بحكم أن المناطق التي يقطنها الأمازيغ في المغرب هي في أغلبها مناطق جبلية وبدوية لا تزال تغلب عليها الثقافة الشفهية فإن للشعر في هذه المناطق سطوة وحظوة وأهمية كبيرة.
وكما اشتهر عن شعر العرب قديما بأنه ديوانهم فإن شعر الأمازيغ -الذي هو في أغلبه شعر غنائي شفهي- هو كذلك ديوانهم وإعلامهم ومعلّمهم، به يحيون أفراحهم ويتذكرون أتراحهم، وبه يهاجمون ويهجون أعداءهم أو يعضدون ويمدحون حلفاءهم، ومنه يستقون أخبارهم ويتعلمون جزءا غير يسير من دينهم.
ولا تزال للشاعر في المجتمع الأمازيغي -خصوصا في المناطق البدوية والجبلية النائية التي لم تصلها بعد مظاهر التمدن الحديث- مكانة اعتبارية تسند إليه أدوارا مهمة، أبرزها الدور التثقيفي والتوعوي.
ولذلك نجد الشاعر في هذه المناطق يضطلع بدور المعلم والموجه، ونجد أن أحد أبرز أغراض الشعر الأمازيغي شعر الوعظ والإرشاد والتوعية الدينية حتى يكاد بعض فطاحل الشعراء يضاهون الفقهاء والأئمة في كونهم مصدرا من المصادر التي يأخذ عنها الأمازيغ دينهم.
واشتهر أيضا عن كبار الشعراء الأمازيغ في المغرب أنهم درسوا في المدارس القرآنية وتتلمذوا على كبار العلماء قبل أن يلجوا ميدان النظم والغناء، فمن عادة الأمازيغ أن تكون لكل قرية من قراهم مدرستها القرآنية التي يرعونها وينفقون عليها ويرسلون إليها أطفالهم لتعلم القرآن والعلوم الشرعية منذ نعومة أظفارهم.
وكثير من هؤلاء الشعراء تأثروا بهذا المسار وانعكس على أشعارهم فأصبحت مليئة بالمعاني القرآنية ومعاني الأحاديث النبوية، فقد نظموا في التوحيد والصلاة والزكاة والحج والصوم، بل إن كل القصص الواردة في القرآن الكريم -سواء منها قصص الأنبياء أو قصص الأقوام والحضارات السابقة- تجد لها في الشعر الأمازيغي ما يقابلها وينقل معانيها للمتلقي الذي لا يعرف اللغة العربية ولا يفهم بها معاني القرآن.
وذهب شعراء الأمازيغ أبعد من ذلك بأن نظموا قصائد وأرجوزات تعليمية في الفقه وفي العلوم الشرعية عموما، ومنهم من ترجموا إلى الأمازيغية بعض ما اشتهر من نظم عربي في هذا المجال.
ومن مظاهر تأثر الشعر الأمازيغي بالقرآن أن الشعراء الأمازيغ كثيرا ما يشبهون أنفسهم بمدرسي القرآن، ويعتبرون من يتلقون صنعة الشعر على أيديهم طلابا وتلاميذ، ويعتبرهم هؤلاء بدورهم شيوخا وأساتذة، بل إن بعض مناطق المغرب (بعض قبائل جبال الأطلس المتوسط) لا تقبل للشاعر لقبا غير “الشيخ” وتسحب عليه ما لهذه الكلمة من حمولة صوفية ودينية.
وعن مثل هذه العلاقة يقول الشاعر الأمازيغي المشهور في منطقة سوس (جنوبي المغرب) الرايس محمد الدمسيري (توفي عام 1989) في إحدى قصائده التي يقرّع فيها شاعرا ممن تتلمذوا عليه لكنه تجرأ فهجاه، فرد عليه الدمسيري قائلا:
“الله أكبر ءا تيبّيت كْمّي كا يوحْلْنْ
ءيمّا غايْدا تْسّْنْكيمْتْ ءورْ ءيسّن سْ الخير
أصْلاّب نوسيتيدْ ءيفْراخْ ءاسّيسْ نْكّاتْ
يا ءيكانْ ءيويسْ نْ الطّاسيلْ هانّ
ءورْ ءيدْرْكْ ءاداغْ سولْ ءيرارْ ءاوالْ
ءيمّا كارْ ءامودْ هانّ ءورْ سارْ ءيسّْنْ سْ الخير
ءيغْ ءاسّ نْسْموسّْ ءاضادْ ءيسْموسّاغْ نْتّانْ ءافوسْ
“سَبّح” دْ “عَمّ” ءادّارْسْ ءيلاّنْ ءارْ الموت
“قد أفلح” ويدا ءيسْلّمْنْ ءاتّ ءيسّنّْ”
تعريب المعنى:
الله أكبر يا ثدي ذهب تعبك سدى
من رضعوا منك أنكروا الجميلا
أنا مثل مدرس حمل عصا يضرب بها الطلاب
من كان ذا خلق فإنه يحترمني
ولا يستطيع أن يرد على كلامي
أما سيئ الأخلاق فلا يعترف بالجميل
لو أشرت إليه بإصبعي فسيشير علي بيده
