نزل عليّ الخبر مساء يومه الاثنين 19 أكتوبر كالصاعقة، لقد شعرت مع سماع الخبر بحرقة في قلبي، ودموعي أبت أن تتوقف، ربّاه، أمغار أحمد الدغرني لم يعد بيننا فجأة، في الوقت الذي كنّا تحدثنا عنه في صباح ذات اليوم ونستعد للقيام بزيارته. “مات الله ارحموا” حاولت أن أنسى هذه الجملة القاتلة، لكنها تأبى الرحيل من تفكيري. نعم، لقد رحل أمغار إلى دار البقاء بعد عقود من القبض بيد من حديد على جمرة القضية الأمازيغية وعلّم أجيال كيفية حملها دون مساومة ولا تنازل عن المبدأ والموقف.
نذر دّحماد الدغرنـي العظيم حياته لخدمة القضية الأمازيغية وأفنى العمر مُرابطا من أجلها، وعاش شامخا ومدافعا شرسا بقوة الحجة والبرهان عن قضيته، لا يساوم ولا يقبل التوافقات وأنصاف الحلول، ولا يتردد في وضع إصبعه على الجرح وقول ما يجب قوله. لقد كافح الزعيم السياسي الأمازيغي ولعقود من الزمن في سبيل القضية الأمازيغية ومن أجل الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة، والتوزيع العادل للثروات.
من يعرف أمغار عن قرب ومن عاشره يوما، وهو الذي جعل من مكتبه وبيته في الرباط مزارا مفتوحا للجميع، يعرف جيدا معدن هذا العظيم وولائه وحبه اللامتناهي لقضيته الأمازيغية، يعرف جيدا معدنه الأمازيغي الأصيل المؤمن بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبحق الشعوب في الاستفادة من ثرواتها.
سيشهد التاريخ لأمغار بأنه حطم الكثير من التابوهات التي كانت تُعتبر وتدخل في خانة “المقدّسات”، يوم كان مجرد الحديث عنها أو حولها في الخفاء يؤدي إلى السجون.. فالرجل حارب وقاوم بشرسة على مدى سنوات خلت وفي جبهات مختلفة حتى فكك بنية النظام القائم ومزّقها إلى أشلاء. ناضل أفقيا وعموديا في سبيل القضية الأمازيغية، لا يَكِلُّ وَلا يَمَلُّ، ولا يتردد في التعبير جهرا عن مواقفه وقناعته الأمازيغية، وساهم في “انفجار” الوعي الهوياتي والثقافي الذي نراه اليوم في المغرب وعموم “تامزغا” وخارجها.
ناضل المثقف أمغار في جبهات مختلفة ومتعددة، وفتح سجالا سياسيا وحقوقيا بتصريحاته النقدية ومواقفه وأعماله الفكرية، برصانة ورزانة، وكان دائما في مقدمات المعارك الفكرية والنقدية، ولم يتردد في التصدي بحزم وبقوة الحجة والبرهان والمنطق لكل الأوهام والأساطير التي همشت بسببها الأمازيغية ولعقود من الزمان، حتى فرض على خصومه وحتى “أعدائه” قبل أصدقائه احترامه وتقديره نظير ما قدمه من أفكار والذود في الدفاع عنها.
سيبقى داّحماد إحدى القامات الثقافية والحقوقية والسياسية التي جعلت القضية الأمازيغية في شمولياتها، قضية حياة ووجود، وكرس حياته في خدمتها وساهم بقسط وافر في بناء صرح العمل الجمعوي/الثقافي والحقوقي والسياسي الأمازيغي، بنكران الذات وتضحيات جسام إيمانا منه بعدالة قضيته واقتناعا بأفكاره وقناعته وتصوراته التي سبقت على ما يبدو عصره.
فـ أفكار الزعيم وقراءته تحتاج لدراسات وأبحاث علمية وتحليلات فلسفية لفهم الرصيد الوافر الذي يتوفر عليه من أفكار والتصورات وقراءات آنية ومستقبلية لمختلف القضايا الحقوقية والثقافية والسياسية والقانونية التي تشغل المغاربة بمختلف أطيافهم السياسية والحقوقية وتموقعاتهم الاجتماعية، وهي القضايا التي تناولها في مقالته التحليلية والنقدية الغزيرة، وكلها مواضيع تبرز مدى ارتباطه بهويته وثقافته والقيم الإنسانية وقضايا حقوق الإنسان، والرغبة الدائمة في التغيير السياسي والاجتماعي في المغرب.
المضحون بحياتهم ووقتهم وأموالهم وكل ما يملكون في سبيل قضيتهم ووجودهم، في سبيل هويتهم وثقافتهم ولغتهم، انتمائهم الجغرافي والتاريخي والحضاري والإنساني.. لا يغيبون من ذاكرة شعوبهم ولا يموتون.. ولأن أمغار دّحماد يبقى أحد أبرز هؤلاء، وإحدى الشخصيات التي أثرت وتأثرت بها شعوبها على مدى عقود من الزمن، ورمز من رموز النضال الأمازيغي والحقوقي في المغرب وشمال إفريقيا، ولأنه قائد ذو شخصية ميكانيزمية عالية ساهمت بقسط وافر فيما وصل إليه اليوم الوعي الأمازيغي، والافتخار بالذات الأمازيغية، ولأنه كذلك، سيبقى خالدا في التاريخ الأمازيغي والنبراس والقدوة في الصلابة والصمود والتحدي واللامساومة ونكران الذات.
أمغار دّحماد قامة عاشت شامخة في سبيل الدفاع عن القضية الأمازيغية.
وأختم بما قاله يوماً:
“… يهمني استقراء الواقع انطلاقا من التاريخ، لقد ورثت الجدل الفكري عن الذين ضحُّوا بحياتهم في بلادي، وماتوا من أجل القيم التي يؤمنون بها. وعلى الذين يواجهونني ولا يقبلون آرائي أن يستوعبوا جيداً: لماذا قتل القاضي عياض؟ لماذا نفي ابن خلدون ومات في تركيا؟ لماذا هاجر المفكرون من المغرب بحثاً عن آفاق أخرى؟
أنا في بلدي أريد أن أكون حطباً للاشتغال الذهني وللجدل الفكري مادمت حياً.. وحين أموت فإن النار التي أشعل شرارتها ابن تومرت وابن خلدون وغيرهما لن تنطفئ أبداً. أنا أحيا وأموت مع هؤلاء”.