أولا: المشهد العمراني الامازيغي: جدلية البناء والخراب.
وانا عائد من مقر عملي في اتجاه مكان سكاني لمواصلة ما تبقي من ساعات يومي في الحجر الصحي بسبب تداعيات جايحة كورونا المسببة لمرض كوفيد 19، وبينما تتناوب رجلاي على مكابح مركبتي قصد تكييف سرعتها مع إشارات المرور والوقوف امام إشارات الضوء الأحمر وعلامات قف التي تسبق السدود القضائية الكثيرة التي وضعتها السلطات الأمنية بين مدينتي الرباط التي يوجد فيها مقر قناة تامازيغت ومدينة سلا التي اقطن فيها.
لمست اصابعي مكبس تشغيل آلة الموسيقى بشكل لا شعوري فاذا بصوت الفنان المبدع وفيلسوف الموسيقيين الامازيغ يصدح من مكبر الصوت الداخلي قائلا “الجنْت أتكَمي يان الجنْت.. اتكَمي يان…” إلى اخر هذه الرائعة الخالدة من روائع الغناء الامازيغي السوسي الذي ينتمي لتراث فن الروايس والثي أبدعها الرايس محمد السوسي والتي عمل على تسجيلها بين سنتي 1924-1925 في دار باته (Pathe) حسب مبدعنا الذي عمل على إعادة غنائها وتوزيعها بشكل جذاب وشهي وحديث باستعمال آخر ما ابدعته الافئدة الموسيقية في العالم الحالي…
كلمات هذه الاغنية اصابتني في مقتل وانا الذي أعشق حثى النخاع بيت عائلتنا في البادية السوسية الجميلة الهادئة والتي لم أكن أتصور ان أغادرها يوما ما في حياتي، وان تحكم علي مقادير الزمان بمغادرتها والانتقال بعيدا إلى أزغــــــــــــــار بمفهومه التاريخي الذي يرادف مصطلح الغرب في أيامنا هذه مرغما لمواصلة مشوار الحياة. ففي لحظة شرود نوستالجي هذه قررت ان اكتب على تدارت أو البيت بوصفها فضاءا أنثروبولوجيا متعدد الاختصاصات والمهام.
فمالمقصود بالبيت في الثقافة الامازيغية؟ وما هي خصوصيات المشهد العمراني الامازيغي؟ وكيف يبدو بالمقارنة مع المشهد المديني؟
يبدو ان البيت استطاع على الدوام ان يفرض على البحوث التي تناولته ان تمزج في تناوله بين الروايات الشفاهية والمصادر المخطوطة المنشورة او غير المنشورة واخواتها المكتوبة، كما امتدت جاذبيته ويده الطولى إلى أنواع أخرى من البحوث وخاصة تلك المتعلقة بعلم الاثار الذي يعتمد على التنقيبات والحفريات الاثرية المتسمة بدقة متناهية في اشتغالها وبوسائل وآليات بحثية وتنقيبية في غاية التطور والتقدم، كما نجح كذلك في استقطاب انظار المؤرخين على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم البحثية والمنهجية.
كل هذا جعل من البيت بلا منازع نواة التقاء جميع أنواع العلوم ونخص بالذكر هنا العلوم الإنسانية والحقة على حد سواء، ومن هنا يمكن ان نجمل القول ونعتبر تدارت بمثابة نقطة انطلاق كل الاعمال المرتبطة بالانتروبولوجيا التي درست المجتمعات الإنسانية على مر العصور ومن هذا المنطلق كذلك يمكن اعتباره بلا ريب حصيلة جميع الاعمال في كل الميادين بما فيها تلك الأكثر شمولية.
فالبيت اذن شكل على الدوام موضوعا دسما لحقلين معروفين في العلوم الإنسانية ويتعلق الامر هنا بعلم الاثار وفن العمارة، هاذين العلمين وفرا مادة كبيرة اشتغل عليها باحثون آخرون ينتمون إلى حقول معرفية مجاورة بما فيها التاريخ والأنثروبولوجيا التي عملت على دراسة القصور الفاخرة والمنازل المتواضعة وما فوقها وما دونها قيمة والتي تسمى في العرف الامازيغي “بالخربة” او “إخروبان”.
وفي هذا الإطار جاءت العديد من الخلاصات التي أعقبت الكثير من الدراسات، فبساطة نمط حياة السكان تحكم على الدوام على العمارة ان تكون متواضعة نتيجة نمط اقتصادهم الذي يوصف عادة باقتصاد الندرة والذي يفرض عليهم تبني سياسة التقشف في تسيير وصرف مصادرهم المالية والعينية ، وفي هذا الصدد فقد فازت تقنيات بناء البيوت والاعمال الخاصة بها بقصب السبق فيما يخص حصص دورات الاقتصاد المغلق الذي كان المجتمع الامازيغي يعيش في ظله. وسيطرة بالتالي على معظم البحوث والدراسات في وقت من الأوقات.
فما هي خصائص العمارة السكنية هذه؟ وكيف يبدو مشهدها العام؟
يبدو ان مشاهد الخراب تعتبر مشاهدا مألوفة في المشهد العمراني الذي نتحدث عنه هنا. كما انه يشكل جزءا كبيرا من ملامح الاحياء او “isunan” الامازيغية فالدروب والحارات في هذه التجمعات تعطيك انطباع انك امام حالة خراب عامة. ولكن الحقيقة العمرانية ليست كذلك رغم انك لا تسطيع ان تميز بين الاحياء الاهالة بالسكان وتلك المهجورة بشكل كلي بحيث انك لا تستطيع ان تحس بان هنالك حدود بين المكونين. وبطبيعة الحال لن تكتشف متى غادرت جزءا لتلج الاخر… عبقرية عمرانية بمعناها الخلدوني تجعلك تعيد النظر في مفهومي الخراب والبناء بشكل لا شعوري حاسم….
هذه المعادلة تبدو عادية بالنسبة لقاطني هذه الاحياء ولكنها لا تبدو كذلك بالنسبة للذين لم يألفوها وخاصة الباحثين فهذه المشاهد اتارت فضولهم بشكل قوي وخصوصا إذا اخدنا بعين الاعتبار امتداد هذ الظاهرة في المدن المغربية التي نجدها بدورها تعرف تجاورا لهذين النمطين العمرانيين بشكل سلس.
هيمنة مشاهد الخراب ليست حكرا على النسيج العمراني للبوادي المغربية بل نجد له امتدادا في الحواضر فالنسيج الحضري المغربي الذي هو وريث سابقه البدوي-من البادية- ظل وفيا لتقاليد سابقه كما ظل وفيا كذلك على مر العصور لخصوصيات النسيج العمراني السابق عليه. واحسن نموذج عن صدق قولنا هذا هو ما نشاهده يوميا في المدن المونوبولية المغربية مثل فاس وسلا ومراكش وماست وتطوان وغيرها من المدن التي يتجاور فيها النمط المعماري القديم الذي يغلب عليه الخراب إلى جانب نمط معماري جديد يحمل سمات الصلابة والزخرفة الاسمنتية…. كل هذا جعلنا نؤمن بفكرة أساسية مفادها ان المشهد العمراني المغربي الحديث او المستحدث لم يستطع ان يتخلص بشكل كلي من ارث الماضي العمراني المغربي القديم ولذلك أسباب ومسببات سنأتي على ذكرها.
هذا الموروث المعماري الصامد امام عوادي الزمن وامام كل هزات الحداثة التي اصابت البلاد جراء قيام الحماية الفرنسية عليه إلى حدود 1956 تجعلنا نصفه بالمشهد الممانع او المنفلت من أسباب وعوامل بل هو وفي لإرثه القديم.
قد نجد تفسيرا عاما لاستمرار هذه الظاهرة في التاريخ ومنها على الخصوص زحف البدواة على المدينة المغربية زمن المرينيين، هذا الزحف أعاد عقارب عداد الحضارة المغربية إلى الوراء بحكم طبيعة اختيارات الحكم المريني والمتسمة في غالبها بالعشوائية والفاقدة للياقة الحضارية بحكم استحكام البداوة على تفكيرهم. وقد جرت العادة على وصف هذا الزحف بالديموغرافية السياسية المتحركة من الصحاري في اتجاه المدن، كما نعثر كذلك على نوع آخر من الديموغرافيات والتي جرت العادة على تسميتها بالديموغرافية الدينية وأحسن نموذج لها هو محاصرة الزاوية الدلائية لمدينتي الرباط وسلا وخاصة قصبة الأوداية من اجل حسم قضية مسلمي الرباط….
من ناحية أخرى فالأحياء العتيقة في النسيج العمراني المغربي يمكن ان تكثف لنا بشكل دقيق للجدلية الحاصلة بين العمران والخراب فمن ناحية أولى نسجل ان هنالك تضاد وانسجام بين النمطين؛ ففي الوقت الذي يصيب فيه الخراب جزءا من حي سكني ويحكم عليه بالاندثار والاختفاء من الصورة العامة للنسيج العمراني، يتم تشييد بجواره احياء سكنية أخرى جديدة ولكن مع الحرص على الإبقاء على مشهد الخراب في النسيج السكني الجديد؟؟؟ ويترك الحي المخرب على حاله ذاك لسنوات طوال، وبعدها يشرع في إعادة بنائه من جديد ولكن بعد ان يمضي على خرابه عقود طويلة من الزمن. والسبب في ذلك راجع إلى التقشف الذي يطبع الدورة الاقتصادية المنغلقة للمجتمع الامازيغي والتي توصف اقتصاداته على مر الزمن بكونها اقتصادات تذبير الندرة.
هذه السياسة تعبر في واقع الامر عن نباهة مخترعيها وتنم عن عقلانية كبيرة في ترشيد النفقات وتسيير الميزانيات، فبناء مسكن جديد اهون ماديا و أرخص ماليا من اصلاح الذي أصابه الخراب بفعل عامل من عوامل الطبيعة او نتيجة لتدخل بشري كالحروب مثلا…. وغارات القنابل على بعضها البعض في ازمنة سياسية وتاريخية محددة.
كما نجد تدخلا للميتولوجيا في عمليات إعادة البناء والإصلاح فعمليات البناء والإصلاح هذه الميتات تستحكم فيها خلاصات عوالم الميثولوجيا التي تشكلت في المجتمع قبل ظهور الديانات السماوية والتي لها دور كبير في اهمال البيوت المخربة وعدم الاقدام على إصلاحها من طرف وارثيها او ملاكها الأصليين والسبب في ذلك راجع إلى مقتضيات ميثولوجيه والتي مفادها ان كل بيت او حي سكني مهجور لمدة من الزمن يصبح مسكونا من طرف اساطين الجن وعتاته، هذا الاعتقاد الراسخ في ذهنية الانسان ضل مستمرا إلى يومنا هذا ولو بشكل من الاشكال، فإلى يومنا هذا يحطاط الانسان من الاقتراب من المنازل المهجورة مخافة ان تصيبه الأرواح الشريرة التي تسكنها بسوء. وهذا ما يفسر كثرة الدور السكنية المهجورة في البوادي وبعض المدن المغربية.
هذه القضية تناولتها النوازل الفقهية بإسهاب كبير واصدر فيها الفقهاء الكثير من الفتاوي والاحكام؛ وذلك موضوع آخر…
كل هذا لا يعني ان حياة اجتماعية وثقافية واقتصادية متكاملة لم تنشأ في البادية المغربية وفي احياءها، بل على النقيض من ذلك فكل المؤشرات والدلائل تؤكد قيام حضارة رفيعة وعالية في البادية المغربية على مر العصور التاريخية، فالباحث في المواضيع من هذه الطينة سيكتشف لا محالة وجودا فعليا للحياة وقيام إيجابي لحضارة بشرية عميقة بل وممتدة في الزمكان الذي عرف استقرارا كبيرا منذ الالاف السنين قبل الميلاد.
ولكن المفارقة هنا هي ان المشهد العمراني العام يوحي بأشياء غير حقيقية سرعان ما تتغير وخصوصا إذا عملنا على البحث في تفاصيل المسكن الامازيغي او البيت بتعبير ادق. فمستويات تنظيم الحارات وتقنيات البناء والمواد المستعملة في بناء البيوتات وتفاصيلها المعمارية وتصاميمها كلها عناصر تؤكد ما ذهبنا اليه من قيام حضارة راقية ورفيعة في هذه الربوع، هذا الرقي يتجسد في احترام المظهر العام والذي يراعى فيه عنصر التجانس من الناحية المورفولوجيا، كما ان هنالك حرص على احترام وحدة التصميم مع توظيف نفس مواد البناء واستخدام نفس التقنيات.
كما انها تشترك في نفس التفاصيل المعمارية. فعمليات تشييد الدور السكنية والاحياء بصفة عامة يراعى فيها ان تكون من طراز واحد والذي تتحكم فيه بدوره العديد من العوامل ومنها العامل الايكولوجي والذي له في نظرنا أهمية قصوى ومن هنا توجه الانسان إلى تكييف مسكنه مع عناصر ومكونات محيطه الحيوي. كل هذا يعبر عن تكيف الانسان مع طبيعة مجاله الجغرافي ونجح فعلا في ضبط محيطه العام.
هذه الظاهرة تعتبر من ناحية أخرى ظاهرة ممتدة في الزمن وقناعتنا انها لم تنشأ هكذا بشكل فجائي او عرضي في التاريخ. انها اذن خلاصة تجربة صراع الانسان مع الطبيعة فالمسكن الصحراوي ليس هو مسكن الجبل ومسكن الجبل ليس هو مسكن السهل وهذا الأخير يختلف مع نظيره في السواحل.
في الجزء الثاني من هذه المحاولة سأتحدث عن العناصر المكونة للمسكن أو البيت الامازيغي.
صحفي وباحث في التاريخ*