هل تحل الجزائر محل فرنسا في مالي؟

د. محمد اشتاتو
أستاذ جامعي ومحلل سياسي دولي

الجزائر: تقليد عدم التدخل العسكري

منذ ظهور حركة احتجاجية على مستوى البلاد في فبراير 2019، هيمنت على السياسة الجزائرية أسئلة التغيير والإصلاح. لقد ضل؛ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في السلطة لفترة زمنية طويلة، وتحت ضغط الحراك الشعبي ترك سدة الحكم مرغما، ونتيجة ذلك أدين العديد من المقربين منه بالفساد أو “التآمر على سلطة الدولة“. وفي محاولة للرد على الإحباطات الشعبية، نظم الرئيس الجديد عبد المجيد تبون استفتاءً دستوريًا، تم إجراؤه في 1 نوفمبر 2020. وعلى الرغم من اعتباره “خطوة حاسمة” نحو الإصلاح الهيكلي من قبل البعض، إلا أن العديد من الجزائريين رأوا فيه واجهة تم إنشاؤها من قبل من هم في السلطة للإبقاء على العسكر في الحكم ونتيجة ذلك قاطعوا الاستفتاء. وعلى الرغم من أن الإقبال كان منخفضًا الى أقصى درجة (23.8٪)، فقد تمت الموافقة على الاستفتاء بنسبة 66.8٪.

بشكل ملموس، شمل الاستفتاء إصلاحات مثل:

 1. زيادة الرقابة البرلمانية؛

2. إصلاح النظام القضائي؛

3. تحديد المدة الرئاسية..

وفي النقاشات حول محتوى الاستفتاء، تم إيلاء اهتمام أقل للبند الذي من شأنه رفع الحظر المفروض على نشر القوات المسلحة في الخارج، وبالتالي السماح لها بالمشاركة في عمليات حفظ السلام، والتي يمكن أن تنهي – أو على الأقل تقلص – تقليدا طويلا من عدم التدخل.  إذن هل يمكن أن تكون هذه هي الخطوة الأولى نحو سياسة أمنية إقليمية جديدة للجزائر، الدولة التي تمتلك ثاني أكبر جيش في القارة الأفريقية؟

لقد تم بالفعل ربط الاستفتاء بإمكانية توفير دور أكبر للجزائر في حل الصراع في ليبيا المجاورة. ولكن ما هي التداعيات المنتظرة من هذا الأمر على جارتها الأخرى مالي التي تعيش أزمة أمنية عارمة؟ يفحص هذا التحليل التقليد الجزائري في عدم التدخل ويفحص إمكانية التغيير في السياسة الأمنية للبلاد في مالي، وعلى نطاق أوسع في منطقة الساحل الافريقي، وهي منطقة متأثرة بشدة بالتطرف الديني العنيف.

الساحل الافريقي: قنبلة موقوتة

أصبحت منطقة الساحل في إفريقيا واحدة من أكثر المناطق الأمنية أهمية وتعقيدًا في العالم، نظرًا لحجم التهديدات العابرة للحدود مثل الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة، وقد اعتبرت الدول المجاورة هذه المنطقة مصدرًا للتهديدات الأمنية الخطرة. من بين الأسباب الأخرى للأهمية الاستراتيجية لمنطقة الساحل هي توفرها على موارد الطاقة التي تم اكتشافها مؤخرًا في المنطقة وزيادة التنافس بين القوى العالمية العظمى (الولايات المتحدة وفرنسا والصين وروسيا) على ثرواتها الطبيعية، ويمكن القول إن كل هذه الأسباب جعلت منطقة الساحل الافريقي في مركز الاهتمام الدولي.

ومع ذلك، لا يزال الوضع الأمني ​​في هذه المنطقة غير مستقر، وتدهور الوضع في ليبيا بعد انهيار النظام القديم، والمعضلة السياسية والتحديات الأمنية المستمرة في الجزء الشمالي من مالي، والعدد المتزايد من الأنشطة الإرهابية عبر المنطقة، لا سيما تلك التي تقوم بها الجماعات المسلحة المتطرفة بما في ذلك عمليات الخطف من أجل الحصول على فدية، لا تزال لها آثار سلبية على السكان المحليين. إن كل هذه المشاكل – وبالخصوص حالة مالي – تمثل تحديات أمنية كبيرة.

