مقدمة:
عشنا في تلك القرية ومحيطها ،مدة من الزمن، على سماع همسات أصوات تنطلق من هنا وأخرى من هناك أصوات تحمل نفس العبارات (ويدين د ليهود) قبيلة ترمي أخرى دوار يرمي آخر مدشر يرمي آخر عائلة ترمي أخرى، لا يتراشقون بالحجارة وإنما باتهام بعضهم البعض بتاياهوديت، الى درجة أن أصبح هذا المفهوم يفزعنا عند سماعه، حتى شجرة مسكينة لم تسلم من التحقير بسبب اسمها (ثاسكلوت ن ليهودي) وأيضا الصخرة (+ترشا ن ليهودي)، ولنفاجأ مرة أخرى وبعد مدة من الزمن لما كنا في ﺇساكن نحاضر في ندوة نظمتها كونفدرالية جمعيات صنهاجة الريف، حينما دخلنا في حديث مع ساكنة المنطقة مطالبين إياهم بالدفاع عن حقوقهم، فكانوا يجيبوننا (غوري ليهودي گخيام) ويقصدون الكيف. اه ما كل هذا الحقد الدفين على اليهودي؟ ما أسبابه؟ وما هي المبررات التي تجعل كل طرف يتهم الآخر بتاياهوديت؟ كيف ترسخت على المستوى السيكوسوسيولوجي لإنسان المنطقة هذه التمثلات السلبية عن اليهودية؟ هل لتاريخ المنطقة علاقة بذلك، ألم تكن كل هذه القبائل أو جلها يهودية في الأصل؟ نعم كانت هذه مجموعة من التساؤلات التي تبادرت إلى ذهننا ونحن نفكر في هذا الموضوع. وبحكم حبنا الشديد للتاريخ عموما ولتاريخ المنطقة بصفة خاصة، قلنا لماذا لا نبحث في ما تركه لنا الأسلاف من معطيات علها تفيدنا في فك خيوط هذا الموضوع الطابو، وفعلا اعددنا العدة وجمعنا ما توفر لدينا من المكتوب حول المنطقة، وتجولنا في دواويره وسمعنا ما سمعنا من عبارات. ثم عدنا ونحن كلنا أمل في فتح مجال جديد للبحث العلمي في تاريخ اليهود بالمنطقة ليتبين لنا فيما بعد صعوبة فصل يهود المنطقة عن مجال الريف ككل وما كان بينهم وبين يهود الجزائر والضفة الأخرى ويهود الجنوب المغربي أيضا من تمفصلات واحتكاكات. وهذا هو السبب الذي جعلنا نعنون هذه المداخلة بوضعية المغاربة اليهود بالريف من القرن السابع عشر الى عهد الحماية، وهي الفترة التي يمكن لها أن تقدم لنا ولو جزئيا أجوبة عن التساؤلات التي طرحناها أعلاه، وان كان من الصعب علينا تجاوز الفترات التاريخية السابقة عن هذه الحقبة بحكم السيرورة التاريخية لتشكل الانسية المغربية بالريف. فكيف عاش إذن اليهود المغاربة بهذه المنطقة خلال هذه الفترة؟
مقاربة منا لكل هذه التساؤلات عمدنا إلى تقسيم مقالتنا هذه إلى مستويين: المستوى الأول سنخصصه لذكر أهم الجوانب المتعلقة بتاريخ اليهود في المنطقة، أما المستوى الثاني فسنقارب فيه وضعية المغاربة اليهود بالريف خلال الفترة المحددة أعلاه.
