مقدمة
تقوم بين النقد والابداع علاقة توثر ينبغي تمتلها وتملكها في أفق تعقلها من قبل الفاعلين الرئيسيين في المعادلة الإبداعية: المبدع والناقد، علاقة تستحضر المسافة الفاصلة بين حرية الابداع من جهة، والضبط النقدي من جهة ثانية، وهي مسافة تتسع أو تضيق حسب الأجناس الفنية المختلفة من جهة، ووظيفتها الاجتماعية من جهة ثانية. فكلما كان الجنس الفني متعاليا وتجريديا ونخبويا، تقلصت وظيفته السوسيولوجية وتأثيره المباشر على الفعل والسلوك الاجتماعي العام، وبالتالي كلما اتسعت هوامش الحرية لديه، وهذا حال الفنون التشكيلية أو الشعر أو حتى السينما في شقها المستقل والبديل المتحرر من إكراهات الإنتاج العمومي. ولكن كلما كان الجنس الفني جماهيريا تقوت فيه الوظيفة الاجتماعية وتقلصت في المقابل مساحة الحرية الإبداعية، وهذا ما ينطبق على الدراما التلفزيونية بما هي فن جماهيري موسع.
وهكذا فعندما نتحدث عن الدراما التلفزيونية فإننا بالضرورة نضع جانبا تلك الطروحات الحساسة جدا تجاه النقد واعتبار المنتوج ابداعا فنيا صرفا يتعالى على النقد ويسبح في عوالم الحرية. فالدراما التلفزيونية ليست فنا خالصا أو فنا من أجل الفن، بل وسيلة من سائل التنشئة الاجتماعية ينبغي اخضاعها بالضرورة للنقد الفني والضبط الاجتماعي، علاوة على الرقابة المالية والمحاسباتية بما هي مقاولات لتنفيذ مشاريع عمومية، فاذا كانت مشاريع البنية التحتية من قناطر وطرق تستوجب المحاسبة فان مشاريع البنية الفوقية أولى بالضبط والمراقبة والتوجيه لأنها تستهدف بناء الانسان في كل أبعاده.
لكن ينبغي بنفس القدر أن نضع جانبا تلك الطروحات التسلطية المصادرة لكل حرية إبداعية ومحاكمة لنوايا وأفكار وضمائر الفنانين وتحويل الفن لتصريف أيديولوجيا من نوع معين بأشكال فجة وبعيدة عن الابداع.
ان نقد الدراما التلفزيونية يقع تحديدا عند هذه النقطة فكيف يستطيع أن يوفي بأغراضه؟ دون مصادرة حرية الابداع من جهة ودون التفريط في الوظائف الاجتماعية للدراما التلفزيونية بما هي فن جماهيري من جهة ثانية؟ أو بعبارة أخرى ما هي مشروعية النقد التلفزيوني وما هي حدوده؟
أولا: في ماهية الدراما التلفزيونية
ترجع أصل تسمية الدراما إلى اللغة اليونانية ، وتعني الفعل والحركة الذي يؤديه أشخاص في وضعيات تمثيل وإعادة انتاج لوضعية جديدة تحاكي وضعية أصلية ، مما يعني أنها فعل ثانوي رمزي يشاهد بصفته فعلا في حيز التمثيل من خلال المحاكاة ، وقد كان الفعل الدرامي في الأصل يستهدف الاحتفال بأعياد الآلهة ، حيث يلبسون جلودا ويضعون أقنعة للتمييز بين شخصهم الطبيعي وبين شخصيات وأدوار تمثيلية، بعد ذلك استقلت الدراما عن هذه الوظيفة الدينية فاكتسبت هوية فنية واضحة بداية في المسرح لدى اليونان، إلى أن طغت الدراما التلفزيونية الآن. وهكذا فمن حيث الماهية فالدراما تمثيل ومحاكاة وتقليد لوضعية ما مما يعني أننا في الدراما في مجال الخيال أو مجال اللعب أو اللاواقع وهو أمر يتواطأ عليه الجميع ويظهر هذا جليا في المسرح الذي لا أحد يعتقد بواقعية الاحداث فيه، لكن المميز في الدراما التلفزيونية هو ارتفاع منسوب التصديق لدى الجمهور بواقعية الاحداث الدرامية ، فالدراما التلفزيونية تمتلك قدرة كبيرة على الإيحاء بالواقعية وبالتالي بالقدرة على التأثير واحداث تغييرات كبيرة وسريعة في النسيج الاجتماعي والقيمي للجمهور المستهدف وهذه هي خصوصيتها ، ويكفي أن نقدم نماذج دالة على هذا الأمر