لقد جعل الوضع الحالي بلدان المنطقة عرضة بشكل متزايد لانعدام الأمن الناجم عن الصراعات العرقية العنيفة وأنشطة الجماعات المتطرفة وما يتصل بذلك من الجريمة المنظمة. وفي الواقع، تشعر جميع دول الساحل الافريقي بالقلق إزاء الصلات الظاهرة بين الجماعات الإرهابية النشطة في المنطقة وكذلك المنظمات الإجرامية المتورطة في الاتجار بالبشر والمخدرات. وتتعرض جميع بلدان المنطقة للتهديد من أنشطة الجماعات الإرهابية، مثل: حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وبوكو حرام، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فضلاً عن غيرها من المنظمات العابرة للحدود الوطنية التي ارتكبت أعمالًا إرهابية وهددت الأمن الإقليمي، كما أنها زادت من انتشار الأسلحة في منطقة الساحل الافريقي وانخرطت في تجارة المخدرات والبشر وغيرها من الأنشطة غير القانونية، مقوضه بذلك سلطة البلاد في العديد من القطاعات المهمة للدولة في بلدان المنطقة ومهددة كذلك إمكانيات التنمية المحلية (مجلس الأمن ، الأمم المتحدة، 2013: 3).

الجزائر في معادلة الساحل الافريقي

على مدى العقود الماضية، ركزت الجزائر بشكل متزايد على التحديات الأمنية لمنطقة الساحل الأفريقي، خوفًا من أن تصبح هذ ه المنطقة مكانًا آمنًا للجماعات الإرهابية المسلحة. وقد شهدت دول الساحل الافريقي – التي تشترك في حدود طويلة مع الجزائر – حالة من انعدام الأمن بسبب عدم استقرار أنظمتها السياسية، والوضع الحالي في منطقة الساحل الافريقي هو نتيجة عدم الاستقرار السياسي المتأثر بشكل رئيسي بالأزمات المختلفة التي تعيشها العديد من دول المنطقة. وعادة ما تظهر نظرية الدومينو بوضوح في مثل هذا الوضع السياسي الهش: بحيث يمكن أن يؤدي انهيار دولة معينة في المنطقة إلى تأثير الدومينو الذي قد يزعزع استقرار الساحل الافريقي بأكمله.

منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، تواجه الجزائر تغيرات جديدة في منطقة الساحل الافريقي، لا سيما مع تهديدات الحركات المتمردة في شمال مالي والنيجر، وهي الأسباب التي دفعت الحكومة الجزائرية إلى استخدام كل سلطاتها وكل الوسائل الدبلوماسية المتاحة لإيجاد حل لهذه المشاكل وتجنب أي نوع من التدخل في حدودها الجنوبية. ولكن على مدى العقود الماضية، ظهرت سلسلة من المشاكل الأمنية الجديدة في الفناء الخلفي للجزائر مثل الإرهاب وتهريب المخدرات والجريمة المنظمة بالإضافة الى الاتجار بالبشر. كل هذه المشاكل جعلت منطقة الساحل في مركز اهتمامات السياسة الخارجية الجزائرية، لذلك تركزت مقاربتها الأمنية على التهديدات الناشئة من دول منطقة الساحل الافريقي، والتي تعتبر دولا مهددة للسلم الإقليمي لا محالة ومصدرة للإرهاب في نفس الوقت.

منطقة الساحل الافريقي مصدر تهديدات أمنية للجزائر

تشترك الجزائر مع دول الساحل في حدود طولها 6280 كلم تقريبا. تمثل هذه المنطقة الصحراوية الكبيرة التي كانت منطقة عبور بين شمال وجنوب إفريقيا لسنوات، تحديًا كبيرًا للسيطرة عليها. وفي العقود الأخيرة، أصبحت منطقة الساحل الافريقي مصدرًا للتهديدات الأمنية للجزائر، ويدرك القادة الجزائريون أن بلادهم تقع في الواقع في منطقة تشهد العديد من البلدان فيها أزمات داخلية عميقة مثل الصراعات العرقية المتزايدة ومشكل الاقتصادات الضعيفة والحكم الهش، مما يؤثر سلبا على الوضع الأمني ​​في المنطقة.