أولا: تاريخ الديانة اليهودية بشمال المغرب:
يستشف من مختلف المراجع التاريخية التي سنحت لنا الفرصة بالاطلاع عليها، أن أصول المغاربة اليهود عموما متعددة وغير معروفة بدقة، فبعض المراجع ترجح أن يكونوا قد جاءوا من برقة (ليبيا) في القرن الرابع قبل الميلاد، وهناك مراجع أخرى ترجح قدوم اليهود إلى المغرب في فترات تاريخية قبل هذا التاريخ بكثير. ويهود آخرون قدموا من الجزائر الحالية خلال الفترة الرومانية، وآخرون تم نفيهم واضطهادهم من طرف القوط الاسبان والذين هربوا إلى شمال المغرب في القرن الرابع الميلادي، أما يهود الريف فجلهم إن لم نقل كلهم أمازيغ، وحتى وان كان العنصر الأشقر هو الذي يميز يهود الريف، فان هذا لا يعني أن اليهود المغاربة يشكلون مجموعة متجانسة ولكن فقط عائلة دينية بدون خصوصيات اثنيه ولا تنتمي لسلالة إسرائيل، ولا يمكن التمييز بينها وبين المتدينين من الديانات الأخرى وبصفة خاصة الإسلام، إلا في مظاهر محدودة جدا تعكس في جوهرها عمق التنوع الثقافي بالمغرب، سواء على مستوى اللباس أو اللغة أو الهيئة أو الثقافة بمفهومها الضيق. فالهوية الأمازيغية جمعت الكل في بوتقة واحدة.
من هذا المنطلق يتوجب علينا الرجوع إلى تاريخ احتكاك الأمازيغ بالديانة اليهودية منذ القدم، وإذا كان المجال لا يسمح بسرد سيرورة هذا الاحتكاك، فنشير هناك فقط إلى أنه وفقا للتقسيمات القبلية الكبرى للأمازيغ المعتمدة من قبل مؤرخي ما بعد الإسلام (صنهاجة، مصمودة، زناتة)، فان الزناتيين هم من اعتنقوا الديانة اليهودية بشكل كبير، في هذا السياق يذكر گوتييه ما يلي: «لا بد لنا هنا من ذكر القرابة بين الزناتية واليهودية في الأصل، فالكاهنة أول امرأة على الزناتيين كانت تحمل اسما يهوديا، فكاهنة هي مؤنث كوهين»[1]. ولا يجب أن نغفل هنا الإشارة إلى الدور الكبير للملك الأمازيغي شيشنغ، الذي نعتمد تاريخ انتصاره على الفرعون رمسيس سنة 950 قبل الميلاد كلحظة للتأريخ الأمازيغي بشمال أفريقيا، والمذكور في التوراة، في جلب اليهود الى افريقيا.
وفي عهد الوندال تذكر بعض المراجع أنه كان عدد اليهود بشمال المغرب مهما للغاية، إلا أن عددا منهم غادروا مع الوندال واستقروا باسبانيا، ومن بقي منهم عانوا الكثير من عدم تسامح البيزنطيين، إلى درجة جعلت عدد من الباحثين يعتقدون بأن الساكنة اليهودية في موريطانيا الطنجية تعرضوا للاضطهاد. وبالمقابل بقيت عدد من المدن الساحلية بالأقاليم الشرقية من شمال أفريقيا يتحكم فيها اليهود بشكل كامل مثل مدينة بوريون (borion) و بنزرت التي كانت تحكم من طرف اليهود خلال الغزو العربي[2]، والقيرواني يقر بأنه سمع بأن يهوديا كان يحكم قديما بن زرت، لكن هذه المدينة سيتم اجتياحها من طرف ساكنة الهوامش، وذلك لمعاقبة اليهود على اختيارهم يوم السبت كيوم سوق[3]. ويذكر گوتييه أنه «في غرارة واقصى شمال توات بين تامنطيت وسبع غرارة (في صحراء ادرار بالجزائر)، في تلك المنطقة التي حافظت على لغة زناتة وجنسها حتى أيامنا هذه، كانت تقوم دولة يهودية مستقلة استمرت حتى نهاية القرن الخامس عشر، ولدينا تفاصيل وافية عن إبادة هذه القبيلة عام 1491 حين قضى عليها المسلمون بعد هزيمتهم في اسبانيا»[4]
