بمناسبة نجاح فريق دولي من الباحثين في فك شفرة أقدم جينوم كامل لإنسان من مصر القديمة، يعود إلى رجل عاش بين عامي 2855 و2570 قبل الميلاد، خلال الفترة المبكرة من عصر الدولة القديمة، وهي الحقبة التي شهدت بدايات تشييد الأهرامات وازدهار الفنون والعلوم.
وتمكن العلماء، بقيادة الباحثة أديلين موريز جاكوبس، وفق “لايف ساينس” من استخلاص الحمض النووي من جذور أسنان الرفات البشرية التي عُثر عليها سنة 1902 في مقبرة صخرية بمنطقة النويرات في صعيد مصر، حيث دُفن الرجل داخل إناء فخاري، وهي ممارسة جنائزية تشير إلى مكانة اجتماعية مميزة. وأظهرت النتائج، التي نُشرت في مجلة Nature العلمية يوم 2 يوليوز، أن نحو 80% من الحمض النووي للرجل المصري تعود أصوله إلى سكان شمال إفريقيا في العصر النيوليتي، وبالضبط إلى العصر الحجري الحديث في المغرب”.
أعيد نشر هذا المقال مترجمًا إلى اللغة العربية، تحت عنوان: هل الحضارة الفرعونية ذات أصل أمازيغي؟، وهو المقال الذي نُشر بالفرنسية في العدد 252 (يناير 2022) من جريدة العالم الأمازيغي.”
هل الحضارة الفرعونية ذات أصل أمازيغي؟
في تصريح مثير للجدل، قال عالم الآثار المصري الكبير زاهي حواس إن المصريين “ليسوا عرباً ولا أفارقة”. ويمكننا أن نتفق معه جزئياً في رأيه الشخصي بأن المصريين ليسوا عرباً، ولكن لا يمكننا إنكار أنهم أفارقة بالفعل. وانطلاقاً من هذا الأساس، يمكننا حتى أن نغامر بالقول إنهم أمازيغيون في الأصل. لكن كيف ذلك؟
أحد أول الأسباب التي دفعتني للتفكير في هذا الأمر هو سؤال قديم طرحته على نفسي في ثمانينيات القرن الماضي، حين كنت طالباً في جامعة بوردو 2 بفرنسا، واطلعت حينها على دراسات الأنثروبولوجي الشهير غابرييل كامبس، وتحديداً كتابه “في أصول البربرية: المعالم والطقوس الجنائزية ما قبل التاريخ”. وأكثر ما أثار دهشتي حينها هو اكتشافي لوجود أهرامات صغيرة في الجزائر… فسألت نفسي: هل يمكن أن تكون الأهرامات العظيمة في مصر، مثل أهرامات الجيزة، من بناء صناع من الشعب الأمازيغي؟ الذين بنوها في شمال إفريقيا، ثم، نتيجة التصحر الكبير للصحراء الكبرى، انتقلوا من الغرب إلى الشرق، وطوروا أساليبهم المعمارية بدءاً من التومولوس (المعالم الجنائزية الحجرية)، المنتشرة بكثرة في الصحراء المغربية والجنوب الشرقي، إلى أشكال أكثر تطوراً مثل أهرامات توسنينة الثلاثة عشر في ولاية تيارت الجزائرية، أو الأهرامات المغربية في غريس قرب ڭلميمة… إلى أن وصل الأمازيغ إلى بناء الحضارة الفرعونية وتشييد المعالم الجنائزية الضخمة!
لكن الأدلة الأكثر إقناعاً جاءت لاحقاً من خلال قراءتي لثلاثة مؤلفات تؤكد، ليس فقط احتمال الأصل الأمازيغي للفراعنة، بل تقطع باليقين بأن المصريين أقرباء للأمازيغ.
الدليل الأول هو ما نشرته جامعة كومبلوتنسي في مدريد عام 2000، وهو عمل صديقي الدكتور أنطونيو أرنايث بيّينا، بمعية زميله خورخي ألونسو غارسيا، بعنوان: “المصريون، البربر، الغوانش، والباسك”. ويؤكد هذان الباحثان، انطلاقاً من علم الوراثة الأنثروبولوجي، أن الدراسة الجينية للمصريين (اعتماداً على جينات HLA) ومقارنتها بشعوب البحر الأبيض المتوسط، تضعهم ضمن مجموعة سلالية قديمة تشمل المصريين، اليهود، الكريتيين، المغاربة، الجزائريين، الإيطاليين، الإسبان، والباسك، وهي شعوب عرفت تداخلاً جينياً وتفاعلاً ثقافياً على مدى فترات طويلة جداً.
