تئن منطقة تافراوت تحت وطأة قساوة الظروف الطبيعية و المعيشية ، إلا أن تموقعها في منطقة هامشية تتسم بوعورة مسالكها لم يمنعها في تعبيد الطريق لأبنائها نحو التأثير في صناع القرار ببلادنا و في أن تنجب أسماء لامعة كونت تشكيلة النخبة المغربية.
لذلك لا غرو في أن تنتج “تافراوت” للمغرب عشرات النخب في ميادين السياسة و الفن و الاقتصاد و الرياضة و الأدب.
في هذه الورقة ارتأت جريدة ” الجمهور” أن تحاول ملامسة بعض من إسهامات منطقة تافراوت في إغناء الروافد المشكلة للنخبة بالمغرب.
في البدء كانت الممانعة
لما شد المغفور له محمد الخامس الرحال إلى تافراوت و خصها بزيارة هامة، فلأنه يعرف جيدا كون هذه المنطقة منبع أفذاذ تضاهي صلابتهم الصخور الكرانيتية الناذرة التي يعبق بأريجها التاريخ الجيولوجي للمنطقة، و شموخا كشموخ تلك الجبال التي تفصل تافراوت عن المداشير و المدن المجاورة.
و هكذا حضي رجال و نساء المقاومة و جيش التحرير بتافراوت بزيارة تاريخية للسلطان محمد الخامس سنة 1959 ، عرفانا بأدوار المقاومة الباسلة في هذه القلعة العصية عن الإرتماء في أحضان الإستعمار ، و أبدت ممانعة قادها الحاج أحمد أوكدورت بحداقة و صنع بطولات بشجاعة ، هذا الأخير الذي يعتبر المؤسس لثقافة الممانعة بتافراوت و التي نهل منها الكثير من الأجيال اللاحقة إلى يومنا هذا.
و إذا كان الحاج أحمد حارب الاستعمار بشراسة ، فإن خريجي مدرسته في الممانعة ك ” سعيد بونعيـــلات ” و المانوزي و غيرهم من أبناء تافراوت حاربوا الاختلالات التي ظهرت في مغرب الاستقلال تجسيدا منهم لمبادئ و قيم نفس المدرسة.
هذه الاختلالات أعلن المواجهة معها الحاج احمد أخنوش إلى جانب الناجم اباعقيل و اخرون ممن أسسوا سنة 1974 “الحزب التقدمي الحر” الذي كان امتدادا للكلمة الممانعة للحاج احمد اكدورت ، و تصدوا لمحاولة هيمنة أقلية على الاقتصاد الوطني و على الإرث الكفاحي للمقاومة من طرف النخب الفاسية برعاية أطراف متنفدة داخل النظام السياسي .
و نجح “الحزب التقدمي الحر” في استقطاب عدد من النخب السوسية، مع العلم أن نصف أعضاء مكتبه السياسي يتحدر من منطقة تافراوت ، قبل أن يصطدموا جميعا بتوجه تقوده أم الوزارات حينئذ و يمنعون من المشاركة في الانتخابات بجرة تعليمات في مغرب يعيش غليانا غير مسبوق أصطلح عليه فيما بعد ” مغرب سنوات الرصاص”.
آليات إثباث الذات
أولا: المدخل الاقتصادي
لما تشكل لدى نخب تافراوت وعي جازم بإستحالة أن تضمن لنفسها موطأ قدم داخل الخريطة السياسية لمغرب ما بعد الاستقلال الا بتوفرها على قوة ضغط موازية، ولّت وَجْهَهَا صَوبَ القِطَاع الإقتِصَادي بإعِتباره المجال الأمثل الذي بوسعه أن يمدها بتلك الألية المنشودة من أجل إثبات الذات.
و في هذا الصدد لا يمكن الحديث عن نشأة الإقتصاد الوطني في مغرب الاستقلال دون الوقوف على أسماء تافراوتية ، ما تزال بصمتها بادية إلى الآن على مختلف القطاعات الإنتاجية و الخدماتية المشكلة لهذا الاقتصاد.