أما بخصوص منطقة الريف، فنشير بهذا الصدد إلى ما أورده ميشو بيلير في مقالته حول الريف نقلا وتحليلا للوثيقة المكتوبة بالعبرية من قبل سامتوح بن سارمون، والتي نشرتها المجلة الاسبانية (la Revista de Tropas coloniales) في عددها لشتنبر 1925، حيث ذكر بأن أول مملكة في شمال أفريقيا كانت مملكة يهودية تواجدت بالريف، ومما جاء في مستهل هذه الوثيقة: « لقد سمعنا، كما حكى لنا آباؤنا، ما تواجد خلال الحقب الماضية في أقصى الغرب، والذي يسمى مراكش باللغة العبرية، قبل الهينمة العربية، حيث حكم يهودي كبير شجاع (…) وهو أول من حكم الإمبراطورية في أفريقيا الكبرى، كان يحمل اسم الشهرة: يعقوب، والاسم العائلي PARIENTE ، وكان يسكن في البلد الغربي الذي يسمى اليوم بالريف، ويبدو أن اسم الريف يجد أصله في REBBI +YACOUB+PARIENTE »[5]. وقد أوردت الوثيقة أيضا ما تميز به عهد هذا الملك من ثراء وعلم ومن تكوين عسكري. وإذا كان بيلير قد شكك في صحة هذه الوثيقة ، فانه مع ذلك لم يستبعد تواجد مملكة يهودية بالمنطقة، حيث يشير إلى أنه في القرن السادس أي قبل الاسلام، خلال الفترة التي بدأت فيه السلطة البيزنطية تختفي من المغرب، كانت هناك احتجاجات الأمازيغ، الذين كان أغلبهم يهودا[6]. كما يذكر أيضا أنه في بداية القرن السابع الميلادي، وبالضبط سنة 612 تأسس تحالف حقيقي بين يهود المغرب ويهود اسبانيا، أثناء حكم الملك سيسبوث (sisbouth)، من أجل تخليص اسبانيا من الحكم القوطي وإنشاء مملكة يهودية. لكن هذا التحالف لم ينجح اذ تصدى له القوط بشراسة وتعرض اليهود في اسبانيا لاضطهاد كبير مما جعل عدد كبير منهم يلجأ الى المغرب. ففي شمال المغرب المحادية للمتوسط إذن سينشىء الامازيغ اليهود بمعية اليهود القادمين من اسبانيا عددا من الدول اليهودية الفعلية، وليس من المستبعد أن تكون دولة يهودية قد تأسست قبل وصول عقبة بن نافع أو حفيده، في المنطقة المسماة اليوم بالريف[7]. ولعل الموقف العدائي للبيزانطيين من الديانة اليهودية هو الذي حرمهم من كسب تعاطف القبائل الأمازيغية اليهودية وقوض حكمهم.
أما في عهد الدولة المغربية المستقلة دولة الأدارسة، فقد كان اليهود ينعمون بالاستقرار وكانت مدينة فاس مأهولة بعدد منهم، وكان ضمنهم مفكرون وفقهاء كبار على سبيل المثال ابن القلعة إسحاق الفاسي، وداوود الفاسي. وغيرهما. وان كانت بعض الأحداث قد وقعت في هذه الفترة خصوصا بمنطقة صفرو. لكن أعظم فترة عاشها اليهود المغاربة كانت في عهد الدولة المرابطية، وكيف لا وهم الذين شاركوا في معركة الزلاقة بأزيد من 40000 يهودي[8]، حيث منحهم يوسف بن تاشفين يوم السبت عطلة يتعبدون فيه، وقد استمر علي بن يوسف في دعم اليهود حيث كان أكبر حام لهم[9]، لكن الوضع سينقلب في عهد الموحدين، وهي الفترة التي سيهرب فيها عدد كبير من اليهود للاختباء في الريف، والذين لازالوا يتذكرون في مخيالهم الجمعي ذاك السلطان الذين يسمونه بالسلطان الأكحل[10].
