا في معارك كبيرة. نساء تركن بصماتهن في مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية على مرِّ فترات معينة من تاريخ قارتنا “تامازغا”، التي يحدها البحر الأبيض المتوسط من الشمال، والمحيط الأطلسي من الغرب، والبحر الأحمر من الشرق، وبحر كبير من كثبان الصحراء الكبرى الرملية في الجنوب.
وسنحاول من خلال هذا النص المتواضع، تسليط الضوء على الدور التاريخي لبعض هاته النساء الاسطوريات، اللائي تم تجاهلهن عمدا وبشكل غير منصف من قبل التاريخ الرسمي لكل بلدان شمال افرقينا.
نساء حقبة ما قبل التاريخ:
منذ عهود سحيقة لما قبل التاريخ، بدأ إنسان العصر الحجري يؤمن بالآلهة الانثوية، وهو ما يعكسه اكتشاف العديد من التماثيل المجسمة من جنس انثوي والمعروفة باسم “فينوس”، والتي تم العثور عليها بمواقع مختلفة، وبالخصوص في أوروبا. ويعتبر تمثال “طانطان” بلا شك، والذي يعود تاريخه حسب علماء الآثار إلى ما بين 300.000 و 500.000 سنة!، إحدى أقدم “الفينوسات” التي صنعها الإنسان.
تظهر الآلهة أيضًا في الرسوم الصخرية الرائعة بالصحراء الكبرى. ونود أن نتوقف عند تلك التي عُثر عليها في “الهـُـگـّـار”، في N’Arouanrhat ، بالقرب من منطقة “جبارين” في قلب “تاسيلي ن آجر”، والتي تمنح المطر والحياة، وقد أرفق بها علماء الآثار اسم “گـايا”، في إشارة إلى إلهة الأرض في الأساطير اليونانية، والتي تعكس الارتباط القوي للأمازيغ بالأرض الأم. إن إطلاق أسماء أنثوية على الآلهة، يعود لكونها، مثل النساء، هي أصل الخصوبة والازدهار.
وهكذا، فإن الآلهة الأولى، في الديانة الوثنية للأمازيغ، كانت كلها من الإناث. وهذا ما يفسر أصولها الأُموسية، ويعطي اسمًا لإلهة الكون كله: “يمّا ن دّومين”، أم العالم، وهي أصل كل الأشياء، سواء أكانت حية أم لا، وكل الظواهر على الأرض وفي الكون. يُروى في بعض الحكايات والأساطير القديمة، أن هذه الإلهة، بعد أن ارتكبت خطأ فادحا، تحولت إلى ساحرة تدعى “ستوت” في منطقة القبائل! في الواقع، غالبًا ما تُنسب للمرأة عند الأمازيغ قوى غامضة وخارقة للطبيعة، مقرونة بقدرات سحرية أو شفائية!
عندما يتم الحديث عن أصول البشرية، غالبًا ما نصادف قراءات معادية للمرأة، تنحو نحو التقليل بشكل كامل من دور المرأة في التطور البشري، لدرجة يغيب تمثيلها نهائيا في الرسومات! على سبيل المثال، فإن الاكتشاف الأخير الذي توصل الباحثون من خلاله إلى أن الإنسان العاقل ينحدر من “إنسان جبل إيغود” الذي يعود إلى حوالي 315.000 سنة (وهو ما يفوق إنسان “كيبيش” الأثيوبي الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 1950.000 سنة)، حيث تم الحديث عن اكتشاف 5 جماجم تعود لأفراد بالغين(3 بالغين، ومراهق واحد وطفل) وهو ما يشير ضمنيا بأنهم جميعًا ذكور، كما لو أن ليس لديهم أمهات!
لكن، لحسن الحظ، فإن علماء الأنثروبولوجيا الجينية راهنوا على النسب الأمومي (بالاعتماد أحيانًا على الحمض النووي للميتوكوندريا الذي ينتقل فقط من خلال بويضة الإناث) وأرجعوا أصل البشرية إلى “حواء أفريقية” واحدة. وسواء رجعنا إلى “الإنسان المنتصب”، يوجد أقدم اكتشاف إلى يومنا هذا بموقع “عين بوشريت” في الجزائر بالقرب من سطيف، الذي يعود تاريخه إلى 2.4 مليون سنة، والذي يفوق عمر “لوسي” الإثيوبية، أو إلى الإنسان العاقل، فإن جميع الأفارقة، والآسيويين والأوروبيين والأمريكيين والأستراليين ينحدرون من نفس الأم: وهي حواء الأمازيغية، “حواء أدرار إغود”!