لن يجاوز في حياته حزبي “سبح” و”عم” (الجزء 30 من القرآن الكريم)
وفي قصيدة أخرى يتحدث الدمسيري بوضوح عن تأثر مسيرته الشعرية بالقرآن الكريم، وعن حرص أبيه على أن يلج ابنه المدرسة القرآنية ويتخرج فيها عالما، لكن الأقدار انعطفت به إلى الشعر والغناء بعد أن أمضى مدة في حفظ القرآن وبلغ فيه الجزء العشرين. يقول:
“يامْزيي بابا ءيكْلّينْ ياوييدْ
ءارْ تيمْزْكيدا سْدوقّْرْنْ سْ لْفْقيهْ
لّيغْدْ ءيفّوغْ ءينّاسْ ميّة نْ ضيفْ الله
ءارّاوينو ريغْ كيسْ ءادْغْرْنْ ءيتوبْ
لوقْرانْ لّيدْ ءيكّزْنْ فْ نّبي موحْمْدْ
الطّالْبْ ءيكْلّينْ ءيتّياقّنْ فْكانييدْ
لْقْلْمْ دْ تّالّوحْتْ ءارانْغْ ءيسّْلمادْ
ءيدْ ليفْ ءاسْ ءاكّ ءيزْكورْ ءيمْلاييتْنْدْ
نْكّ خير الله نْفْهْمْ كٌلْشي لْحْسابْ
ءولا لوقّْرانْ نْفْتا كيسْ نيوْرّيدْ
ءارْ “ولا تجادلوا أهل الكتاب”
ءاغْتْنْتْ نْفّوغْ نْفْتو داغْ سْ ءيموريكْ”
تعريب المعنى:
أخذ أبي بيدي رحمه الله
إلى المسجد ونادى على الفقيه
وبعد أن خرج قال له
هذا ابني أريده أن يستقيم ويدرس
القرآن المنزل على النبي محمد
فشمر الفقيه وأعطاني رحمه الله
القلم واللوح وبدأ يدرسني
فعلمني الحروف في أول الأمر
وبعد مدة علمني الحساب
وكذا القرآن درسته جيدا
حتى بلغت قوله تعالى “ولا تجادلوا أهل الكتاب”
فغادرت الكتّاب واتجهت إلى الغناء
ومن أبرز المواضع التي يظهر فيها تأثر الشعر الأمازيغي بالقرآن الكريم مطالع القصائد التي تجد أغلبها تبدأ بشكر الله والثناء عليه وتوحيده والدعوة إلى التأمل في خلقه وتعظيم شأنه حتى أن مثل هذه المقدمات صارت من الطقوس الشعرية التي يهتم الشاعر بها أكثر من غيرها، لأنها تعلي شأنه وتضفي على قصيدته قيمة كبيرة.
وفي الأغلب لا يباشر الشاعر الأمازيغي النظم إلا بعد أن يستهل بالتوكل على الله والصلاة على رسوله عليه السلام مبتغيا من وراء ذلك أن يسهل له الله تعالى مهمته ويسدد رميه.
ويقول الدكتور عمر أمارير الباحث في الثقافة الأمازيغية في كتابه “الشعر الأمازيغي المنسوب إلى سيدي حمو الطالب” إن “أول ما يستفتح به الشعراء الأمازيغ ذكر الله وتمجيده، مما يؤكد أن الأمازيغي يعيش حياة المسلم صادق الإيمان اللاهج دوما بذكر اسم الله وفضائله والحرص على البدء به عند كل عمل.. وهكذا يرى البسملة مفتاحا يفتح للمستفتح به كل أبواب الخير، وحتى إذا كانت هناك عراقيل ومصاعب فإن ذكر اسم الله يذللها ويسهلها. (كتاب “الشعر الأمازيغي المنسوب إلى سيدي حمو الطالب”، ص 58، من منشورات كلية الآداب التابعة لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء).
وفي ما يلي نماذج من هذه المقدمات التي تعتبر خاصية مميزة من خصائص الشعر الأمازيغي، إذ يقول الشاعر الأمازيغي المعروف في منطقة سوس الرايس سعيد أشتوك (الرايس كلمة أمازيغية مشتقة من الكلمة العربية الرئيس وتعني رئيس الفرقة الموسيقية وتعني أيضا الشاعر المغني):
“بِسْمِ الله ءاتيسورا تومْليلينْ كانِينْ
لْفالْ سْ ءيرْزّْمْ يانْ ءاوالْ ءيحْ را ءادْ ساوْلْنْ
الشيخ سيدي حماد ءوموسى كا فْكْ نْزورْ دْ ءاوالْ
ءيفولْكينْ ءا ييلي حْ ءيمينْوْ ءاوْرْ ءيصاحْبْ العارْ
نْضالْبْ ءي رْبّي ءايّيسْ ءادْ ءورْ ءيضْرْ ءولا رْزاناحْ
ءيمّا اللّجامْ نْسالوياسْ ءوراتْنْ ءيتّامْزْ ءوفوسْ”
تعريب المعنى:
بسم الله مثل المفاتيح البيضاء
وهو فأل حسن نبدأ به الكلام
يا شيخي سيدي حماد أوموسى لم أزرك إلا
لأجل ألا يجري على لساني إلا الكلام الطيب
أسأل الله ألا يكبو جوادي أو ينكسر
أما لجامه فقد تركته يدي ولم أعد أمسكه.
ويقول الرايس سعيد أشتوك في موضع آخر:
“ءابسم الله وبالله نودْعَا لامْرْ
غْ ءوفوسْ نْ تْكْلْديتْ رْبّي والّيتّ ءيمْزَالالْنْ
ءيمْزالالْ تيفْيّي غْ ءيغْصّْ مْقّارْدْ ءولاَوْنْ
ءوراسْ ءيخْفي ءومْيا كولّو الدّونيتْ تْكا تينْسْ”
تعريب المعنى:
بسم الله وبالله أودعت أمري
بيد الملك ربي صاحب الشأن
من خلق العظام واللحم والقلوب
لا يخفى عليه شيء ويملك الدنيا كلها
وهذه مقدمات أخرى من قصائد للشاعر الأمازيغي المنحدر من نواحي مدينة خنيفرة بجبال الأطلس المتوسط (وسط المغرب) الشيخ (لقب يطلق على الشاعر عند أبناء هذه المنطقة) محمد الزهراوي:
“ءاديسْكْ رْزْمْغْ ءيمي ءاكّي زّورْخْ ءامُولانا
توكّينْشْ ءاربّي ءايْدْ راجاخْ تّوكّْلْخْ غيفونْ
تانّايْدْ ءايْنّا ءيلّْنْ جاجينْوْ ءامُولانا”
تعريب المعنى:
بك أبدأ وباسمك أفتح فمي يا مولانا
عطاءك أرجو يا ربي وعليك أتوكل
تعلم ما في قلبي وما أخفي يا مولانا.
ويقول أيضا في مقدمة قصيدة أخرى:
“ءاديسْكْ رْزْمْغْ ءيمي ءاكي زّورْخْ ءامولانا
تّرْخاشْ تاكسّا يا ربي كْ ءيفْرينْشْ غيفي
تّرْخاشْ فوكّوتي زْكْ لْعْذابْ ءارياخْ ءيوافا
ءاوا مْحو الدّنبينو قّْبْلْ ءاداغْ يامْزْ واشالْ
ءادي ءورْ ءيتّكّادْ ءاربّي كْ وينّا ءورْشْ ءيرينْ”
تعريب المعنى:
بك أفتح فمي وبك أبدأ يا مولانا
أسألك أن تحفظني وتبسط علي جناحك يا رب
أسألك أن تنجيني من العذاب وتقيني من النار
اغفر ذنوبي قبل أن يواريني التراب
رب لا تجعلني ممن لا يحبونك.
وفي مقدمة أخرى من إحدى قصائد الشاعر نفسه نجد معنى واضحا للآيات القرآنية التي تؤكد أن الله تعالى لا يحتاج أكثر من أمر “كن” لكي ينشئ الخلق، فيقول:
“ءاكّْ نْزّورْ ءامولانا كي لْخيرْ ءوراشْ ءيخْصّا
ءالْجيدْ نّا دْ ءيسْمْياكارْنْ لاوقّاتْ ءارْبّي
ياتْ لُوقْتْ داتّْ ءيتّكّا دْ ءانْزارْ ءيشاسْ ءاصْمّيضْ
ياتْ لُوقْتْ ديغْ ءيذْهْبْ ءوزالْ شوفْ الرّايْ نْ رْبّي
دا ءيحْكّْمْ سيدي رْبّي زْكْ الفْلْكْ نْسْ ءارْ ءيتّْنْباضْ
“كن فيكون” ءارْبّي دا تّْصْحونْتْ لومورْنّونْ”
تعريب المعنى:
أبدأ بك يا ربي وأسألك الخير العميم وأنت أهله
يا جواد، يا من فرقت بين الأوقات والفصول
فتارة يكون المطر والعواصف والبرد
وتارة يكون الصيف والحر.. سبحان الله
يحكم ربي في الفلك ويسير الكون
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وخلاصة القول إن الشعراء الأمازيغ في أغلبيتهم يصدرون عن ثقافة تعلي شأن القرآن والسنة، ويعتبرون أنفسهم ذوي رسالة تعليمية وتثقيفية وتوعوية للمجتمع، ولا يرون لقوافيهم قيمة إلا ببركة الدين والقرآن.
المصدر : الجزيرة