أما بخصوص صنهاجة الريف وغمارة، فكل المراجع التاريخية التي تناولت المنطقة تؤكد بأنهم كانوا يتدينون بالنصرانية، وفي هذا الصدد يذكر البكري متحدثا عن مملكة صالح بن منصور (710ه) والمعروفة بإمارة النكور، أول إمارة إسلامية بالمغرب، بأن «ساكنة هذه الإمارة مكونة من غمارة وصنهاجة الذين كانوا نصرانيين»[11]، ومعلوم أن صنهاجة ومصمودة إضافة الى كتامة هي أهم قبائل البرانس. ونشير في هذا الصدد الى أن تهمة النصرانية، بقيت تلاحق كل من تجرأ من سكان المنطقة على الثورة ضد السلطة، فعلى سبيل المثال، خلال فترة حكم السلطان يوسف بن يعقوب بن عبدالحق المريني في 1287 م، قامت ثورة بالريف قادها رجل قيل في البدء بأنه (d abuhali) أي أهبل، كان يسمى العباس بن صالح من أصول گميلية التي تعتبر حسب ميشو بلير جزءا من صنهاجة بادس، ذهب إلى المشرق وفي عودته، يعتقد بأنه التقى بالفاطميين فأرسلوه للدعاية لنفسه. تمكن من جمع عدد هائل من الرجال حوله، وفي يوم عاشوراء شهر فبراير 1287م، اجتاح بادس ثم سار نحو المزمة التي كانت تتواجد بها جيوش المرينيين من بني وطاس، فهاجمهم ولكنه قتل في ابريل من نفس السنة، وتم تصليب جسده على باب المزمة للإيحاء للناس بأنه نصراني كافر[12]. وفي وقت لاحق كان فيه الگميليين في صراع وخصام حاد مع الغماريين (متيوة) متهمين إياهم بأنهم نصارى، حيث أورد مولييراس ما حكاه له مرسوله محمد بن طيب من أنه لما وصل إلى بني گميل قال له احد الگميليين «ها أنت في الأرض المسلمة، لا تخف (…) نحن نحب الأجانب، لكن رجال متيوة هم نصارى»[13]، ومحمد هذا الذي كاد أن يقتل في بني گميل لا لشيء إلا لكونه يرتدي جلبابا مثيويا[14]. ونعتقد بأن تهمة النصرانية التي لازالت تلاحق الأمازيغ إلى يومنا هذا تجد جذورها في هذه الفترات التاريخية.
هذه إذن معطيات تاريخية مختصرة جدا ليهود الريف وان كان يصعب علينا فصلهم عن باقي يهود المغرب والجزائر واسبانيا نظرا للعلاقات المتينة التي كانت تجمع بينهم. فكيف كان وضعهم خلال الفترة الممتدة من القرن السابع عشر الى حدود نهاية الحماية الاسبانية؟
ثانيا: وضع اليهود بالريف خلال الفترة الممتدة من القرن السابع عشر الى نهاية الحماية الاسبانية.
خلال هذه الفترة كان اليهود منتشرون في عدد كبير من مناطق الريف المغربية، فمارمول كاربخال (1524-1600) مثلا يحدثنا في الفصل 67 من تاريخه، والمخصص لمنطقة «بادس غمارة (فيليز غمارة) والقلعة المسماة صخرة بادس» بأنه «لا يأكل السكان سوى الشعير، وينتسبون إلى قبيلة غمارة، ويعاقرون الخمر، إذ كان في بادس قديما أكثر من مائة منزل لليهود، وتباع فيها أجود الخمور، وكان كل تسلية المدينة هو الخروج إلى البحر في الزوارق لشرب الخمر، وتناول الطعام»[15].
وقد أورد نفس الكاتب عند حديثه عن بني أوزرول (بني زرول) ما يلي: «وفي المكان الكثير الخصوبة مدينة مسورة، آهلة بالسكان، وفي هذه المدينة أكثر من 100 دار للتجار والصناع اليهود»[16]، ومع السف الوقت لن يسمح بسرد كل المناطق من قبيل اسجن وغيرها. والخلاصة العامة هي إن اليهود كانوا منتشرين في عدة مناطق.، مشهورون بالصناعة والتجارة.