نساء أمازيغيات خلال العصور القديمة والرومانية:
من المؤكد أن إحدى المحاولات الأولى، التي تناولت بالبحث موضوع النساء الأمازيغيات عبر التاريخ ، تعود لعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي العظيم غابرييل كامبس، من خلال كتابه الرائع “إفريقيا الشمالية بصيغة المؤنث” (باريس 1992)، الذي أورد فيه روايات عن التاريخ الأكثر غنا وتعقيدا لتامزغا. قال الراحل غابرييل كامبس: “ربما يفاجأ البعض بالمكانة المهمة التي أفردتُها في هذه القصص للمعتقدات والمشاعر الدينية، لكن لا يجب أن ننسى أن الرجل المغاربي، شأنه في ذلك شأن المرأة المغاربية، يتميز بإيمانه العميق. وقد تشكلت الإمبراطوريات في هذه البلدان باسم وفي سبيل الرب العظيم، أكثر من أي مكان آخر”.
ومن بين هاته النساء، يمكن الإشارة إلى:
إيونوي وصوفونيسبا
يذكر غابريل كامبس، خلال العصر الروماني بعض النساء أمثال الملكة إيونوي، والملكة صوفونيزبا. وكانت الأولى زوجة للملك الموري بوغود وعشيقة ليوليوس قيصر، الذي وقع في شراك حبها بشكل جنوني(45 قبل الميلاد). كانت الملكة إيونوي مُتَضَلِّعَة في العلوم والمعرفية. أما الملكة الجميلة صوفونيسبا، التي تحدثت عنها الكتب أكثر، فهي ابنة القائد القرطاجي “صدربعل”. ويروى انها وُعدت، وربما تزوجت من الأمير النوميدي ماسينيسا، لكن القرطاجيين غيروا رأيهم، وعُرضت صوفونيسبا الصغيرة عروسًا على الملك النوميدي سيفاكس. عندما هُزم هذا الأخير ومعه القرطاجيين، من طرف الرومان تزوجها حليفهم الملك ماسينيسا. لكن الملكة انتحرت للأسف. وكما تؤكد ماريا دولوريس ميرون بيريز في كتابها “المرأة الأمازيغية” (نشر من طرف فيسينتي موغا روميرو ورشيد راحة ، مليلية 1998): “يبدو أن سوفونيسبا كانت ضحية للتقلبات السياسية وألاعيب التحالفات بين النوميديين والرومان والقرطاجيين، وقد بدّلت أزواجها وفقًا للتغيرات التي طالت هذه التحالفات، ودون أخذ رأيها بعين الاعتبار”.
“عِلِّيسَة ديدون”
لا يجب ان ننسى أن نشوء الحضارة القرطاجية كان نتيجة عزيمة ودهاء وشجاعة امرأة مقدامة وخارقة للعادة اسمها “عِلِّيسَة ديدون”. بعد الاستيلاء على ثروة عمها “عاشرباص” (المعروف بـ”زيكار بعل”)، الذي تزوجت منه والذي اغتيل على يد شقيقها، هربت “علّيسة” من لبنان ونجحت سنة 814 ق.م. في رصّ صفوف القبائل الأصلية من حولها، في مجتمع يقدّر المرأة حق قدرها. أسست المدينة التونسية الشهيرة “قرطاج”. وبمجرد أن وطأت قدماها أراضي ” الليبو”، يحق لنا أن نعتبرها ملكة أمازيغية بقدر ما هي ملكة فينيقية، لأن مملكتها تطورت وازدهرت في أرض تامازغا، على الرغم من أنها رفضت الزواج من هيرباس ملك قبائل الـ”مازييس” الأمازيغية!
ظل انتحارها لغزًا كبيرا، لكن الفضل يرجع إليها في بناء حضارة عظيمة حوّلت قرطاج، ربما، إلى أول جمهورية في التاريخ- وفقًا لأرسطو- بمجلس شيوخ ضم ممثلين عن جزء من الشعب. إن الحضارة القرطاجية، التي كان لها الفضل في تأسيس إمبراطورية في البحر الأبيض المتوسط، من خلال غزو جزر صقلية، وسردينيا، وكورسيكا، وكذلك منطقة مورسيا في إسبانيا، حققت شهرة كبيرة بفضل هانيبال، الذي تحدى جبال الألب وعبرها على ظهر الفيلة ليشن حربا ضد الرومان إلى أن وصل أبواب روما! كانت الإلهة العظيمة لهذه الإمبراطورية، التي أصابت الرومان بالذعر، تسمى “تانيت” وهي إلهة أمازيغية مسؤولة عن حماية الخصوبة والولادة والنمو.
كليوباترا سيلين
برزت امرأة أمازيغية أخرى، خلال هذا العصر الروماني، ويتعلق الأمر بكل تأكيد بكليوباترا سيلين، زوجة جوبا الثاني ملك موريطانيا القيصرية (من سنة 20 قبل الميلاد إلى عام 5 بعد الميلاد)، فضلا عن أنها ابنة الملكة المصرية كليوباترا السابعة ومارك أنطوان. مارست الملكة الأمازيغية كليوباترا سيلين، التي تُوّجت ملكة بفضل أسلافها من جهة الأم، تأثيراً عميقاً على سياسة زوجها جوبا الثاني، خصوصا في مجال الفنون والآداب والمعمار.
كيريا جبال دجورجورا
في كتابهما: “إفريقيا الشمالية في العصور القديمة، من الأصول إلى القرن الخامس” (باريس، 1981)، يذكر محمد حسين فنطر وفرانسوا ديكري، امرأة تدعى “كيريا” من جبال جورجورا بالقبائل، كانت لديها الجرأة والشجاعة لمحاربة الرومان خلال غزوهم للجزائر عام 370 م. بعد ذلك، امتطت جوادها لتخوض مع القبائل الأمازيغية، التي آمنت بقضيتها، هجمات متتالية قلصت من مدى دفاعها إلى أن هزمها الجيش الروماني.
تين هينان، ملكة الطوارق (“الرجال الزرق” في الصحراء)
تين هينان، تعني في لغة تماشيقت “امرأة الخيام”، علما أن الخيمة، أو “إهين”، بالنسبة للطوارق تدلّ على وحدة الأسرة والقرابة الأمومية، والتي هي أصل النظام الأمومي الذي بموجبه يرث الرجال من أمهم القوة والحق في تولي المسؤولية. وكما تشير إلى ذلك السيدة كلودو هواد، فإن النساء اللواتي يترأسن أسرة قوية(خيمة)، لديهن القدرة على تأكيد وفرض قراراتهن، باعتبارهن حاميات لشرف ودعائم المجتمع البدوي.
تنحدر تين هينان، التي يتم تقديمها كشخصية خرافية والتي تعتبر الجدة الأسطورية لسكان الهكّار، من منطقة تافيلالت المغربية. وقد رزقت بثلاثة بنات: تينرت “الظبية”، وتاهنكوض “الغزالة”، وتينرولت “أنثى الأرنب”، اللائي اعتبرن بمثابة أمهات قبائل الطوارق في الهكار (“إينمبا، و”كل ريلا”، العشيرة التي تمارس السيادة على جميع قبائل الهكّار، وإيبوكلام”…). وكانت ترافقها في فيافي الصحراء الكبرى، خادمتها “تاكامات”.
تم اكتشاف ضريح ملكة الطوارق، الذي يتبدى على شكل تلة حجرية مهيبة، من قبل علماء الآثار في عام 1925 في “أباليسا” بالهكّار، وكان يحتوي على هيكل عظمي محفوظ بشكل جيد، ومصحوب بمجوهرات ذهبية وفضية وعملات معدنية، وأثاث جنائزي. والمثير في الأمر هو وجود تمثال أنثوي صغير من الحجر الجيري (معروض في متحف باردو بالجزائر العاصمة).
عاشت تين هينان، حسب غابرييل كامبس، في القرن الرابع الميلادي، قبل ظهور الإسلام بزمن طويل؛ لكن المؤرخين العرب والمعربين، الذين لا ينظرون بعين الرضا لدور المرأة المحاربة، ونظرا لما لها من تأثير في المجتمع الصحراوي، حاولوا ربطها وإلحاقها بالعصر الإسلامي، حيث تشير وثيقة أنها ابنة “سعيد مالك”، حوالي عام 1642، وهو تأريخ يتناقض بشكل تام مع ما توفره المعطيات الاركيلوجية!
النساء في القرون الوسطى والعصر الاسلامي
لاتزال مدارسنا في مختلف بلدان شمال افريقيا تدرس تاريخا رسميا وضحلا، يتجاهل ويهمش عمدا الوقائع التاريخية والقيم الأساسية لحقبة ما قبل الإسلام، وبالتالي لا تعطي أية أهمية للآثار والمعالم الاركيولوجية قبل وصول الغزاة العرب الأوائل.
ولايزال التعتيم الذي يطال تاريخنا الشمال-إفريقي مستمراً بسبب هذه النخبة التي تكونت في كنف الثقافة الثيوقراطية العربية-الإسلامية المتمركزة حول العرق. هذه النخب لا تكتفي فقط بالاستمرار في تزوير جزء كبير من تاريخنا الغني جدا، بل إنها لم تعد تقوى على الاعتراف بالإنجازات التاريخية التي قامت بها النساء، لدرجة أنها عمدت إلى محو أسماء النساء من شجرات الأنساب! كما تشير إلى ذلك “إيما ميلد”.
هناك حقيقة فريدة نريد تسليط الضوء عليها في العصور الوسطى، وهي أنه مع وصول الإسلام، آخر ديانة توحيدية، إلى البلاد الأمازيغية، فإن النساء هن أول من وقف ضد الغزاة العرب الأوائل، مثل الكاهنة. كما أن المرأة الأمازيغية هي التي ساهمت بشكل فعال في حملة اعتناق الإسلام وانتشاره في شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء وإسبانيا المسلمة.
ومن بين أشهر النساء اللواتي حفرن أسماءهن بمداد من الفخر على صفحات التاريخ، خلال عصر الأسلمة الجديد، يمكن الإشارة إلى:
ديهيا ماتيا أو كاهينة
اسمها الحقيقي هو داهيا أو ديهيا، ابنة ماتيا بن تيفان، التي يقول عنها المؤرخون العرب بأنها ساحرة، من خلال تسميتها بـ”الكاهنة”، قصد تشويه سمعتها وتقويض سيرتها الأسطورية. يشكك ابن خلدون في كونها يهودية لأن قبيلتها “جراوة” كانت تدين إلى حد كبير باليهودية خلال القرن السابع. ظهرت هذه الملكة الأمازيغية الأصيلة على مسرح الأحداث، بمنطقة الأوراس الجزائرية. كانت قد شاركت في معركة تهودا عام 683 ميلادية، إلى جانب جيوش كسيلة، والتي قتل خلالها عقبة بن نافع. نجحت في طرد جيوش حسان بن النعمان، الذي كلفه الخليفة عبد الملك بن مروان بقمع الأمازيغ، وذلك رداً على اغتيال مؤسس القيروان. كان ذلك في 688-689 شمال خنشلة، على وادي “نيني”.
لفظت ديهيا أنفاسها الأخيرة عند سفح جبال الأوراس، قرب بئر لا تزال تحمل اسمها: “بئر الكاهنة”. ولأن العرب لم يقبلوا أن تذلهم امرأة وتلحق بهم الهزيمة، فقد جُزّ رأسها وقدم كغنيمة حرب للخليفة عبد الملك، الذي ترك ولديْها على قيد الحياة، واللذين اتبعا نصيحة والدتهما باعتناق الدين الجديد، وأصبح أحدهما من أهم قادة جيوش حسان بن النعمان.
كنزة الأوربية
لا تزال المملكة المغربية تصرّ على حصر التاريخ الرسمي واختزاله في حقبة سُلّط الضوء عليها، وتعود إلى اثني عشر قرنًا فقط، وبالضبط إلى تاريخ تأسيس سلالة الأدارسة. لنقرأ ما يتم تمريره من طرف أحد مؤرخيهم: “بدأ تاريخ المغرب مع دخول الإسلام … أنشأ مؤسس الأمة المغربية، إدريس الأول، دولة مستقلة عن القطبين الرئيسيين في العالم الإسلامي آنذاك: بغداد وقرطبة”. لكن الحقيقة التاريخية هي أن حكم إدريس كان عابرا ومحدودا حول وليلي، عندما تزوج من كنزة، ابنة زعيم قبيلة أوربة الأمازيغية .
شهد عهد الأدارسة ازدهارا ونموا تحت حكم إدريس الثاني، الذي لم يصل إلى سدة الحكم إلا في سن الحادية عشرة من عمره. وفي الواقع، فإن من كان يمتلك ويتحكم فعليا في دواليب السلطة هي والدته كنزة، وبفضل ذكائها ودهائها ومهاراتها التفاوضية، نجحت حقًا في توحيد القبائل الأمازيغية حول فاس.
كانت كنزة امرأة أمازيغية، استطاعت بالاعتماد على الشرعية الأبوية للرجال واستغلال ابنها، من إدارة الشؤون السياسية والإدارية والعسكرية لهذه الدولة الإسلامية الجديدة. وعندما توفي ابنها، في عام 828 أو 829 ، كانت لاتزال هي سيدة الموقف، حيث أنها قسمت الحكم بين أحفادها العشرة، وأضعفته بسبب التوترات بين هؤلاء الورثة المتعددين، واستمر الأمر على ذلك الحال حتى عام 920 حيث سقطت العاصمة فاس تحت أيدي قبائل مكناسة وكتامة.
وختاما، إذا كان لسلالة الأدارسة دور ديني حاسم في اعتناق الإسلام من طرف العديد من القبائل الأمازيغية الوثنية، وكذا انتشار تقاليد الشرفاء، فإن ذلك يعود إلى شجاعة امرأة عظيمة اسمها: كنزة الأوربية.
زينب النفزاوية
تركت الملكة زينب النفزاوية، زوجة الملك العظيم يوسف بن تاشفين، بصماتها على الإمبراطورية المرابطية (1054-1147). ولدت عام 1039، وتنحدر من نفزاوة بالجنوب التونسي، وتنتمي حسب بعض المصادر إلى قبيلة هوارة. كانت حازمة ولبيبة وذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور .
كانت زينب النفزاوية، ككل الملكات الأمازيغيات، طيبة جدا وذات جمال فتان وذكاء وقّاد. تزوجت أول الأمر من أبي بكر بن عمر اللمتوني، مؤسس حركة المرابطين. ولما عزم هذا الأخير الخروج إلى الصحراء لإصلاح امرها، وإخماد تمرد أهلها، طلّق زوجته الجميلة ونصحها بالزواج من ابن عمه يوسف بن تاشفين. منحها هذا الملك الأمازيغي المسلم العظيم لقب “ملكة” من خلال تقاسم سلطته معها. رافقت زينب زوجها في كل مكان، نصحته وساعدته في تطوير وتوسيع الامبراطورية الصنهاجة التي امتدت حدودها من السنغال إلى الأندلس، وكانت أيضًا مستشارة رئيسية له أثناء تأسيس إحدى أروع المدن في إفريقيا: مراكش .
ورغم أن المؤرخين المغاربيين في العصور الوسطى، المشبعون حتى النخاع بالنظرية العامة للسلطة الأبوية، حاولوا محو الدور التاريخي لبعض النساء والتقليل من نفوذهن السياسي، يجب الإقرار بأن اعتناق الغالبية العظمى لسكان شمال إفريقيا للمذهب السني المالكي، يرجع إلى كونه الأكثر انفتاحًا والأقل عنفًا والأكثر تسامحًا بين المذاهب الأخرى …
وإذا استطاع الأمازيغ أنفسهم، وليس العرب الغزاة، أن ينجحوا في نشر هذا المذهب في مختلف أنحاء شمال إفريقيا، فإن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى الدور الأساسي الذي لعبته النساء والملكات الأمازيغيات.
نساء أمازيغيات في مواجهة المستعمر:
تركت المرأة الأمازيغية، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، بصماتها على صفحات عهود ما قبل التاريخ والعصور القديمة والوسطى، وهو ما يسري على الفترة المعاصرة التي لا تخلو من تأثير للنساء الأمازيغيات.
ففي الجزائر، على سبيل المثال، انخرطت النساء بكثافة في المقاومة المسلحة، وذلك على إثر دخول الاستعمار التركي ثم الفرنسي. وفي هذا الصدد، يمكن أن نشير إلى “أم هاني” و”فاظمة ن سومر”.
تمكنت أم هاني، وهي زعيمة قبيلة في الصحراء، من خوض العديد من المعارك ضد سلطة “البايات” في القرن الثامن عشر، وعندما لم تعد حالتها الصحية تسمح لها بذلك، واصل أبناؤها هذه المعارك اقتداء بها وأخذا بنصائحها.