الدليل الثاني هو كتاب صديقتي الأمريكية هيلين إي. هاغان بعنوان: “المتألقون: دراسة إيتيمولوجية حول الجذور الأمازيغية للحضارة المصرية”، نُشر عام 2000 في الولايات المتحدة، وأرسلته إليّ مشكورة. في هذا العمل، تقول:
“شهد القرن العشرون اكتشافات تدريجية لمعلومات تدفع بتاريخ الحضارة المصرية بعيداً في الزمن. فالسكان الأوائل لوادي النيل أصبحوا أكثر توثيقاً اليوم مما كانوا عليه قبل عقود. وقد توفرت أيضاً معلومات جديدة حول تجمعات الواحات في الصحراء الغربية. كان يُعتقد سابقاً أن سلاسل الفراعنة التي حكمت لمئات السنين تشكل بداية ونهاية الحضارة المصرية، لكن التقديرات الحديثة تعترف بأن عصر الدولة الفرعونية كان متجذراً في ثقافة أقدم تُعرف بالحقبة العتيقة (ما بين 5000 و3000 سنة قبل الميلاد). هذه المرحلة، رغم كل ما كُشف عنها، ما زالت تحتفظ بكثير من الأسرار. وهدفي من هذا البحث هو توجيه أنظار الباحثين إلى اتجاهات جديدة في ضوء المعطيات الثقافية واللغوية الأمازيغية، التي لطالما تم تهميشها من قِبل الباحثين التقليديين المنغلقين على الفرضية اليونانية الأصل للحضارة”.
وتضيف:
“كنت أعلم بوجه عام أن ليبيا القديمة كانت تمتد حتى نهر النيل في فترات ما، وأن اللغة الأمازيغية واللغة المصرية تتقاسمان بعض التشابهات، وتنتميان إلى ما يسميه اللغويون بـاللغات الحامية. لكنني لم أكن أتصور أنني سأصادف هذا الكم من التقاطعات والمفردات المشتركة، بل وثروة من الجذور الإيتيمولوجية التي لم أستنفدها بعد”.
الدليل الثالث جاء من الباحثة الجزائرية تاكليت مبارك-سلاوتي التي نشرت عملاً رائعاً بعنوان: “الأمازيغ في مصر، من أقدم العصور إلى الأسر الأمازيغية”. وقد توصلت به من طرف المفوضية السامية للأمازيغية في الجزائر. في هذا الكتاب، تلقي الكاتبة الضوء على تاريخ طويل من العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية والتجارية بين الشعوب الأمازيغية القديمة في ليبيا والصحراء وشمال إفريقيا، مع مصر الفرعونية.
وبالاستناد إلى المعطيات الأثرية الصحراوية، تؤكد الباحثة وجود اتصال وثيق وتأثير ثقافي عميق بين الحضارتين المصرية والأمازيغية القديمة، ويتجلى ذلك في الرسومات الصخرية في طاسيلي ناجر، التي تُظهر عربات حربية تجرها الخيول، وهي مماثلة لتلك التي استخدمها المصريون. وتخلص الكاتبة إلى أن العربة الحربية الفرعونية أصلها صحراوي-أمازيغي، وأن عمق العلاقات السياسية والاجتماعية بين الطرفين بلغ حد تأسيس قبائل أمازيغية لسلالات فرعونية كاملة حكمت مصر لعدة قرون، من أبرزها أسرة شيشونق الأول.
وفي هذا الإطار، سبق لي في دراستي حول المرأة الأمازيغية عبر التاريخ أن طرحت سؤالاً جوهرياً: هل هناك علاقة بين الملكات المصريات مثل نفرتيتي وكليوباترا، ونساء أمازيغيات قديمات، خصوصاً في ما يتعلق بالنظام المترياركي (الأمومي)؟ وقد أجبت بالإيجاب، لأن عدداً متزايداً من الباحثين باتوا يقتنعون بأن الحضارة الفرعونية العظيمة ذات أصل أمازيغي.
فالنساء المصريات القديمات، الجميلات الموقّرات، كنّ في نظر اليونانيين والرومان في موضع دهشة واحترام لدورهن وسلطتهن. كنّ يحكمن ويتخذن القرار ويُدِرن شؤون الدولة على قدم المساواة مع الرجال، في زمن كانت فيه الحضارات الإغريقية والرومانية والديانات الإبراهيمية الثلاث تهمّش المرأة. الملكات مثل مرنيت، نفرسوبك، حتشبسوت، تاوسرت، تيي، نفرتيتي وكليوباترا، سواء كنّ أمهات الفراعنة أو زوجاتهم أو أخواتهم، فقد اضطلعن بدور سياسي محوري في إدارة الدولة خلال حياة الفراعنة أو بعد وفاتهم.
رابط العدد 252 من جريدة العالم الأمازيغي:
https://www.amadalamazigh.press.ma/archivesPDF/252.pdf
رابط المقال بالفرنسية:
La civilisation pharaonique serait-elle d’origine amazighe ?
رابط الإكتشاف الأخير: