كان هناك دائما، وحتى بعد إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالربط في أواخر سنة 2000، تطبيع محدود مع إسرائيل، متجلّيا في وجود علاقات تجارية وبشرية (تبادل الزيارات) غير رسمية وغير علنية بين المغرب وإسرائيل. ثم جاء يوم 22 دجنبر 2020 حيث وقّع المغرب، وبشكل رسمي وعلني، اتفاقية التعاون والصداقة بينه وبين إسرائيل، والتي بموجبها أصبح التطبيع مع الدولة العبرية كاملا ونافذا. وهو حدث كان مفاجئا وغير منتظر لأن الشعب المغربي شُحن طيلة أزيد من سبعين سنة بكون اليهود هم أعداء الأمة وأعداء الله. وهو ما كان من الصعب معه على الحُكم أن يغامر بالتطبيع، لما في ذلك من استفزاز لمشاعر المغاربة التي صنعتها عقود من العداء لإسرائيل حتى أصبح هذا العداء جزءا من خطب الجمعة، وعنصرا حاضرا في كتابات المثقفين وخطابات السياسيين المغاربة، وقناعة راسخة لدى الخاصّة من المتعلمين والعامّة من الأميين. ولم يكن منتظَرا كذلك في ظل حكومة يقودها حزب بنى كلَّ رأسماله السياسي والإيديولوجي على معاداة إسرائيل وشيطنة اليهود. ولهذا كان التطبيع حدثا مفاجئا، كما قلت، بل صادما ومزلزلا لأن فيه تحدّيا “لإجماع” المغاربة على رفض التطبيع الذي لُقّن لهم أنه غدر وخيانة وولاء للصهيونية. وهو صادم ومزلزل أكثرَ لأن الذي وقّع اتفاقية التطبيع الكامل مع إسرائيل هو رئيس الحكومة الذي هو في نفس الوقت الأمين العام لحزب “البيجيدي”، الذي جعل من مناهضته المطلقة للتطبيع والمطبّعين علةَ وجوده وأساسَ دعوته الدينية والسياسية. كل هذا التطبيع الذي كان يبدو، قبل 22 دجنبر 2020، شيئا غير ممكن، للأسباب التي عرضت، مر بسِلم وسلام كما لو كان أمرا بسيطا وعاديا.
ما علاقة هذا التطبيع بالأمازيغية، الواردة في عنوان هذه الورقة؟
أول ما يجمع بين إسرائيل والأمازيغية هو وجود ثقافة سياسية معادية لكليْهما بالمغرب. وهي ثقافة تغرف من نبْع واحد هو تبعية المغرب الهوياتية لعرب الشرق الأوسط كفرع تابع لهذا الشرق، وانتحاله الانتماء إلى هؤلاء العرب معتبرا نفسه دولة عربية. وإذا كان مفهوما أنه، لكون الفرع تابعا لأصله، فهو يعادي إسرائيل مثلما تعاديها الدول العربية التي هي في نزاع مع الدولة العبرية، فإن الإقصاء السياسي للأمازيغية هو من أجل قناع العرب أن المغرب ليس “بربريا” كما يعتقدون، بل هو عربي مثلهم، مع ما ينتج عن ذلك من أن عدوّهم هو عدوّ المغاربة أيضا كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل التي يعاديها المغاربة لأن العرب الحقيقيين يعادونها. وهذا الإقصاء السياسي للأمازيغية يرمي إلى تبديد أي تشويش على هذا الانتماء العربي للمغرب، وتقديم البرهان للعرب أن المغرب هو فعلا عربي. ولهذا ليس بغريب أن العداء لإسرائيل بالمغرب أقوى منه في البلدان العربية بالشرق الأوسط، كما تدّل على ذلك التظاهرات الضخمة للتضامن مع فلسطين والتنديد بإسرائيل، والتي لا وجود لمثلها في أية دولة عربية بالشرق الأوسط. فالعداء لإسرائيل والإقصاء السياسي للأمازيغية هما وسيلتان لغاية واحدة: التأكّد والتأكيد، والاقتناع والإقناع أن المغرب عربي، وبالتالي فإن قضايا العرب هي قضايا المغرب، وأن أعداءهم هم أعداء المغرب. وهذا ما يفسّر أن المعادين لإسرائيل هم أنفسهم المعادون للأمازيغية، الذين ينعتون الحركة الأمازيغية بالصهيونية، والنشطاء الأمازيغيين بالمتصهينين.
بالنسبة للأمازيغية، سبق للدولة أن اعترفت بها منذ ظهير أجدير، في 17 أكتوبر 2001، المنشئ للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مع ما أفضى إليه ذلك من إدماج اللغة الأمازيغية في الإعلام والتعليم، ولو بشكل ناقص وغير جدّي. ثم ستتلوها الخطوة الثانية من هذا الاعتراف بالترسيم الدستوري للأمازيغية في دستور 2011. لكن رغم كل هذه المكاسب الهامة التي حصلت عليها الأمازيغية بقرار من الدولة، إلا أن هذه الأخيرة لا زالت تتصرّف كدولة عربية تمارس سلطتها باسم الانتماء العربي المزعوم والمنتحَل، مع استمرارها في الإقصاء السياسي للأمازيغية التي لا تعترف بها كهوية جماعية للمغرب ولنفس الدولة المغربية بصفتها دولة أمازيغية في هويتها وانتمائها، تمارس سلطتها باسم هذا الانتماء الأمازيغي، بجانب ما يستدعيه ذلك من العمل على النهوض باللغة الأمازيغية بتفعيل حقيقي لترسيمها الحقيقي، مع ما يفرضه ذلك من تدريس إجباري وموحّد لها كشرط لهذا التفعيل حتى تُستعمل كلغة للدولة ومؤسساتها. النتيجة أن كل المكاسب الهامة الذي حصلت عليه الأمازيغية منذ 2001، تشكّل نوعا من التطبيع المحدود والناقص معها من طرف الدولة. أما التطبيع الكامل معها فيتحقق عندما تعترف الدولة أنها دولة أمازيغية في هويتها وانتمائها، وأنها تمارس سلطتها السياسية باسم هذا الانتماء الأمازيغي.
وإذا كانت هذه الدولة لم تقرّر بعدُ الاعتراف بالأمازيغية كهوية جماعية لها وللشعب المغربي، وهو ما سيشكّل تطبيعا كاملا معها، كما قلت، ويضع حدّا لإقصائها السياسي، فيرجع ذلك، من بين أسباب أخرى، إلى أنها لا تستطيع سياسيا أن تتجاهل قوة حضور الثقافة الأمازيغوفوبية الموروثة عن “الحركة الوطنية”، وخصوصا لدى أحزاب إسلامية وقومية لا يزال لها تأثير إيديولوجي لا يمكن الاستهانة به. ولهذا يُشبه اعترافُ الدولة بالأمازيغية في حدود دنيا تقتصر على اللغة والثقافة كتطبيع محدود وناقص معها، دون الاعتراف بها كهوية جماعية للدولة وللمغرب وللشعب المغربي بسبب الحضور القوي للثقافة الأمازيغوفوبية، كما أشرت، (يُشبه) ما كانت عليه العلاقة بين المغرب وإسرائيل قبل 22 دجنبر 2020، عندما كانت في مستوى تطبيع محدود وناقص، غير رسمي ولا علني، بسبب الحضور القوي للثقافة السياسية المعادية لإسرائيل ولليهود.
