من قال إن النسوة لا يصلحن إلا لأشغال البيت؟ من يَراهُنَّ عاجزات عن الفعل المدني والحقوقي؟
أتذكَّرُ أن آخر الحِراكات التي عرفتها مدينة تنغير، تنتفض على وضع مزرٍ، قادتها نساءٌ؛ مرة في مسيرة نسوية خالصة، يتوشحن البياضِ، وقد رسمن لوحة فنية بلباس “رْدِي” الفاخر كالطوس، يرددن شعارات مرتَجَلةً، بلحنٍ جماعيٍّ، كأنهنَّ في عرسٍ تُقيمُه “إِدْ مْ لْفْدِيْتْ”. لكنها ليست أشعاراً روحانيةً، في مدح الرسول، والتغني بالحب الإلهي، وصفاء الروح. بل هو انتفاضٌ ضدَّ غياب ربط بعض الأحياء في المدار الحضري للمدينة بالكهرباء، وعلى معاناة حيٍّ بأهله، واختناق الحقول، وتلوُّثِ تربتِها، ومرض أطفالهنَّ من المياه العدمة التي تزكم الأنوف، وتكاد تقبض الأرواح. كما أنه انتفاض على موت الأطفال الرضع في المستشفى الإقليمي في المدينة.
ومساءَ يوم الثلاثاء 14 شتنبر الجاري، نزلت نسوة، لا ينتمين لحزب، ولا يتبنَّيْن اديولوجيةً، ولم تحركهُنَّ نقابةٌ، ولم تؤطرهنَّ جمعيةٌ لحماية المستهلك الغائبةِ في المنطقة إلا اسماً. لا يأبهن لذلك، ولا للمسافة التي قطعنَها من دواوير تودغى العليا، في اتجاه مقر العمالة. يسرن في شموخ، والأمطار تتهاطل عليهنَّ، متضامنةً معهنَّ. نساءٌ أخرجهُنَّ ما لحقهُنَّ من ضررٍ من غلاء تسعيرة النقل العمومي، المهيكل وغيره، فقد بات المواطنُ وحدَه من يدفعُ تكلفة قرارات الحكومة بتمديد حالة الطوارئ التي فرضتها جائحة كورونا، والإغلاق الليلي مع التاسعة مساءً، وتخفيض حمولة وسائل النقل العمومية إلى النصف. قرارٌ لم يراع القدرة الشرائية لمواطنٍ فقدَ عمله مع الجائحة، أو فقدَ مداخيل فترات الذروة التي شملها زمن الإغلاق.
أرباب الطاكسيات خسروا زبناء لم يعودوا قادرين على دفع التسعيرة أربع مرات في اليوم، متنقلاً من دواره، إلى مركز المدينة، والعودة، لقضاء حاجياته الحياتية اليومية. لم يعد المواطن المقهور بقرارات تقمع حرية الناس، وتُنهِكُ جيوبهم، وتحرمهم من مصادر رزقهم، قادراً على أداء أربعةَ عشرَ درهماً، بعدما اعتاد سبعةً، او أقل في النقل المزدوج، فبات يستعين بقدميْه، يسيرُ عليهما لكلومترات، أو بـ”الأوطوسطوب”، أو يقللُّ خروجه من دواره، إلا لضرورةٍ مُلِحَّة. وأنى للإنسان أن يصبر على هذا الضغط النفسي، لكنه –على كل حال- أقلُّ ضرراً من إصابة “الجيب”.
أمام خسارة أرباب الطاكسيات، صار بعضهم، حسب إفادة المحتجات، يزيد بغير وجه قانون في التسعيرة؛ درهماً، أو اثنيْن، بل إن آخرين، عاينهتم، وانتفضتُ ضدهم، وعانى منهم أفرادٌ من عائلتي ومعارفي، يحمل معه ستة ركاب، يدفع كل واحد منهم أربعة عشر درهماً، فيجني ثمن جولتيْن في واحدةٍ.
الرجالُ هناك جالسون في المقاهي على أرصفة الشوارع كعادتهم، غير مبالين بظروف الفقر والبطالة في المدينة، واهتراء البنى التحتية التي يجرفها مطرٌ خفيفُ الظلِّ، غير مكثرين بالركود الثقافي والفكري والأدبي، وقلة فرص الشغل، وانعدام الاستثمارات. يلتفون حول “براد شاي”، سيدفعون ثمنه مشاركةً، وهم يلعنون “قلة ما يدار” في هذه البلاد، ويندبون حظهم، لأنهم لم يولدوا في بلاد غيرها.
تمر النسوة المحتجات أمامهم، في الشارع العمومي، يرددن شعاراتهن العفوية، متجهات نحو مقر عمالة إقليم تنغير، ليوصلن صوتهنَّ الذي بُحَّ بالظلم، وغياب العدالة الاجتماعية، مرددات “اللهم إن هذا الأمر منكر”.
يظل الرجال الجالسون في المقاهي جامدين في أماكنهم، متفرسين وجوه النساء، لعلهم يتعرفون عنهن، ويبحثون عن أسماء أزواجهن، وأعمالهم، ويتساءلون إن أذنوا لهن بالخروج هكذا، أم أن رفضهن للظلم والقهر، لن يمنعه مانع، مهما كان شأنه. سيُسمِعْنَ صوتهُنَّ لمن يتولى تدبير هذه المدينة.
ألا يركبُ الرجال الطاكسي أكثرَ من النساء في مدينة تنغير؟ ألا يعنيهم الربط بالكهرباء، ولا أرواح أطفالهم؟ ألا تؤذهِم تلك الروائح التي تنبعث من المياه العدمة، و لا تُمرضُهم الحشرات التي تحوم حول تلك الفضالات؟ ما الذي يجعل النساء وحدهن في عشر سنوات الأخيرة هنَّ الوحيدات اللواتي نَراهنُّ يجوبْنَ الشارع في مسيرات احتجاجية؟
تدور في رأسي عشرات الأجوبة التي استقيتُها من المرأة التنغيرية، في نقاشات مُطوَّلة خضتها معها، في مناسباتٍ عديدةٍ. لكنني أودُّ أن أمُرَّ لسؤال موجعٍ أكثرَ: ما الذي حقَّقتْه هذه المرأة مما رفعتْ صوتها منددة به، ومُطالِبة بإصلاحه؟
إنهنَّ نسوةٌ قوياتٌ، لا محالةَ، ويمتلكن الكثير من عزة النفس، ويعبرنَ عن حريتهنَّ، لكنَّ احتجاجاتهنَّ في حاجةٍ إلى مواكبةٍ مدنيةٍ، ترافعُ عن هذه الاحتجاجات الشعبية النسوية الراقيةِ التي تسهِمُ في بناء دولة المؤسسات، فضلاً عن المواكبةِ الإعلاميةِ، حتى يمارس الإعلام المحليُّ دورَه في ممارسة الرقابة على المؤسسات المُنتَخَبَة والإدارية، باعتباره سلطةً رابعةً، كما تُعرَفُ. وإلا، فإنَّنَا نُسهِم في جعل هذه الاحتجاجات تدخل ذاكرتَنا وكأنها “فُرجةٌ للتنفيس عن الألم”، كما نعتَها صديقٌ.
سليمان محمود