ومع بداية الدولة العلوية الشريفة، وبصفة خاصة في بداية حكم المولى رشيد، سيسطع نجم مدينة تازا كموطن لليهود وكذا منطقة بني ايزناسن، الذين كانوا تحت إمرة رجل يسمى ابن مشعل، «وكان لهذا اليهودي أموال طائلة وذخائر نفيسة»[17]، وبهذه الأموال تمكن المولى رشيد من بناء جيش قوي استطاع بواسطته فتح المغرب، وفي هذا يرجع الفضل الكبير لليهود وعلى رأسهم ابن مشعل.
أما خلال الفترة الممتدة ما بين حكم المولى رشيد وسيدي محمد بن عبد الرحمن، فلا نتوفر فيه على معلومات كثير بخصوص يهود قرى الريف، في حين كتب الشيء الكثير عن يهود المدن الكبرى الساكنين في تطوان وطنجة ووزان. وكيفما كان الحال، فقد كانت النخبة اليهودية الحضرية هي الأكثر احتكاكا بالسلطة وبالمتغيرات الدولية، وهي التي ستقود أيضا قافلة الدفاع عن اليهود بالمغرب، وفي هذا الصدد يذكر صاحب الاستقصا بأنه في سنة 1280ه «ورد يهودي من اللوندرة على السلطان سيدي محمد بن عبدالرحمن (حكم 1859-1873) بمراكش يطلب منه الحرية ليهود المغرب»[18]، فأصدر السلطان ظهيراتاريخيا بكل المقاييس، جاء فيه: « نأمر من يقف على كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره (…) من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر ايالتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحدا منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام ولا ينالهم مكروه »[19]، ويذكر الناصري في هذا الصدد ما يلي: «ولما مكنهم السلطان من هذا الظهير اخذوا منه نسخا وفرقوها في جميع يهود المغرب»[20]، وهذا يعني بأن حتى يهود الريف كانوا على علم بهذا الظهير.
أما بخصوص يهود الريف الشرقي، وبصفة خاصة في قبيلة قلعية التي كان يتواجد بها عدد كبير من اليهود، فيذكر مولييراس بأنهم كانوا يسكنون القرى ويمارسون مختلف المهن: الاسكافية، صناعة الأحذية، صناعة الحبال، الصياغة، ولا يوجد أي فلاح منهم. فهم يستأجرون منازلهم ولا يستطيعون امتلاك سكن في قلعية ولا في أي مكان آخر، وهناك شرط غريب في الكراء، فعندما يكون الكاري يهودي المالك هو وحده من يمتلك حق طرد اليهودي، ولكل يهودي سيد مسلم. واليهود القلعيون يسافرون من أجل عملهم يذهبون الى وهران وطنجة واسبانيا، نحو اي مكان يريدون، وهذا يدل على أنهم كانوا يتمتعون بحرية كبيرة، ولا يبدوا أنهم غير سعداء ما داموا يعودون الى مساكنهم باخلاص، ويصرحون بأن الأمازيغ لا يتعاملون معهم بسوء، فبينهم تواصل وتفاعل ومعاملة دائمة، وهم يتكلمون نفس اللغة ويلبسون نفس اللباس يتميزون عنهم فقط بشعرهم الطويل. مع العلم أن « الساكنة اليهودية في المدن المغربية، والمجتمعة في ملاحات، كانت تتكلم بلهجات مختلفة عن اللهجات المستخدمة من قبل المسلمين بتلك المدن (..) كما أن لهجات اليهود تختلف من ملاح الى آخر»[21]، كما يذكر برونو ومالكا، وهي عموما لهجات دارجية ذات تركيب أمازيغي مملوءة بالكلمات الأمازيغية، وذلك من قبيل ما جاء في النص الأول الذي أورده الكاتبان والمعنون ب الصلوات ذي فاس[22]. وهو تركيب أمازيغي.
