والجزائر تغلي على صفيح ساخن، وقوى التحرّر والتغيير تقف بصمود في الشارع الجزائري بإصرار وعناد لا رجعة فيهما منذ شهور، مطالبة كل أوجه النظام القديم وسماسرته بالرحيل، في هذه اللحظة الحاسمة والبالغة الحساسية، يقدم كمال فخار المناضل الشهم والصادق، روحه وحياته لكي يقول إن الجزائر في نقطة اللاعودة، وأنه لا تراجع عن المطالب الديمقراطية الجوهرية، وأن قوى التحرير لا خيار لها إلا المضي نحو الهدف الأسمى الذي هو التغيير الفعلي الذي سيجعل الجزائر تعيش أمة ذات كرامة، تستفيد من خيراتها، ويشعر فيها الناس بالاعتزاز بالانتماء إلى وطن يأويهم ويشعرهم بالأمان.
تعرفت على كمال فخار بمدينة طنجة في إطار أنشطة المهرجان المتوسطي للثقافة الأمازيغية الذي تنظمه جمعية ثويزا، كان في غاية اللطف والطيبوبة، يحدثك فتشعر بصدق تعبيره عن آراءه وأحاسيسه، كما تشعر بقوة إرادته وإيمانه بقضيته، وشاءت الأيادي الخبيثة للمخابرات الجزائرية آنذاك أن تنشر صورتنا نحن الإثنين، والتي أخذوها من صفحته على الفيسبوك، مدّعية أن كمال فخار “باع الوطن” لأنه اجتمع بالمستشار الثقافي لمحمد السادس (الذي هو أنا !!؟)، ليقدموا ذلك على أنه الدليل على تورط النظام المغربي في أحداث “غرداية” وعمله على زرع الفتنة بالجزائر.
لم يرغب كمال فخار قط في الهروب من الجزائر رغم كل معاناته مع قوى القمع في بلده، رغم أنه وجد الفرصة متاحة أمامه لأكثر من مرة، كان يقول إن المكان الوحيد الذي يشعر فيه بمعنى الحياة هو بلده الأصلي ومسقط رأسه، وكان يعتبر المنفى خذلانا لسكان “غرداية” الطيبين والمسالمين، وكان يقول كذلك إن التحرّر غاية لا بدّ فيها من تضحيات، ولهذا بقي في معركة الكرامة إلى أن استشهد، من أجل جعل أمازيع مزاب الإباظيين يقفون ضدّ ما يلحقهم من سلطات بلدهم من أذى مباشر وتقتيل وإحراق بيوت وانتزاع أراضي، وضد مخططات التصفية التي تستهدفهم وهم الذين اعتنقوا المذهب الإباظي منذ أزيد من 12 قرنا.
لقد كان فخار في صلب الأحداث بل وفي مقدمة المشهد كله لسنوات، واكب عن كثب ووعي ما يحدث في “غرداية” بالجزائر، والذي هو نتاج مخطط للسلطات الجزائرية منذ الاستقلال (وأصبح أكثر بروزا منذ 1975) لتعريب أمازيغ امزاب الإباظيين وتنميطهم على مقاس التوازنات الداخلية للسلطة المركزية بالجزائر، والتي تبنت منذ فجر الاستقلال نهجا اشتراكيا قوميا عربيا متشددا، وهو المخطط الذي اعتمدت فيه مصادرة الأراضي عنوة وتفويتها للعرب المالكيين في خرق سافر لكل القوانين والأعراف المعمول بها، كما اعتمدت أساليب الزبونية والمحسوبية والرشوة لخلق التمايزات ولتحريض طرف ضدّ الآخر، مما أدّى إلى مشاكل اجتماعية عديدة وخلق الشنآن والبغضاء بين المواطنين الذين هم إخوة في انتمائهم إلى الوطن الواحد مهما اختلفت لغاتهم وألوانهم ودياناتهم.
وقد استعملت السلطات الجزائرية كذلك مؤسسات الدولة المركزية كالتعليم والإعلام ، ولجأت إلى كل أنواع الحصار التي منها حظر التنظيمات المدنية وعرقلة إنشائها، وتشديد الرقابة البوليسية على النشطاء من مثقفين وفنانين. هذا وليس التواطؤ مع المتطرفين من التيار السلفي وتسليطهم على أمازيغ امزاب المسالمين مؤخرا إلا دليلا على فشل كل المخططات السلطوية للاحتواء والتنميط. لقد عمل كمال فخار على إسقاط القناع عن السلطات الجزائرية وإظهار حقيقة ما يجري في “غرداية”، والذي لا يتمثل في وجود “مواجهات طائفية بين الإباظيين والمالكيين” حدثت بالصدفة كما تدّعي السلطات، بل في وجود صراع بين أمازيغ امزاب والسلطة التي لا تعترف بوجودهم ولا تحترم ثقافتهم، وهي التي تصنع الطائفية وتحرض طرفا ضد آخر، مما يحدث القلاقل والصراعات والفتن.
إن الحركة الأمازيغية في كل من المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومالي والنيجر وجزر كاناريا والدياسبورا، إذ تنعى كمال فخار وتتألم لرحيله المفجع، والذي لم يكن مفاجئا بسبب توفر كل أسبابه المخطط لها، تعلن إصرارها على المضي قدما في طريق الدمقرطة والتحديث الشامل للمؤسسات والعقليات، وتعتبر أن ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة وإنهاء كل أشكال الميز التي تهدر كرامة المواطنين، هو الخيار الوحيد أمام هذه البلدان وليس المناورات السلطوية والغدر والتحكم وشغب المتطرفين، فلا كرامة إلا بإنهاء كل مظاهر الميز بسبب الدين أو المذهب أو اللغة أو العرق أو النسب العائلي أو اللون.
وليرقد جثمان أخينا كمال فخار في سلام وأمن وأمان في أرضه التي ضحّى من أجلها، والتي إن لم يعش ليراها حرة فلسوف تتحرر بفضل تضحيته التي لن تذهب هدرا.
أحمد عصيد