أولا: تصديق جمهور بلد بكامله، وهو بلد لا يُصنف عادة ضمن البلدان المتخلفة اقتصاديا أو غير العقلانية فكريا أو غيرها، بل على العكس من ذلك كله، وخلطه بين ممثل يلعب دور رئيس البلد في عمل درامي تلفزيوني وبين الرئيس الفعلي للبلد، يتعلق الأمر بالرئيس الأوكراني زيلينسسكي الذي تحول من ممثل في المسلسل التلفزيوني خادم الشعب الذي بث بين 2015 و2019، خلق نجاحا جماهيريا كبيرا حمله إلى منصب الرئاسة 2019 حائزا على المنصب بنسبة أكثر من 73 في المائة
ثانيا: قلب توجهات الرأي العام الوطني وخاصة الإسلامي والعربي من سياسة الحكام بتركيا لا لشيء الا لتسويق صورتها عبر الأعمال الدرامية، ويحظى الممثل نجاتي شاشماز الذي لعب دور مراد علمدار في مسلسل وادي الذئاب بسمعة أسطورية تجاوزت كل آفاق المعقول
ثالثا: استلهام الجماهير المغربية المستهلكة للدراما التركية حاليا والمكسيكية خلال التسعينات لقيم ومعايير جمال وأخلاق مستوردة، أصبحت تنافس القيم القومية فحدثت اختلالات قيمية وجمالية واضحة
ثانيا: في مشروعية نقد الدراما التلفزيونية
أكثر التعاريف اختصارا للنقد هو تلك العملية التي تقوم بها الذات تجاه الموضوع الخارجي عبر اصدار حكم عليه بالجودة أو الرداءة، أي كل عملية فاحصة للموضوع تدفع الذات إلى اتخاذ موقف معين، وتنقسم الأحكام التي تصدرها الذات على الموضوع إلى ثلاث أقسام:
الحكم المعرفي، حيث يتم التمييز بين الخطأ والصواب بناء على معايير معرفية وعلمية صارمة، وهذا هو مجال النقد المعرفي والعلمي. يتم فيها اصدار احكام علمية موضوعية تحقق الاجماع لدى المجتمع العلمي؛
الحكم الأخلاقي، يتم فيه التمييز بين الخير والشر بناء على معايير أخلاقية لجماعة بشرية معينة، وهنا يصبح الحكم مؤسسا على قواعد ومعايير سابقة تتمتع عموما بالقبول لدى المجتمعات التي تدين بنفس المعايير الأخلاقية، وتتراوح بين ما هو اجتماعي وكوني؛
الحكم الجمالي، يتم فيه التمييز بين الجميل والقبيح وهنا يطرح اشكال معايير الحكم الجمالي الذي لا نجد لها قاعدة موضوعية صارمة مما يجعل الحكم الجمالي يتسم بالذاتية، وهو الأمر الذي يبرر الالتجاء الى لجان تحكيم متعددة الأعضاء عند استصدار الحكم الجمالي، بينما يكفي لخبير واحد في المجال المعرفي أو المجال القيمي الأخلاقي اصدار الحكم،
للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يرجع إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط،
يتبين من هذه المسألة تميز النقد من حيث كونه إصدارا للحكم للجمالي بالتعدد والاختلاف، وهو أمر ذاتي، ينضاف اليه سببا عرضيا تجعل النقد يتميز بالاختلاف وهو اتصاله بموضوع الدراما التليفزيونية.
فقد أصبحت الدراما التلفزيونية إذن بهذه القدرة الرهيبة على التأثير، تنفلت شيئا فشيئا عن عقال الفن وتتجه إلى خارجه مما يستوجب بالضرورة تدخل النقد، ومن هنا يتسم نقد الدراما التلفزيونية بالحساسية، لأن من يتوجه بالنقد ليس بالضرورة النقاد باعتبارهم أهل اختصاص، بل يصبح الجميع ناقدا للدراما التلفزيونية بعدد المتلقين لهذه الدراما، لأن الأمر لم يعد صراع رؤى جمالية أو مجرد اختلاف الأذواق الذي يتم تدبيره بلا صخب على مستوى الشعر أو الفنون التشكيلية أو الرواية أو غيرها من الفنون ذات الطبيعة الإبداعية الخالصة، بل أصبح ساحة لصراع القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية أيضا. من هنا تأتي مشروعية النقد وتنوعه واختلاف منطلقاته وأهدافه، لكن ينبغي التمييز بين نقد ونقد
ثالثا: في حدود نقد الدراما التلفزيونية
ففي الوقت الذي نقر بمشروعية النقد الموجه للدراما التلفزيونية بحكم جماهيريتها وقدرتها على التأثير، وأن ما يحرك النقد في هذا السياق ليس بالضرورة جماليا وفنيا، ينبغي التمييز بين هذه النماذج النقدية، فالنقد الانطباعي للجمهور يختلف عن النقد السياسي للسياسيين أو جهات معينة في الدولة ، ويختلف عنهما النقد الدعوي الأيديولوجي سواء الهوياتي السلفي الديني أو القومي، أو الليبيرالي أو غيره، ولكن ما يهم أكثر هو النقد الفني الجمالي الضامن للحدود الدنيا من حرية الابداع الدرامي التليفزيوني والدفع به نحو التجويد والارتقاء وهذه هي الميزة الأساسية لهذا النقد ، النقد البناء المحتضن للأعمال الدرامية والدفاع عن فنيتها واستقلالها ، وهذا هو ما نقصده بالمواكبة النقدية باعتبارها مكملة للعمل الإبداعي ومدافعة عنه ليس فقط ضد الهفوات والهنات الإبداعية التي قد تعتريه، ولكن أيضا وأساسا الدفاع عنه ضد النقد الانطباعي الهدام ومحاولة تأثير الجماهير عليه، ليتحول من ابداع فني إلى مجرد وصفات لإرضاء أهواء الجماهير، خاصة في زمن الانفتاح الإعلامي وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي وبالتالي زمن سطوة العامة وتدخلها في توجيه اختيارات الفنان.
مثال النقد الهوياتي لمسلسل بابا علي، قضية الإعدام التي أرغمت فريق المسلسل على التراجع، ولكن سقط في مشكل أكبر
إن المواكبة النقدية التي ينبغي ترسيخها، وبالتالي التي ينبغي الانصات إليها من طرف مبدعي الدراما التلفزيونية هي تلك الصادرة من النقاد المتخصصين لأنها الضامنة لجودة الأعمال الفنية مستقبلا، والضامنة لاستقلاليتها وابداعيتها وحريتها، مع التفهم الكامل لردود الأفعال الانطباعية من الجهات الأخرى، وفهم خلفياتها دون الدخول معها في تجاذبات قد يؤدي إلى الاضرار بالأعمال الفنية وهويتها الإبداعية القائمة على الخيال أي بما دراما أو تمثيل قائم على محاكاة الواقع وليس الواقع نفسه، فلا يمكن إرضاء أهواء الجمهور الذي لا يتعامل مع المنتوج التلفزي بهذه الصفة/ كدراما بل كحقائق ، والحقائق بالنسبة للجمهور تتعدد حسب الأهواء وليست حقائق علمية . فمثلا عندما يتم انتاج عمل درامي يصور قاضيا مرتشيا تقوم هيئة القضاة، ونفس الشيء بالنسبة للأطباء أو غيره والنتيجة أنه يستحيل قيام أي عمل درامي.
المهمة الثانية التي ينبغي التصدي لها من أجل ترسيخ هذه المواكبة النقدية للأعمال الدرامية تقع على عاتق النقاد الذين ينبغي بدورهم تمثل دورهم النقدي باعتماره مواكبا للعملية الإبداعية وهذا أمر يقتضي التمتع بتكوين نظري متين يستمد منه أحكامه النقدية لتكون جديرة بالتصويب والتقويم والتعديل، إضافة طبعا إلى الجوانب الديونتولوجية أو أخلاقيات النقد، التي تفرض التعالي على المصلحة أو الأهواء.
*نص مداخلة الناقد السينمائي خلال المائدة المستديرة المخصصة للمواكبة النقدية للدراما التلفزية الأمازيغية الرمضانية في إطار فعاليات مهرجان تافسوت للسينما الأمازيغية المغاربية بتافراوت.