وبالإضافة إلى ذلك، أصبحت منطقة الساحل الافريقي جنة للإرهابيين والجماعات الإجرامية المنظمة كما ورد في تقارير الأمم المتحدة، حيث تمررما بين 30 إلى 40٪ من المخدرات المهربة في العالم عبر هذه المنطقة. كما تعد منطقة الساحل الافريقي اليوم ثاني سوق سوداء لتجارة الأسلحة في العالم. علاوة على ذلك، فهي تعتبر مرتعا مفضلا للجماعات الإرهابية مثل القاعدة وبوكو حرام، الخ. وهكذا، دفع هذا الوضع الأمني ​​الهش الحكومة الجزائرية إلى بناء نهج أمني عام تجاه هذه المنطقة لمواجهة جميع أنواع التهديدات الأمنية التي يمكن أن تقوض أمنها القومي. وحسب تصور القادة الجزائريين، هناك خمسة تهديدات أمنية رئيسية للأمن الوطني الجزائري:

1- تحدي قضية الطوارق، الجزائر قلقة من صعود بعض الجماعات الأمازيغية من عرقية الطوارق الذين قد يطالبون بالانفصال في مالي والنيجر وبالتالي في الجزائر نفسها؛

2- تصاعد الجريمة المنظمة مثل تهريب المخدرات والأسلحة والهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر؛

3- التدخل الأجنبي لأسباب إنسانية؛

4- التنافس بين القوى العظمى على الثروات الطبيعية لمنطقة الساحل كالنفط والغاز واليورانيوم؛ و

5- المشاريع العسكرية المقترحة في القارة الأفريقية لبناء قواعد عسكرية لأفريكوم (قيادة الولايات المتحدة في أفريقيا) الفكرة التي رفضتها العديد من دول الساحل.

الجيش الجزائري

كل هذه المشاكل المذكورة أعلاه تمثل تهديدات ناعمة وصعبة لأمن الجزائر، لذا فإن النهج الأمني ​​الجزائري يحاول الجمع بين الحل الأمني ​​والسياسي لمواجهة هذه المشاكل.  أي بمعنى آخر، لا يركز هذا النهج على الخيارات العسكرية لمواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة فحسب، بل يأخذ أيضًا في الاعتبار الوسائل الدبلوماسية والسلمية الأخرى مثل: تعزيز الحوار والمفاوضات وحل النزاعات وعملية بناء الدولة.

العملية العسكرية الفرنسية في مالي

في مطلع عام 2013، شنت باريس تدخلاً مسلحاً في مالي شمل غارات جوية وعمليات برية ضد حركة التمرد في الشمال بعد أن تحرك مقاتلون من الجماعات المسلحة المتطرفة فجأة إلى جنوب البلاد وهزموا قوات الجيش المالي في بلدة كونا. ووفقًا لبعض التقارير، قدمت المملكة المتحدة ودول أوروبية بالإضافة الى أمريكا دعمًا لوجستيًا واستخباراتيا لباريس في عملياتها القتالية. وأكدت فرنسا أن عمليتها العسكرية سرفال، الناتجة عن طلب المساعدة من الدولة المالية، كانت خطوة أساسية لمنع العاصمة من الوقوع في أيدي الجماعات المسلحة، وكان الانتشار الإضافي للجيش الفرنسي في مالي ضروريًا للعمل على حماية وتأمين ما يقرب من ستة آلاف مواطن فرنسي يعيشون هناك. كما كانت عمليات الانتشار الفرنسية في مالي تهدف أيضًا إلى ردع الجهات الفاعلة التي قد تحاول مهاجمة أو زيادة زعزعة استقرار الحكومة المؤقتة في باماكو.

وقالت الحكومة الفرنسية في يناير 2013 إن فترة العمليات العسكرية للجيش ستكون بضعة أسابيع. ومع ذلك، أكد بعض الخبراء إن الجماعات المتمردة كانت أفضل تجهيزًا وتدريبًا مما توقعته قوات الجيش الفرنسي، وهو الأمر الذي عقد المهمة الفرنسية. وبسبب انقسامات الجيش المالي، لم تكن لدى هذا الأخير القدرة على إبراز قوته بشكل فعال، دون أن ننسى، مع ذلك، أنه كان أيضًا متورطًا في انتهاكات حقوق الإنسان، وكان ضعيفًا للغاية وغير قادر على متابعة الضربات العسكرية الفرنسية بشكل فعال من خلال السيطرة على المنطقة المحررة وتأمين الأمن لساكنتها.