لكن الدولة، بتوقيعها الرسمي والعلني لاتفاقية التعاون والصداقة مع الدولة العبرية، انتقلت، متحدّية بذلك للمعارضين للتطبيع، من تطبيع ناقص ومحدود إلى تطبيع كامل مع إسرائيل، رغم أنها واعية بالحضور القوي للثقافة المعادية لهذه الدولة، والتي تَصِم كل من يقيم معها علاقات بالمتصهين، كما سبقت الإشارة. وبعد هذا التطبيع الرسمي الكامل، الذي كان يبدو أمرا مستبعَدا قبل 22 دجنبر 2020، يمكن القول إن نفس التطبيع الكامل سيسري على الأمازيغية، وخصوصا أن المعادين لها كانوا يُلحقونها دائما بالصهيونية كتابعة لها، كما سبق أن أوضحت. فما دام أن إسرائيل لم تعد دولة صهيونية تشكّل موضوع عداء وقطيعة، فيلزم أن ينتج عن ذلك، نظرا لتبعية الفرع للأصل، توّقفُ العداء ضد الأمازيغية التي لم تعد هي أيضا صهيونية. وهو ما سوف يجعل الطريق سالكا أمام الدولة للتطبيع الكامل مع أمازيغيتها بالاعتراف أنها دولة أمازيغية، بالمفهوم الهوياتي وليس العرقي، ورفع الإقصاء السياسي الذي ظلت تعاني منه منذ 1912. من جهة أخرى، إذا كان الحزب الذي يقود الحكومة قد قبِل التطبيع مع إسرائيل، فعليه، حتى يكون منطقيا في موقفه، أن يقبَل التطبيع مع الأمازيغية التي كان يعاديها كجزء من عدائه لإسرائيل، كما يدلّ على ذلك نعتُ العديد من أتباعه لها بالصهيونية والمدافعين عنها بالمتصهينين، كما ذكرت. ولا يمكن القول إن هذا الحزب، كما يكرّر مسؤولوه ذلك تدليسا ومخادعة للعب على حبلين كما عوّدونا على ذلك، لا زال متشبثا بموقفه المبدئي الرافض للتطبيع. فالعبرة بالأفعال وليس الأقوال. فالحزب قبِل التطبيع قبولا تاما بدليل أن لا أحد من المسؤولين الحكوميين المنتمين لهذا الحزب قدّم استقالته تعبيرا عن رفضه للتطبيع، وخصوصا أن أمينه العام هو الذي وقّع اتفاقية التعاون مع إسرائيل بصفته رئيسا للحكومة.
هناك من قد يعترض بأن التطبيع الكامل مع إسرائيل من طرف المغرب كان بمقابل الاعتراف الأمريكي بسيادته على أقاليمه الجنوبية، في حين أن الدولة المغربية لن تجني من تطبيعها الكامل مع أمازيغيتها كهوية لها رِبْحا ولا كسْبا. فما الذي سيحفّزها على هذا التطبيع؟ هذه نظرة قاصرة وقصيرة إلى موضوع السيادة بحصرها في إدراج الأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية. مع أن المغرب، إذا كان قد جنى من التطبيع الكامل مع إسرائيل الاعترافَ الأمريكي بسيادته على صحرائه، فإن تطبيعه الكامل مع أمازيغيته كهوية للدولة بصفتها دولة أمازيغية الهوية، فإنه سيكسب ليس فقط سيادته المعترَف له بها على صحرائه، بل سيستعيد سيادته كاملة على كل ترابه المغربي الذي كانت سيادته عليه ناقصة هوياتيا عندما كان يُنعت بالمغرب العربي، وهو ما يعني مغرب العرب، أي مغرب تابع هوياتيا للسيادة العربية وليس للسيادة المغربية. التطبيع الكامل مع الأمازيغية بالاعتراف أن المغرب دولة أمازيغية، هو إذن استرجاع لسيادته الكاملة على أراضيه. أقول الكاملة بمعنى أنها لا تشمل فقط الاستقلال السياسي وإنما الاستقلال الهوياتي أيضا.