فهكذا انتقل أحمد أولحاج أخنوش من دوار “أكرد وضاض” إلى العاصمة الاقتصادية للمملكة، كتاجر بالتقسيط في محل صغير للمواد البترولية، و بحنكة نادرة استطاع تطوير خدماته ليوسع نشاطه في أرجاء المدينة ، و يتجه نحو إستثمار الأرباح المحققة في إقامة مصنع للرخام بأكادير.
إنشغاله بالجانب الاقتصادي لم يعفيه من الانخراط في معمعة الصراع من أجل الاستقلال ، و جلب له و لتجارته متاعب لا تحصى توجت بإعتقاله من طرف سلطات الحماية الفرنسية و مصادرة العديد من أملاكه ، غير أن العزيمة و الإصرار دفعت الحاج احمد لينهض من رماده كطائر الفنيق الأسطوري، و يؤسس شركة افريقيا الذائعة الصيت ، و التي كان لها الفضل في حل أزمة البترول بالمغرب منتصف سبعينات القرن الماضي، علاوة على الخدمات الجليلة الوطنية التي يقدمها بين الفينة و الأخرى ، كتزويد المتطوعين للمسيرة الخضراء بالمحروقات بدون مقابل…
ثانيا: المدخل الأدبي
إذا كان الحديث عن الاقتصاد المغربي لا يستقيم دون العروج على البصمة التي بصمه بها الفاعلون الاقتصاديون المتحدرون من تافراوت ، فإنه لا يمكن أيضا الحديث عن الإبداع الأدبي المغربي دون الحديث عن محمد خير الدين أو الطائر الأزرق الذي أبدع الكثير من الإنتاجات في مجالات متنوعة:الرواية، الشعر، الصحافة، التحليل، النقد التشكيلي …فكان بذلك الكاتب العبقري والنابغة.
يقول الباحث رشيد نجيب ، في لقاء مع جريدة الجمهور” إن أول ملاحظة يمكن تسجيلها حول خير الدين: كونه كاتبا عصاميا كون نفسه بنفسه بواسطة قراءاته وأسفاره وصداقاته لكبار المفكرين العالميين في مستوى الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر والكاتبة الثائرة سيمون دوبوفوار”.
ومن بين الحقائق التي نكتشفها لدى خير الدين ، أنه كان من الكتاب القلائل الذين استطاعوا تأسيس اتجاه خاص بهم في الأدب عامة وفي فن الرواية بصفة خاصة، فقد وصفت روايته الأولى “أكادير” الصادرة سنة 1967، بأنها رواية شعرية، وهو المصطلح غير المسبوق الذي اعتبر جديدا في معجم السرد الأدبي”.
الكاتب محمد خير الدين رأى النور سنة 1941 بمنطقة تافراوت و أفرد لمسقط رأسه حيزا مهما في روايته“أسطورة أكنشيش “، و عاش إرتباطا وجدانيا بقريته الصغيرة إلى أن رحل إلى دار البقاء سنة 1995 .
ثالثا: المدخل الإعلامي
لا يجادل أحدا في كون الإعلام –كما نظر لذلك عالم الاجتماع بيير بورديو – أداة أساسية للتأثير و صناعة الرأي العام ، و بالتالي إثباث الذات . حقيقة وعت بها إبنة مؤسس حاضرة تافراوت و ترسيخ ثقافة الممانعة في صفوف أبنائها.فكان أن اتخدت من صاحبة الجلالة واجهة نضالية من أجل تصريف مبادئ ترعرعت عليها في كنف والدها.
فبعد أن صقلت مدرجات كلية الحقوق و محاضرات القانون البعد الحقوقي في شخصيتها، انخرطت أمينة ابن الشيخ في الحراك الأمازيغي على واجهتين ، حيث شاركت رفقة نشطاء الحركة الامازيغية في الترافع الجمعوي من أجل المطالب الهوياتية و الثقافية الأمازيغية، لتؤسس بعد ذلك لتجربة إعلامية رائدة كان عنوانها مواصلة النضال من خلال بوابة الإعلام، حيث أصدرت جريدة “العالم الامازيغي”التي ساهمت من جهة في تشكيل و بلورة وعي عام لدى عموم المغاربة بعدالة مطالب الحركة الثقافية الامازيغية ، و من جهة ثانية استطاعت التأثير في صانع القرار الرسمي الذي بدأ يراجع سياساته حيال المكون الأمازيغي للهوية المغربية.
زمن الإعتراف
بعد هذا الصراع الذي اتخد أشكالا سياسية و اقتصادية و إعلامية …تمكنت النخب التفراوتية من إنتزاع إعتراف رسمي من الدولة بكونها رقما صعبا في أية معادلة.
و تجلى هذا الاعتراف في مبادرات رسمية كان أبرزها إستوزار عدد من الشخصيات التي تتحدر من تفراوت والتي تقلدت مناصب وزارية ، حيث تولى العلامة المختار السوسي منصب وزير الأحباس في أول حكومة مغربية ثم منصب وزير التاج. كما شغل صالح المزيلي وزيرا للأشغال العمومية والمواصلات في حكومة 1972، ثم وزيرا للفلاحة والإصلاح الزراعي في حكومة 1974، وشغل أحمد رمزي منصب وزير الصحة العمومية في حكومة 1972، ثم منصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في حكومتي 1977 و 1979، وعمل عبد الرحمن بوفتاس في منصب وزير السكنى في حكومتي 1985 و 1992، وشغل عبد الله أزماني منصب وزير التجارة والصناعة في حكومة 1985، ثم أصبح وزيرا للثقافة في حكومة 1995، أما حسن أبو أيوب فعمل وزيرا للتجارة الخارجية في حكومتي 1990و 1992، ثم وزيرا للفلاحة والاستثمار الفلاحي في حكومتي 1995 و1997. ويعمل اليوم كدبلوماسي رفيع المستوى. وتولى محمد حصاد منصب وزير الأشغال العمومية والتكوين المهني وتكوين الأطر في حكومتي 1993 و 1994 كما يشغل حاليا وزير الداخلية في حكومة عبد الإلاه بنكيران، وشغل أحمد سكو منصب وزير المالية في حكومة 1993، وتولى محمد بيجعاض منصب كاتب الدولة المكلف بالإسكان في حكومة 1997، وشغل العربي عجول منصب كاتب الدولة المكلف بالبريد والتقنيات الإعلامية في حكومة 1998، وشغل عزيز أخنوش منصب وزير الفلاحة والصيد البحري في حكومتي 2007 و 2011 ” بحسب دراسة أحمد الخنبوبي.
و لم يكن الإستوزار وحده محكا لمدى إنتزاع الإعتراف المنشود، بل أن خطاب أجدير الذي تم بموجبه إحداث المعهد الملكي للثقافة الامازيغية كان ثمرة نضالات الحركة الثقافية الامازيغية التي عرفت ميلادها على يد أبناء من تافراوت.
و هكذا تحملت أمينة بن الشيخ مسؤولية تدبير الشأن الثقافي الأمازيغي ببلادنا ، من خلال عضويتها في المجلس الإداري لأول نسخة للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
و يعتبر عزيز أخنوش الشخصية التي رسمت لنفسها ، في الوقت الراهن ، مكانة متميزة ضمن النخب المغربية الأكثر تأثيرا، فعلاوة على كونه رقما إقتصاديا بفضل إستمراره على النهج الذي رسمه والده، مع إغناء هذا التراكم بايلاء أهمية كبرى للتحديث و العصرنة ، في التسيير و الإنتاج ، و صنفته قائمة فوربس لسنة 2014 أخيرا ضمن قائمة العشرين من أثرياء افريقيا والصف الثالث كأغنى أغنياء المغرب بثروة بلغت 1.4 مليار دولار. استطاع الوصول إلى رئاسة جهة سوس ماسة درعة، و تعيينه وزيرا للفلاحة والصيد البحري لولايتين متتاليتين، بل أكثر من ذلك كان و ما يزال مرشحا بقوة لتولي منصب رئيس الحكومة.
نقلا عن الجمهور/تيزنيت 37