وفي جزر الكناري، يمكن ذكر الأدوار التي قامت بها الملكة “أرميندا” في مواجهة الاستعمار الاسباني حوالي 1480 ميلادية، وكذا ما حققته السيدة الحرة بشفشاون حوالي 1520 تحت الحكم الوطاسيين.
نذكر أيضًا فاظمة ن سومر، وهي بطلة عظيمة من منطقة القبائل تزعمت جزءًا من المقاومة ضد الغزو الفرنسي، في عامي 1855 و 1857. ولدت في قرية أوردجا عام 1830 وسط عائلة مرابطية، ينتمي إليها الزعيم الجزائري الكبير الحسين آيت أحمد.
تتمتع بشخصية قوية، وكانت مُحترمة ومُبجّلة وبمثابة إمرأة مقدسة. استطاعت بمعية شقيقها الطاهر، خلال تجمع في سومر، تنظيم مقاومة القبائل الجبلية في منطقة القبائل (آيت إتسوريغ ، إيلّيلتن، آيت إيرّاتن، إيلّولين ن أومالو … ) ضد الهجمات الأولى للمستعمر الفرنسي عام 1855. بعد انتصارها في هذه المعركة الأولى في تازروت، تم القبض عليها في المعركة الثانية يوم 11 يوليو 1857 بعد عودة المستعمرين الفرنسيين مدججين بالمزيد من التعزيزات العسكرية والبشرية.
ومهما يكن من أمر، ورغم ان النساء الأمازيغيات لم يكنّ في الصفوف الأمامية خلال المعارك، إلا أنهن ساهمن بشكل أو بآخر في المقاومة ضد المستعمر التركي، والأوربي في افريقيا الشمالية. وكما تشير إلى ذلك آسيا بنعدادة، في مقالة لها تحت عنوان “النساء في الحركة الوطنية المغربية”(https://journals.openedition.org/clio/1523 )، فإن “النساء كنّ يزوّدن المقاتلين بالماء والطعام، ويُعبّئن البنادق ويعوّضن أحياناً القتلى في الجبهة. كانت النساء تعمدن إلى طلاء الرجال الفارين من المعركة بالحناء للسخرية منهم وتحقيرهم، وكنّ يمنعن زوجاتهم من التزود بالماء من الآبار والعيون. أكثر من ذلك، فإن نساء قبيلة “غمارة” كن يتقدمن بطلب الطلاق من أزواجهن إذا ما رفضوا المشاركة في المعارك. كما كانت النساء تراقب تحركات قوات العدو ويبلّغن بذلك المقاتلين بواسطة رموز سرية خاصة”.
وهكذا، وخلال حرب الريف (1921-1927) التي خاضها محمد عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار الإسباني، شاركت العديد من النساء بشكل حيوي. ففي منطقة جبالة على بسبيل المثال، يمكن أن نذكر “فاطمة اعزاير” من شفشاون وكذا “هيدنة”، وهي شقيقة أحد المقاومين الذي نجح في اغتيال الضابط فالديفيا ببني عروس. وفي الريف الأوسط والشرقي، يمكننا أن نشير إلى عائشة أبي زيان ، التي كانت مجرد فتاة صغيرة عمرها عشر سنوات فقط، عندما شاركت في معركة أنوال الشهيرة عام 1921، وكذلك مامات الفرخانية ، وعائشة الورياغلية وحدهوم الحسن.
وفي الاطلس المتوسط، نذكر إيطو موحى أوحمو الزياني، ابنة موحى أوحمو الزياني الذي خاض غمار المقاومة رفقة والده ضد الاستعمار الفرنسي. وفي منطقة سوس، يمكن الإشارة إلى المحاربة عائشة العمرانية، من قبيلة ايت باعمران، والتي استشهدت بمعركة آسّاك سنة 1916.
وفي الجنوب الشرقي، بمنطقة أسامر، نذكر عدجو أوموح من قبائل أيت عطا، والتي برزت خلال مقاومة المستعمر الفرنسي بجبل صاغرو في معركة بوغافر سنة 1933، التي استشهدت فيها 117 امرأة، حسب بعض المصادر.
وبخصوص حركات التحرير من أجل نيل الاستقلال بدول شمال افريقيا، يمكن ذكر دور غيثة علوش، زوجة قائد جيش التحرير المغربي عباس السعدي، وفاظمة ميمون الحموتي، زوجة المقاوم محند خيضر، التي كانت تساند وتدعم بشكل كبير، رفقة زوجها، أعضاء جيش التحرير الوطني بالجزائر الذين اتخذوا من منطقة بني انصار بإقليم الناظور مخبأ لهم.
هل كانت ملكات مصر القديمة على علاقة مع النساء الامازيغيات؟
إن إحدى الأسئلة التي تثار بشكل حاد، هو معرفة ما إذا كانت الملكات المصريات، مثل نفرتيتي أو كليوباترا، على اتصال بالنساء الأمازيغيات القدامى، بالنظر إلى أصلهن الأموسي المشترك.
ويمكن الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب، لأن بعض الباحثين أصبحوا يتبنون مؤخرا فكرة تقول بالأصل الامازيغي للحضارة الفرعونية العظيمة. وهكذا، فإن الأبحاث الجينية لـ”ناشيونال جيوغرافيك”، وخاصة تلك التي قام بها كبير المتخصصين في علم المناعة، الدكتور أنطونيو أرناييز-فيلّينا(بشراكة مع خورخي ألونسو غارسيا “المصريون والأمازيغ والغوانش والباسك،” مدريد، 2000(، والدراسات الاركيولوجية والتاريخية لمليكة حشيد، مؤلفة الدراسة الضخمة “الأمازيغ الأولون”،(إيديسود، إيكس اونبروفانس، 2000 (، وتاكليت مبارك سلاوتي، مؤلفة “الأمازيغ في مصر” (منشورات أنيب، الجزائر 2019(، كلها تؤكد ذلك. لكن، تلك قصة أخرى !
وبالعودة إلى المرأة المصرية القديمة الفاتنة، المبجلة والمثيرة للإعجاب، كم كانت دهشة الإغريق والرومان شديدة أمام أدوارهن والسلطات التي يتمتعن بها، حيث كن يحكمن ويقرّرن ويُدرن شؤون البلاد على قدم المساواة مع الرجال، خلافا لما ميز الأديان الأبوية من كراهية للنساء، كما هو الشأن، بالنسبة لليهودية والمسيحية والإسلام والحضارات اليونانية والرومانية.
وقد لعبت الملكات “ميرنيث” و”نفيروسوبك” و”حتشبسوت” و”تاوسرت” و”تيي” و”نفرتيتي” و”كليوباترا”، سواء كن أمهات أو أخوات أو زوجات للفراعنة، دورًا سياسيًا كبيرًا في إدارة شؤون الدولة إلى جانب قائد الدولة/ أو أثناء غيابه، أو موته!
خاتمة:
لا تزال آثار النظام الأمومي الذي ميز المجتمع الأمازيغي قديما، قائمة إلى يومنا هذا وذلك من خلال بعض الكلمات والعبارات المتداولة. وهكذا، فإن الأصل الاشتقاقي لكلمتَيْ “أوما” و”أولتما”، اللتان تعنيان على التوالي الأخ والأخت، مشتق من “مّيس ن يمّا” و إلّيس ن يمّا”، والتي تعني على التوالي “ابن أمي” و”ابنة أمي”، وذلك في إشارة دائمًا إلى الأم!
وبسبب قراءة التاريخ التي قام بها الرجال حصريًا، المشبعة إلى حد كبير بالأطروحات والأفكار الأبوية المستوردة من الشرق الأوسط العربي-الإسلامي-السلفي، فإن دور المرأة ظل مهمشًا تمامًا ومستبعدا من التاريخ الرسمي بمختلف دول شمال إفريقيا.
في بعض بلدان شمال إفريقيا، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب والجزائر، ورغم اعترافهم بلغتهم وهويتهم الأمازيغية الأصلية، وترسيمها في دساتيرهم، إلا أنهم لم يبادروا بعد إلى تعديل البرامج المدرسية لمراجعة وإعادة النظر في ذاكرتهم الجماعية، لكي تتصالح الأجيال الجديدة مع تاريخها الأصيل، سواء كانت صفحاته مضيئة أو مظلمة. ولا يمكن، في نهاية المطاف، تحقيق هذه القراءة الجديدة والضرورية لتاريخ شمال إفريقيا- المرغوب فيها والتي طال انتظارها- بمعزل عن النساء الأمازيغيات، وفي غياب “تيمغارين”.
* رئيس التجمع العالمي الأمازيغي