ولا يخفى أن قرار التطبيع الكامل مع إسرائيل هو بداية لامتلاك هذا الاستقلال الهوياتي، لأنه قرار اتخذه المغرب في استقلال عما سيكون عليه ردّ فعل أطراف عربية وفلسطينية، اتخذه باعتباره بلدا غير عربي، ولا تعنيه القضية الفلسطينية كما لو كان دولة عربية، وإنما فقط كما تعني بلدانا أخرى غير عربية كتركيا مثلا التي تقدّم دعما هاما لفلسطين في الوقت الذي تربطها علاقة صداقة وتعاون مع إسرائيل. ونضيف أن المغرب لو استعمل الورقة الأمازيغية في تدبيره لملف صحرائه بصفته دولة أمازيغية، والدفع بالتالي أن جبهة البوليساريو تسعى إلى إقامة دولة عربية (الجمهورية العربية الصحراوية) على أراضيه لأمازيغية، لكانت حجته أكثر قوة وفعالية وتأثيرا لدى المجتمع الدولي.
وإذا كان التطبيع الكامل مع الأمازيغية بإعلان المغرب أنه دولة أمازيغية في هويتها وانتمائها، وتمارس سلطتها باسم هذا الانتماء، يبدو أمرا شبه مستحيل في ظل هيمنة النزعة الأمازيغيوفبية بالمغرب، في صيغتيْها المتأسلمة والمتياسرة، فإن قرار التطبيع الكامل مع إسرائيل كان يبدو، هو كذلك، أمرا شبه مستحيل في ظل هيمنة العداء لإسرائيل لدى نفس التيارات المعادية للأمازيغية. ومع كل ذلك فقد تقرّر التطبيع الكامل ودخل حيز التطبيق كقرار صادر عن الدولة، متجلية في سلطتها العليا، وليس الحكومة ولا البرلمان كسلطتين صوريتين فقط. ونعرف، في المغرب، أن ما يصدر من قرارات عن السلطة العليا للدولة، لا تملك ما دونها من سلطات إلا التأييد والإقرار والموافقة. ولهذا إذا أعلنت نفس السلطة العليا أن المغرب مملكة أمازيغية، فستسارع أعتى الأحزاب الأمازيغوفوبية إلى الترحيب بالقرار ومباركته واعتباره قرارا وطنيا وتاريخيا يخدم المصالح العليا للوطن. وهذا ما رأيناه بخصوص قرار التطبيع الكامل مع إسرائيل الذي وافق عليه، فعلا وليس قولا، أعتى حزب معادٍ لإسرائيل وهو “البيجيدي”.
ولهذا عندما نقول إنه لا يمكن وضع حدّ للإقصاء السياسي للأمازيغية إلا بقرار سياسي، فالمقصود بهذا القرار السياسي هو هذا الذي يصدر عن السلطة العليا وليس ذاك الذي يصدر عن البرلمان والحكومة رغم أهميته التي لا تُنكر. لكن السلطة العليا بالمغرب، ورغم أنها تتخذ قراراتها بشكل قد يبدو انفراديا وتحكّميا، إلا أنها، كسلطة سياسية، تأخذ بعين الاعتبار دائما، كما سبق توضيح ذلك، مواقف الأطراف السياسية الأخرى المؤثرة، أحزابا كانت أو تيارات دينية وإيديولوجية. ولهذا فإن تراجع النزعة الأمازيغوفوبية عند التيارات والأحزاب المناوئة تقليديا للأمازيغية، كنتيجة لتراجع العداء للسامية بعد التطبيع الكامل مع إسرائيل، هو شرط مطلوب لانتقال الدولة إلى السرعة القصوى في ما يتعلق بالتطبيع الكامل مع أمازيغيتها بالاعتراف بالأمازيغية كهوية لها تمارس سلطتها باسم انتمائها الأمازيغي، وهو ما سيُنهي الإقصاء السياسي للأمازيغية. والاعتراف الكامل بإسرائيل كدولة صديقة يرفع الحرج عن الدولة إذا ما قرّرت الاعتراف الكامل بالأمازيغية كهويتها الجماعية بصفتها دولة أمازيغية، ولا سيما أن المعادين للأمازيغية كانوا دائما هم المعادون لإسرائيل والرافضون للتطبيع، كما سبق أن شرحت.