وفيما يتعلق بمنطقة صنهاجة الريف (صنهاجة الساحل وصنهاجة السراير)، فيحدثنا مولييراس (1855-1931) بأنه كان في مسطاسة عدد من المناطق اليهودية، اذ يقول نقلا عن رسوله محمد بن طيب «انها المرة الأولى منذ غادرنا تاغزوت، التقينا ممثلين من هذا العرق، حيث كانوا منتشرين في كل مكان، وبصفة خاصة عند أشد أعدائهم قتلا المسلمون»[23]، وما أثار انتباه مولييراس هو أن يهود مسطاسة لم يكونوا متجمعين في ملاح (كيطو) كما هو الحال في باقي مدن المغرب. فهم منتشرون في كل مكان، ومساكنهم لا تختلف عن دور الريفيين، ولكنهم ينتسبون للمسلمين، لأنه في كل الريف اليهودي لايمكن له أن يمتلك شبرا من الأرض ولا حتى سكن واحد، ويضيف مولييراس، أن عمل اليهودي يقتصر على خزن ما تراكم لديه من الذهب والفضة تحت الأرض دون توقف، وبدون القدرة على حمل هذا المعدن الثمين الذي يعرف قيمته في البلدان التي يسودها الأمن. فهو لم يتمكن فقط من الاندماج في المحيط السكاني للمغرب الأكثر تعصبا وعنادا، ولكن أيضا وجد وسيلة ليكون محميا من طرفها، فقد استعمل وسيلة مخططة بشكل دقيق: جعل من نفسه يهودي المسلم. فأن يكون يهوديا للمسلم يعني أن ينتسب اليه ثلاثة أرباع جسدا ومالا، انها حالة وسطى بين العبودية والخضوع.[24]
إن تواجد اليهود بالريف أثار استغراب مولييراس الذي لم يزر الريف قط، فهو يقول «لقد تعجبنا لوجود مستعمرات لليهود في زوايا ضائعة من المغرب، في أوساط سكانية مسلمة جد متوحشة، لا يمكن أن تتسامح مع حضور أي ديانة أجنبية، وقد احتملوا مع ذلك الالتقاء مع الجنس السامي بطريقة ماكرة ومميزة»[25].
ويستمر مولييراس في سرد معاناة اليهود بالمنطقة فيقول: «الأمر يتطلب مجلدا لتفصيل مختلف الاهانات التي تعرض لها اليهود المغاربة، الاهانات الأكثر تداولا، الشتائم التي توجه إليهم باستمرار والتي لا يعيرها اهتمام، والمسلمون يجدون سعادة كبيرة في أن يروا يهوديا ملتحيا الذين يتبعونه بالرجم بالحجارة. لكن الآباء منعوا عليهم هذه اللعبة المتوحشة. اليهودي عليه دائما أن ينادي المسلم سيدي وهو مجبر على ازالة حذائه والمشي مقوس الظهر وبسرعة عندما يمر أمام المسجد، هذه اجمالا شروط عيش اليهودي بالريف»[26]. ونحن نعتقد بأن هذه الأوضاع هي التي جعلت عدد كبير من اليهود بالمنطقة يختبؤون في عباءة الاسلام الذي يضمن لهم العيش في كرامة، ويكرهون كرها شديدا كل ما يتعلق بتاريخهم اليهودي، خوفا من العواقب، بل أكثر من ذلك اعتبروا أنفسهم أكثر إسلاما من غيرهم ويتهمون خصومهم بكونهم يهود أو من أصول يهودية.
هذه المنطقة (صنهاجة الساحل) عرفت أيضا بتواجد مقبرة يهودية كبيرة، اذ يذكر مولييراس بأنه في سنادة تتواجد المقبرة اليهودية الوحيدة بالريف ككل، وهذا غير صحيح، فقد كانت هناك مقابر أخرى تم تخريبها من قبل المسلمين، لكن مقبرة سنادة هي الأكبر على الإطلاق وهذا ما يدل على أن منطقة آيت يطفت كانت مأهولة باليهود وربما بكبار الحاخامات. ويصف مولييراس مقبرة سنادة بأنها تحتل مساحة واسعة مبلطة بحجارة جلبت من تطوان، مزخرفة بكتابات عبرية. وحسب مولييراس دائما كان يهود قلعية يدفنون أمواتهم بهذه المقبرة، حيث يمشون لمدة ثلاثة أيام حاملين موتاهم إلى سنادة. أما بني بوفراح فما دام الوقت لايسمح، يمكن الرجوع الى ما كتبه بول باسكون.
وبخصوص المناطق الأخرى في صنهاجة الريف فقد ذكر مولييراس بأن « اليهودي والنصراني غير معروفين» في بني سدات. لكن الحوار الذي اجراه محمد بن طيب مع أحد السداثيين، يجعلنا نشك في كلام مولييراس، فلهجة آيت سداث تختلف كثيرا عن تلك اللهجة الزناتية المنقولة من قبل مولييراس، كما نستشف أيضا من كلام مولييراس رائحة الايدولوجيا الاستعمارية حينما يذكر بأن ذاك الشيخ السداتي قال« أجدادنا فرنسيين ومن تبقى هنا أصبحوا مسلمين»[27]، ونفس الشيء فعله مع الزرقتيين حيث قال «الأسطورة التي يتقاسمها الزرقتيين عن أصلهم هم من أصول فرنسية»[28]، ولا نعلم كيف غير الزرقتيين أسطورتهم هذه وأصبحوا من أصول عربية كما هو منصوص عليه في المخطط الجماعي لجماعة زرقت 2010. ان الانتقال للحديث عن الأصول اليهودية لعدد من التجمعات الزرقتية في الوقت الراهن، وفقا للمعطيات التي نتوفر عليها بهذا الخصوص، سيفسح المجال لحساسيات نحن في غنى عنها، فقط نشير إلى أن السوق الذي عرفته المنطقة كان يسمى بسوق السبت لأنه يعقد يوم السبت (اغزار ن السوق)، وهو يوم ذي دلالة عميقة عند اليهود، هذا فضلا عن الأسماء العائلية المنتشرة بربوع الريف، أما اذا سبحنا في أعماق بحر السلوكات والممارسات والحرف وغيرها من التمظهرات الثقافية لساكنة المنطقة، كلها توحي ببقايا التأثيرات اليهودية على هذا المجتع الصنهاجي.
لكن اليهود سيتناقصون تدريجيا إما عبر الاختباء في الإسلام الذي ضمن لهم الاستمرار في العيش بالمنطقة بكرامة، أو الهجرة. والى حدود 31-12-1945 كان في تاركيست 37 يهوديا مقابل 2417 مسلما 553 اسبانيا، أما في مدينة الحسيمة فقد كان بها 142 يهوديا مقابل 4956 مسلما و5463 اسبانيا، طوريس وحدها هي التي لم يكن بها أي مسلم حيث كان يقطن هناك خلال هذا التاريخ 200 يهودي.[29]، كانوا يمتهنون التجارة تحت حماية القياد بمقابل.
ونحن اليوم ولله الحمد قد فتحنا صفحات جديدة للمصالحة مع ذواتنا وهويتها وتاريخنا وانسيننا، والتي يشكل البعد اليهودي فيها مكانة متميزة لا ينكرها إلا من أعمت بصيرته تلك الإيديولوجيات الاقصائية التي لم تستوعب بعد مفاهيم التعدد والتنوع والاختلاف المميزة لطبائع الكائنات والمجتمعات.فإننا نوصي بأن يعاد قراءة تاريخنا وأن يفتح المجال أمام المغاربة قاطبة لمعرفة عدد من الرموز اليهودية سواء التي عرفها الريف أو المغرب عموما التي ساهمت بشكل كبير في مجالات متعددة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر هنا أول عالم يهودي ربما في العالم وليس في المغرب فقط ( ELDAD LE DANITE)، والطبيب والعارف اليهودي الكبير والمتميز والذي لازالت إحدى المناطق بشمال المغرب تحمل اسمه، انه يهودا بن قريش، الذي يعتبر أول من اعتمد المقاربة المقارناتية في دراسة اللغات بحكم أنه كان يتقن العبرية والعربية والآرامية والأمازيغية التي اعتبرها لغة سامية واللغة اللاتينية أو الروماندية التي كانت تستخدم في زمانه، ولا زال مؤلفه المعنون برسالة (خطاب) ياهودا بن قريش المغربي، الذي ألفه سنة 880 ميلادية، ووجهه للجماعة اليهودية بفاس[30] شاهد على مدى شساعة معارف هذا المفكر. ونذكر أيضا الفيلسوف يوسف بن يهودا بن أقنين الذي كان يكنى بأبي الحجاج يوسف بن يحيى بن شمعون السبتي المغربي الذي ولد بسبتة سنة 1160 وأشهر مؤلفاته بالعربية دلالة الحزين[31]، وقبله نجد كل من يهودا بن هيودج (مات مابين 1005 و 1010)، و دوناش بن ليبرا، وغيرهم كثيرون، وأغلب العلماء اليهود الكبار كانوا بفاس وتافيلالت وتلمسان ، هؤلاء ساهموا بكتاباتهم في اغناء الثقافة المغربية بشكل كبير ليس فقط في بعده العبري ولكن أيضا في بعديه الأمازيغي والعربي،[32]. كما نوصي أيضا بفتح المجال أمام جميع المغاربة كي يتعلموا اللغة العبرية لأن هذه اللغة تخفي جوانب عديدة من ثقافتهم، وأن تفتح المتاحف العبرية أمام جميع المغاربة كي يكتشفوا تاريخ أجدادهم.
د. عبدالله اكلا
باحث في تاريخ المغرب.
الهوامش:
[1] غوتييه. أ.ف، ماضي شمال أفريقيا. ترجمة هاشم الحبيشي. مؤسسة تاوالت الثقافية. 2010.
[2] Slousch. N, Etude sur l’histoire des Juifs au Maroc. Deuxieme partie, les Juifs marocains de l’invasion Arabe a la pérsécution des Almohades (1146). In Archives marocins.p.1
[3] Ibid. p.1/2.
[4] غوتييه، ن.م. ص.115.
[5] Michaux Bellaire, A propos du Rif, in Archives marocains, vul 27, 1927. P. 212-213.
[6] Ibid.p.216.
[7] Ibid. p.216-217.
[8] Histoire des juifs au Maroc. P.117.
[9] ibid. P. 124
[10] Ibid. 111.
[11] Michaux Béllaire, Le Rif, directions des affaires indigènes et de service des renseignement. 1925. P.10.
[12] Ibid.p.14.15.
[13] August Moulièras, le Maroc inconnu, première partie, Exploration du Rif. Décembre 1895. P.76.
[14] Ibid.
[15] مارمول كربخال. الجزء الثاني.ص. 231
[16] ن.م.ج.الثاني.ص.254
[17] الناصري، الاستقصا في اخبار المغرب الأقصى. ج.7.ص.29.
[18] الناصري، الستقصا، ج.4.ص.237.
[19] ن.م.ص.237-238.
[20] ن.م.ص.238.
[21] Bruno.L , Malka.E, Texte Judéo-arabes de Fes. Hespéris, Tome XIV. 1932.P.1.
[22] August.M. IBID. p.77. P.2
[23] August.M. IBID. p.77
[24] August.M. IBID. p.77
[25] August.M. IBID. p.77
[26] August.M. IBID. p.77
[27] August M, ibid. p76
[28] Ibid. p.85.
[29] Said El Sabri, Le fait urbain dans la province d’Alhoceima (Rif central) : passé, present et devenir, in revue Annales du Rif, dir. Hassan El Jarmouni, N2,imp, Ennajah El Jdida, Casablanca, 1999, p.34.
[30] Histoire des juifs au Maroc. PARTIE 2. P.80
[31] IBID.P.117.
[32] IBID. PP.80-