قبل التدخل العسكري الفرنسي، حذر قادة دول المنطقة وكذلك المجتمع الدولي من تهديد متزايد للأمن الدولي بسبب النفوذ الواسع للجماعات المتطرفة في الساحل الافريقي والتوسع المحتمل لأيديولوجيتها المتطرفة العنيفة بين السكان. وقد نسق المقاتلون المسلحون للجماعات في شمال مالي هجماتهم بعناية عسكرية فائقة.

وفي الواقع، كانت هناك أيضًا العديد من المبررات الأخرى وراء التدخل العسكري الفرنسي بعيدًا عن تلك التي قدمتها باريس رسميا:

أولاً، فرنسا حاضرة كعنصر فاعل رئيسي في المنطقة منذ عقود، ومن المعروف أن إفريقيا كانت منطقة نفوذ فرنسي لسنوات عديدة. وتتمتع باريس بعلاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية قوية، من أي وقت مضى، مع أنظمة مستعمراتها السابقة في إطارما Françafrique يسمى:

بالإضافة إلى ذلك، كانت العملية الفرنسية في مالي عام 2013 واحدة من العديد من الإجراءات التي نفذتها باريس في إفريقيا من أجل حماية مصالحها الوطنية في القارة على مدى العقود الماضية.

نجح التدخل المسلح في مالي الذي أطلقته باريس في كانون الثاني / يناير 2013 بالفعل في تشتيت وإضعاف حركات التمرد التي سيطرت على الشمال لبضعة أشهر. ثم ساعد التدخل الفرنسي في إعادة معظم المناطق المحررة إلى سيطرة الحكومة المركزية، اسمياً على الأقل. انتهت عملية سرفال رسميًا في 15 يوليو 2014، واستبدلت بعملية برخان، التي أطلقتها باريس مرة أخرى في 1 أغسطس 2014 لمحاربة الجماعات المتطرفة في المنطقة.

الجزائر ستحل محل فرنسا في مالي

أفاد منشور لمركز الأبحاث البريطاني المرموق ميناس أسوشيتس، الصادر في 11 مايو2021في موضوع سياسة الجزائر والأمن، أن خطط نشر القوات الجزائرية في مالي تسير على الطريق الصحيح. وتقول ميناس أسوشيتس إنها تلقت أدلة فوتوغرافية وتأكيدًا من مصدر موثوق بأن فرنسا تعد قاعدة عسكرية في هومبوري في مالي -الواقعة 247 كيلومترًا جنوب غرب جاو– للقوات المسلحة الجزائرية. وتقع القاعدة، بشكل أو بآخر، على الخط الأمامي للحدود الثلاثة لمنطقة الساحل الافريقي، حيث يسيطر المتطرفون الإسلاميون على الوضع العسكري ويواجهون القوات الفرنسية والقوات المتحالفة.

وبحسب ميناس أسوشيتس، ضغطت فرنسا على الجزائر لتعديل الدستور في نوفمبر 2020 للسماح للقوات الجزائرية بالانتشار في الخارج لأول مرة لان باريس تريد تقليص قواتها العسكرية في منطقة الساحل الافريقي، خاصة قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل 2022 ومع عدم موثوقية القوات المالية والنيجيرية والبوركينية المحلية، فإنها تبحث بشدة عن قوى بديلة. لا يمكن لفرنسا البتة الاعتماد على الكتيبة التشادية المنتشرة في منطقة الحدود الثلاثة بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي في أبريل 2021 والانقلاب العسكري الذي أعقب ذلك، لذلك أصبح الجيش الجزائري بديل الملاذ الأخير. وهذا يفسر الضغط الذي مورس على المؤسسة الجزائرية لتعديل الدستور وتنظيم انتخابات مبكرة من أجل تشكيل برلمان جديد مطيع يوافق على التشريع المطلوب.

ووفقًا لميناس أسوشيتس، لا القيادة العليا للجيش الجزائري ولا أجهزة المخابرات راضية عن هذه الخطة المقترحة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها لن تحظى بشعبية كبيرة. ومع ذلك، فإن الجزائر حاليًا ضعيفة سياسيًا واقتصاديًا لدرجة أنها لا تستطيع تحمل مثل هذا الضغط السياسي من قبل فرنسا والولايات المتحدة في آن واحد.

وهكذا سيواجه المتطرفون المسلحون من مالي والساحل الافريقي، لا شك، صعوبة كبيرة في مواجهة القوات الجزائرية عند وصولها إلى هومبوري. والمعروف ان المخابرات الجزائرية هي التي كانت أصلا وراء احداث معظم الحركات الجهادية الرئيسية في منطقة الساحل وتحافظ على علاقات وثيقة مع إياد أغ غالي، القائد العام للجماعة الجهادية المهيمنة “جماعة نصر الإسلام والمسلمين”، وهو عميل قديم لدائرة الاستعلام والأمن. ويكاد يكون من الحتمي أن تجد القوات المسلحة الجزائرية الموجودة في المنطقة نفسها متورطة في صراعات مصالح صعبة وخطيرة، وإن كان ذلك بمبادرة منها. وبالتالي، فليس من المستغرب أن تكون السرية المطلقة تحيط بهذه المشاريع في الجزائر وخارج الجزائر.

مخاطر التدخل المحتمل

إن مثل هذا الانخراط في الجبهة العسكرية في الساحل الافريقي يمكن، مع ذلك، أن يضر بمصداقية الجزائر كوسيط رئيسي في عمليات حل السلام باعتبار أن الجزائر قد اعتمدت تاريخياً على مقولة استقرار المنطقة لتقوية نفوذها في جوارها الجنوبي. وجدير بالذكر انه بالإضافة إلى التداعيات المحتملة على موقعها الاستراتيجي على الساحة الإقليمية، يمكن أن يكون للتدخل العسكري أيضًا تداعيات على أمن الجزائر. بصرف النظر عن الخطر على القوات المنتشرة، فإن الوجود الجزائري على الأراضي المالية يمكن أن يؤدي إلى موجة جديدة من الهجمات الإرهابية على أراضيها، علما انه فيما يتعلق بالإرهاب الداخلي، يشير تقرير وزارة الدفاع لعام 201 إلى مقتل خمسة عشر إرهابياً (مشتبهاً بهم) في عام 2018 واعتقال 25.

بالإضافة إلى ذلك، تلعب العوامل السياسية الداخلية دورًا أساسيا لا محالة. وتشير نسبة المشاركة المتدنية في الاستفتاء إلى أن الرئيس تبون لا يزال يتمتع بتأييد شعبي جد ضعيف، وبإرسال وحدة كبيرة من القوات في مثل هذه الأزمة المعقدة والمستعصية فان وضعه سيصبح أسوأ. علاوة على ذلك، فإن إزالة الحظر القانوني لا يرقى إلى تغيير القاعدة: فربما تظل السيادة، سواء بحد ذاتها أو بالنسبة للآخرين، هي المهيمنة في الفكر الجزائري عموما. ومن الأمثلة الواضحة (على ما يبدو) على ذلك أن عدة مصادر تدعي أن رئيس أركان القوات المسلحة شنقريحة لا يوافق بتاتا على تغيير القانون العسكري المتعلق بإرسال تجريدات عسكرية خارج الوطن خوفًا من أن مشاركة الجزائر في عمليات خارجية سوف تعد مرادفة للتدخل أو الاحتلال، الامر الذي تخشاه القيادة العسكرية.

خارطة منطقة الساحل الافريقي

كما يمكن ربط إحجام الدوائر العسكرية بنقص خبرة القوات المسلحة الوطنية في العمليات العسكرية الدولية مع العلم أن الجيش كان دائمًا مؤسسة مغلقة نسبيًا أمام الأجانب. وللتعاون مع الدول الأخرى، يحتاج الجيش الجزائري إلى الانفتاح وتقديم لمحة عامة عن هياكله وممارساته الداخلية. وفي حالة إرسال الجزائريين قوة حفظ سلام إلى مالي، فإنهم سينضمون إلى وجود عسكري أجنبي كبير، يعمل في عمليات تحقيق الاستقرار ومكافحة التمرد، فضلاً عن مهام التدريب.

استنتاج

إن الوضع الأمني ​​الهش في منطقة الساحل مقرونًا بعدم الاستقرار السياسي وضعف الحكم والتهديد الجديد العابر للحدود (التهديدات اللينة والقاسية) يخلقان الحاجة إلى التكيف في النهج الأمني ​​الجزائري تجاه المنطقة، بما في ذلك عسكرة الحدود وهو امر غير متوقع وغير مرغوب فيه. كان اندلاع الأزمة داخل الدولة المالية في عام 2012 غير مسبوق، حيث لم يقتصر الأمر على حركات الطوارق التي تقاتل الحكومة المالية لأول مرة، ولكن أيضًا الجماعات الإرهابية المسلحة والمتاجرين بالبشر. وهكذا، برز واقع أمني جديد في منطقة الساحل الافريقي، مما خلق تحديًا جديدًا للجزائر.

ويبقى أن نرى ما إذا كانت الجزائر ستختار مكانة جيوسياسية أكبر على المستوى الدولي أم توخي الحذر المحلي. من الواضح، مع ذلك، أن كلاهما له ثمن، لأنه بعد ما يقرب من تسع سنوات، لم يتم حل النزاع في مالي، على الرغم من جميع المبادرات الدبلوماسية والتدخلات العسكرية الافريقية والدولية. وبالنظر إلى تقليد الجزائر الطويل في عدم التدخل مباشرة خارج حدودها ونهجها الحذر في منطقة الساحل الافريقي منذ بداية أزمة 2012، فليس من المؤكد أنها ستقبل التسويات السياسية والأمنية والاستراتيجية التي قد تنجم، لا محالة، عن الاشتباك العسكري المباشر. إذا تقرر بالفعل إرسال قوات جزائرية الى مالي، فمن المحتمل أن تبدأ على نطاق صغير لمنع تفسير وجودها على أنه تدخل، أو حتى “احتلال”، ولكن أيضًا لموازنة المخاطر الأمنية والسماح للجيش بالتعود على المهام الدولية والتعاون العسكري. على هذا النحو، من المرجح أن تتميز السياسة الأمنية الجزائرية لمنطقة الساحل الافريقي بدرجة عالية من الاستمرارية على المدى القصير، حتى مع تزايد إلحاح مشكلة التطرف العنيف في المنطقة.

وخوفًا من التداعيات المتزايدة لعدم الاستقرار في منطقة الساحل الافريقي، تعتزم البلاد لعب دور أكثر نشاطًا، حيث أعلن الرئيس تبون سابقًا أن الجزائر هي “90٪ من الحل” في مالي. بالنظر إلى أن إرسال قواتها لم يعد محظورًا، فقد تفكر الجزائر في نشر قواتها على الفور – على سبيل المثال في المناطق الحدودية في الشمال. وإذا لم يكن هناك حل عسكري للأزمة الحالية، فإن إرسال قوات حفظ سلام جزائرية سيساهم على الأقل في استقرار البلاد. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود جيش مشارك بشكل مباشر سيسمح للجزائر بالمزيد من المشاركة الفاعلة في النقاشات الدولية حول منطقة الساحل الافريقي، لا سيما أن فرنسا تسعى حاليًا لتقليص وجودها في المنطقة.  ويجب الإشارة كذلك الى وجود حجة جيوسياسية أخرى لصالح نشر قوات حفظ سلام جزائرية في منطقة الساحل تتعلق بالمنافسة الحادة، في الوقت الحاضر، على النفوذ في إفريقيا جنوب الصحراء بين الجزائر والمغرب – وهي منافسة يعتقد المحللون أن المغرب يفوز بها حاليًا بسبب قوته الاقتصادية وقوته الناعمة وإن انخراط الجزائر بشكل أكبر في الأمن الإقليمي يمكن أن يوازن هذا الوضع دون شك.

هومبوري، المنطقة التي سوف تتواجد فيها القوات الجزائرية

@Ayurinu  يمكنكم متابعة الدكتور محمد اشتاتو على تويتر:

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *