‘‘نوميديا’’ تنفض الغبار

بقلم: حمو بوشخار

رواية نوميديا لطارق بكاري [1] منحت للمكون الامازيغي مكانته المغيبة في ما يسمى الادب المغربي المكتوب بالعربية، وانتشلته من نرجسيته، المتمثلة في الكتابة باللغة الواحدة-الفصحى، وفي أحسن الأحوال، إضافة مقاطع بالدارجة، كنوع من التطبيق لما كتبه باختين بخصوص البوليفونيا في الرواية، وكأن رؤوس الروائيين ضيقة لاستيعاب التنوع اللساني والامازيغي بالأساس الذي يعرفه المغرب، حتى لا يجد ترجمة لحضوره الساحق [2] في مكتوباتهم، مع استثناءات تظل في النهاية مهمشة.

 بهذه الرواية يكون قد فسح المجال لإرث الامازيغ الذي طال طمسه في كتابات عروبيي المغرب، حتى يطل بقامته [3] وقد انفلت من عقال التواطؤ الذي يهدف الى ربط الهوية الامازيغية بالطلل الذي ينتظر من يرممه [4]، ساعيا بذلك الى تكريس هيمنة الجسد الثقافي الرسمي [5]، وكأننا ما نزال قبل دستور 2011، صحيح انه لم يتخلص من عاداته القديمة بعد بالحجر على القانون التنظيمي لدسترة الأمازيغية، لكن آن الأوان لفضح الاستمرار في الاحتلال. وعلى العموم فمن يملكون السلطة النقدية في المغرب ’’يستمتعون أو بالأحرى يستطيبون جهلهم‘‘ [6] بالثقافة الأمازيغية.

 الفعل الذي يدشن افتتاح الرواية هو فعل العودة، عودة أوداد الى اغرم، المكان الذي ترعرع فيه، قبل ان تقوده دورة الحياة الى المدينة التي ستكون عنوانا على نوع من التغريب والتهجير القسري الرامي الى مسح ومسخ هوية المدفوع الى التنازل وكذا التخلي عن الأرض ؛ عودة أوداد الى مكان طفولته كان باستغلال اعلان عن وجود فندق في المزاد، فكانت المناسبة التي اعادته الى رابطته القديمة، إلى إغرم. القلعة او الخزان بحسب المعنى الأولي الذي تداوله المجتمع اﻻمازيغي [7]؛ الرواية تطفح بالحزن والجنس، كما تكتب الخيبات التي توالت على النوميدي، من جهة الشرق، ممثلا في الفقيه-السلطة، ومن جهة الغرب، الممثل في جوليا التي سعت الى سرق روحه “بعدستها اﻻبداعية”، لتعرضها في كتاب تخييلي، قبل أن تقر بفشلها في النهاية؛ يطارد النبذ أوداد النوميدي من كل الجهات، تجربته مع الفقيه وجوليا، تتكرر مع نضال، التي تمثل القوى الحية في البلاد. سألها : أأنت أيضا تظنين أنني مريض ؟ ليدرك أنه مع استهداف قواه العقلية، استقلاله هو المقصود، فبات لا يملك ما يعتمد عليه سوى نفسه، مادام الجميع رهين حسابات ضيقة؛ بل ونوميديا التي أسرته طويلا تبدت أنها ليست غير وهم، بالرغم من تمنيه ان تكون من لحم ودم. لتظهر الأشخاص والأشياء في رواية نوميديا أنها تحمل أكثر من وجه، تماما كشخصية أوداد، الذي سيعيش مع آخره مراد، وكالقلعة التي إذا نظرنا اليها من أعلى كانت بشعة ومن أسفل جميلة.

عودة أوداد هي في مستوى عودة من الاغتراب، الذي عرفه أثناء اﻻنتقال الى المدينة، يخبرنا ان اسمه اﻻول كان اوداد، الذي يعني الوعل في اللسان اﻻمازيغي، لسان العشيرة الذي وجد نفسه ضمنها، وهي التسمية التي تم تحريفها كي تصير مراد، حين سأله الشخص الذي سيكون له سندا في المدينة، ما اسمك؟ – أوداد، هل هذا اسم ؟ – طبعا. ومع ذلك يدخل تحويرا على اسمه خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن يعمل في الداخلية، وهو التدخل السافر الذي يؤكد لعنة استبدال اﻷسماء اﻷمازيغية بل ومنعها، وهي الواقعة التي لم تكن بالمعزولة، ولا الاستهانة بها، فيما يكتب صاحب : العقل في التاريخ؛ اقول انها الواقعة التي ترسخت سياسة رسمية تسري على السكان اﻻمازيغ في المغرب، إذ ابتلت وزارة الداخلية باصدار لائحة بالاسماء المسموح للأمازيغ استعمالها، وهي السياسة التي وجدنا لها صدى في رواية الطلياني، للروائي شكري المبخوت ، مع شخصية زينة، الفتاة المناضلة، والتي تسميها عائلتها ‘‘ توناروز’’ [ وتعني الأمل بالأمازيغية] الذي ألغاه العهد البورقيبي للسكان الأمازيغ في تونس، وﻻ تسأل عما جرى معهم في الجزائر [8] أو ليبيا التي حولت الى مزرعة عربية؛ لقد شملت سياسة التعريب المشؤومة مجموع شمال افريقيا. يقبل السارد باسميه، كعلامتين لجرح واحد. زد أنه يمتنع عليه اﻻحتفاظ به كسر. مع اقراره ” أنا لقيط، أنا (ولد الحرام)”، يكون قد خطا كثيرا في التخلص من الاستلاب الذي يعدمه.

لن يتخلص أوداد من غربته الأولى، إذ سيظل ذلك الطفل الذي تم تبنيه يوم ﻻ يزال في قماطه، لقد عثر عليه امحند في ممر لم يكن من عادته العبور منه، وكي ﻻ يبقى حائرا فيما قد يلاحظه من تمييز بينه وابناء امحند كان مضطرا ليزف له بالمعلومة الدامية. أنت لست ابننا. اي انه محكوم ببقاء ذلك الدخيل البريء، مادام لم يأت باستعمال القوة، لكن القسوة التي سيختبرها من نساء البيت الذي آواه، قادته الى تبن ثان، من قبل رجل لم تنجب له زوجته ابنا، وكان الجحيم ما ينتظره هناك مرة أخرى؛ بالرغم الترحيب الذي وجده في كنف اسرة امحند، فثمة صورة عميقة تصادفنا في هذا المقام، وهي المتعلقة بحركة ابتلاعه بواسطة السلهام المعتبرة كاستحسان لمجيئه وقبوله واحدا من ابنائه. اصرار امحند على تذكيره بأنه منهم ولكن ليس من دمهم، يرسم له الحدود التي يبقى عليه التنقل فيها، والمهدد من جانب آخر على مغادرتها؛ والرواية تكتب هذا الخروج من الواقع، مع البقاء في الحكاية من جانبه، مادام العائد سيكتب سيرة الأشخاص الذين نشأ بينهم باعتماد التذكر في الغالب والتفرج في الناذر، ﻻنه حين وقف امام البيت الذي تجلس عند عتبته زوجة امحند، التي كانت تقابله بالمقاطعة إن لم تحث زوجها على ابعاده، إذ أصبح نذير شؤم معهم يهدد القرية بآخرها، ظل متخفيا ومتمسكا بعدم كشف هويته، لما استفسرت عمن يقف امامها، بعد ان صارت عاجزة عن النظر، فكان الانسحاب بصمت وهو نهب ذكريات معيشه الطفولي بإغرم الذي جعل منه لقيطا، ما دام قد تم التقاطه من الطريق التي هجر فيها ودون ان تترك معه أي علامة، فيبقى سرا مكتوم النسب؛ زوجة امحند اتبعت معه الحياد ولم في موقع من سيدافع عنه امام من يظلمونه، والطفل هنا عاجز عن ادراك أن الزوجة نفسها دون سلطة تذكر أمام هيمنة حماتها، حتى تعمل على حمايته؛ اذا كانت تسمية اللقيط لطيفة شيئا ما، لأنها آتية من سجل ثقافي مغاير، العربية الفصحى، فهي ليست بنفس الحمولة التي تناديه بها ام امحند، إذ ﻻ تكف عن تذكيره بأنه  ابن زنا [ئشني في لسان الامازيغ] لتخلي أهله عنه. الضغط النفسي الذي اوصلته اليه هذه الجدة السمراء دفعه الى حافة الموت حين فكر في  رمي نفسه من أعلى راس جبل، لكن ارادة الحياة كانت أقوى، وجعلته يفهم ضرورة ايجاد طريقة مغايرة للتفكير الذي حمله لليأس كي ينهي حياته، ويعي أنه أعزل وليس له أحد في الحياة. تعذر معرفة اصول أوداد شرعت الباب للخرافة وللحكم اﻻخلاقي، ذهب فقيه القرية الى ترويج انه نتاج تزاوج انسي بجنية، فيما نعتته الجدة بابن زنا، في حين هي تدرك انه ضحية تمرد على الشرع، ﻻنه نتاج متعة يحرمها وﻻ يقرها، ما لم تكن رسمية وبحضور فقيه يزكي جماعهما. هذا اللقيط هو مجهول وملغز، ما دام يحتفظ بأسرار غير معلومة عند من يتواصل معهم.

الرسالة الخطية التي توصل بها تنعته بالغريب الذي قادته الصدفة الى أحضانها. التسمية احيانا هي فائضة كونها غير مناسبة، فهنا نضال تعود الى حبها اﻻول، مما يفترض وجود ارضيات توافق سابقة ومستهلكة تساعد على التواصل من غير مقدمات، على عكس الغريب الذي صادفه في المقهى بلحيته وجواربه الطويلة حد الركبة، وأيقظ فيه مخاوف اعتقد انه تخلص منها. الغريب في نوميديا مستويات، الرجل الذي أتى ليأخذه معه الى المدينة كان غريبا بالنسبة له، اﻻ انه حين تطلع الى وجهه حملته قوة على تصديق قوله، والتصديق هنا خطوة أساسية ﻹلغاء الغربة، وطريق الى صداقة ما قادرة على نقل الغريب الى شخص أليف. الغريب مهدد في وجوده، اذ جميع اﻻدعاءات واردة لتبرير التخلص منه، نجد على رأس هذه الفئة الكائنات المتهمة بالمس والجنون، والرواية تصور اماكن وجودهم ﻻ في المصحات العقلية وانما في المزارات وفي الأضرحة، والفقيه هو من يعتني بهم، واعتناؤه مريب، جراء التعامل الخشن الذي يكون من نصيب الواقعين في الغربة، ﻷنهم يربطون بحبال الى الشجرة ﻷيام وبجفاء، مع تدخلات الفقيه حتى يعيدهم الى حظيرة البشرية، وامام هذه الوضعية ليس لمراد إلا التساؤل ان لم يكن المجانين هم العقلاء والفقهاء هم المجانين.

أوجه القصة: الوجود اﻻنثوي في عمل طارق بكاري يشبه الذي تحتله في الف ليلة وليلة، انه خصب. إذ تتقاطع فيه حياتات عدة نساء بحياة رجل واحد. واحدة تغيب عنها لفترة طويلة، وحين ضاقت من فضيحة الحمل وضعت حدا لحياتها، واحدة جمعته بها ظروف النضال ايام دراستهما الجامعية في ظهر المهراز، واخرى صادفها في الجامعة، جاءت لتحرير بحث سوسيولوجي حول الجنس في الشرق، والذي يبدو انه كان كذبة، ما دام قد أخطأت الوجهة حين قدمت الى المغرب لتبحث عن الشرق، وهذه مفارقة تعود للتعميم ولا تزيد عن ادعاء، من اجل التقرب للشخص الذي تود اختلاس سيرته في محاولتها المسك بخيوط قصة حياته لعمل تخييلي لكونها روائية. الحياة التي عاشها مليئة بالنساء، وأنهن لن يلعبن دورا تعويضيا ما عن الحرمان من عاطفة الامومة، هناك أم محند وزوجته، وصفية التي لم تنجب ابنا، مع ابنتيها، دون نسيان الفارسة نوميديا ووصال التي ائتمنتها خولة قبل انتحارها على المذكرات التي تركتها لمراد، وتبقى اللائحة مفتوحة.

التعدد الذي يسم القصة بطابع الازدواجية متأصل فيها بما تكشفه من تعدد الوجوه عند الواحد، جوليا التي جاءت لتبحث في الجنس في الشرق تكشفت انها روائية في حالة بحث عن مادة لروايتها، الرجل الذي التقت به وهو استاذ جامعي، يريد التصالح مع نفسه، يبقى مصرا على التمييز بين شخصين في نفسه، فهو حين يحدثها بصيغة الغائب عن أوداد، انما يحكي عن آخره، بما انها تعرفه كمراد، وتواصل التظاهر بانها تجهل حكايته، ولو انه يوجد في حوزتها ملفه الطبي الذي اشترته من طبيبه النفسي د. بنهاشم. وعي الذات يمر ضرورة بالخروج منها، ووجود على مسافة منها، الشيء الذي يجده السارد بشعا، حين يتعلق ذلك بإفتاء حكاية الذات، لأنها توهمه بغياب صلة به، يساهم فيه اعتماد ضمير الغائب. عمل نوميديا يقوم على حقيقة كشف وإخفاء الملف الطبي، فالسر المفترض حفظه هو ما يعمل نص الرواية على كتابته. واقعة بيع طبيب مغربي ملف مريضه، ﻷجنبية فرنسية تبحث عن موضوع مغربي لروايتها، تنسف كل أخلاقيات مهنته، وتكشف عن استمرارية تبعية قديمة. الوجوه تهم طبقات المعنى التي تنهض عليها رواية نوميديا التي تكتب حكاية الشخوص عموديا أي في اطار استقلالية ما، وأما أفقيا فيخص استعارية هذه الشخوص في إحالتها لما هو أعمق؛ جوليا كوجه امبريالي، نضال كوجه تقدمي معطل، الفقيه بعنفه كوجه شرقي متسلط، نوميديا المملكة الامازيغية المعوقة، مراد كوجه عن تمزق النوميدي بين الشرق والمغرب.

اسطورة اغرم: تعني إغرم في تمازيغت القلعة، التي ستتطور الى تجمع سكني او قرية، كالتي غادرها مراد الى المدينة، قبل ان يعثر على مبرر يعيده اليها، وكأنه يلبي نداء مزار أو ضريح وواد وشاي ودخان فرن الخبز بل وأهازيج أصيلة ﻻ تني في اختطافه؛ غير ان إغرم التي تجثم على جبل عياش، هي ككل المدن تقوم على اسطورة وضع لبنتها اﻻولى أول معمر استقر بالمنطقة، بإقامة قلعة ممنوع على الأهالي بلوغها لوجودها في مكان وعر، وهذا الاستعصاء هو الذي مكنه من زرع الرعب في الأهالي بتحوله الى قناص ينتقي طرائده من سكان إغرم، مكتفيا بضحية كل يوم، بهذا العمل يعكس عمل شهريار اذ كان يختار ضحاياه من الرجال كما لو كان يهدف الى قطع نسل اهل إغرم، وهنا نصادف تدخل شيخ إغرم سيدي موسى كحكم ووسيط [9]، للتضحية بابنه سيدي عيسى بعد مفاوضات مع القناص، اﻻ ان اﻻتفاق تم خرقه، لينتهي بهما المطاف الى قبور ستتحول أضرحة، لتذهب التضحية حليبا ارهقته الماعزة، كما قد يردد آيث إغرم، اﻻ ان ظلم الذي يصفي سكان إغرم لم يدم طويلا، إذ هوى به جزء من قلعته، لينتهي في ردم أسفل الوادي، لتنزل الراحة على إغرم  باجابة ماكرة عرفت بالحتمية التاريخية بالقول: ان تاريخ الظلم قصير. إغرم نقيض المدينة التي ابتلعته، لم يسميها واقصر على التلميح لها إما بإقامته فيها للدراسة أو بحدث التفجير، عكس إغرم التي اعادت له توازنا افتقده بالرغم من المحن التي عركته.

المقام : علامة على قبر ﻻ يضم جثة الولي [10]. عكس مقام الرواية، الذي يضم قبره جثة سيدي موسى، والضريح ليس شيئا آخر غير بيته الذي شمل شجرة تين كانت محط عناية من جانبه، ليتحول المنزل الى وجهة يعلق ” فيه زواره احزانهم وأمانيهم، وكذا مناديلهم وأشياء منهم “. هذا التقليد القادم من عصور سحيقة، يتكرر في كل المقامات الموجودة في المغرب، والتي يعلق فيها الحجاج حروزهم- رقياتهم، ويهجرون فيها بعضا من ملابسهم، ” التي تجسد اﻵﻻم التي يبحثون على التخلص منها نهائيا”[11] .

بؤس التعايش: أينما وجدت ثقافة ما رعاية من الدولة، مقابل أخرى متروكة للتلف، ما لم يقصد الى إبادتها بمنهجية دقيقة وأحيانا بتواطؤ مع مثقفين؛ سيبقى القول بالتعايش هشا، والإذلال واقعا يوميا، تلاحظه في سلوك من التحقوا بعد الأصليين، على غرار أولئك الذين يراقبون تنقلات آيث مرغاد، كونهم رحلا في حالة سفر دائم، لتسجيل طرق تنقلهم وهيئاتهم قصد التفكه بها امام اﻻخرين. معيدين بتصرفهم الساخر نوعا من الهيمنة المغشوشة، كونها ﻻ تزيد عن ببغاوية باهتة، ساهمت الثقافة الرسمية في تكريسها، ﻻن الساخرين في النهاية هم جزء من هذه الذات التي تتم بخسنتها بكاريكاتورية.

التعايش مسألة تتعلق بوجود آخر، بالنظرة التي يشيعها عنه، وما يراه مقابله؛ نقرا في الرواية ” بعد اختفاء مراد، فهمت ان الرجل الشرقي فيه شيء من شهريار، لكنه ليس نسخة مشابهة له، وفهمت … ان التعميم تعسف ينتج عن اﻻعتداد باﻻنا الجمعي”. اﻻخر سيكون مجال اﻻلتباس المستمر، فهو مهما حاول الوضوح لن تتأخر في أن تعلو مرآته الصدأ، هذا فضلا على ان التصورات مطاطة جراء ما تتعرض له من اسقاطات. فجوليا تبحث فيه عما يقنعها فيه، نحو أن ترى فيه أنه غير مؤمن بعبث البعث، اﻻمر الذي تصيدته من فيه لحظة هذيان، ” ﻻ يهمني ما وراء الموت”، وبالرغم من هذا اﻻنتقاء الذي يمنح الواحد الحق في اختيار أصدقائه، تعي خطورة التصورات اﻻمبريالية التي توجه المرء دون وعي منه بأنها تستلبه، “بفعل تكريسها في أذهاننا”  كما تقول عن اﻻوروبي، ولم ينفعها احترازها من التعميم، إذ لن تتأخر في ان تقع فيه، حين تصنف مراد كرجل شرقي، ومن خلاله تحاول استنطاق الشرق، وهي المحاولة المعرضة للفشل من البداية؛ وللخروج من هذا الفشل يلزم الخروج من التعميم، لكونه يكرس اقصاء حقوق قوميات أخرى واقعة تحت هيمنة ايديوجية، تحشر الجميع في الشرق، بدﻻ من ان تأخذه كيف هو، من دون تزوير او تزييف، لكن التعايش يبدأ حين تجهل عنف رد اﻻخر الشرس، فيتم اللجوء الى قبوله عن مضض؛ التعايش هو حرب مع وقف التنفيذ، جراء ميل طرف على الدوام الى اﻻنفراد بالتوجيه. نظرة الآخر فيما يخص المغربي تظل تقزيمية، ﻻنبنائها على تمركز متسلط يجهل ما هو التساؤل، ومكتفيا باسقاط تصنيف الشرقي عن ما لا يوجد في الشرق، نظرا للتمايز الثقافي الذي يجعل منه أمازيغيا، ويقيم في المغرب الكبير بشمال القارة اﻻفريقية.

الجنس كهبة : ﻻ يمكن للعالم ان يتفادى التسليع مادام وجود العمران يقوم على تبادل غير عادل للخدمات، ليبقى العيب في وجود التفاوت الذي ينشأ بالاستغلال الفاحش، فتترتب عنه القسوة كالتي ستعانيها حياة في عيشها ومسكنها البئيس الذي تعجز شمعة واحدة عن اضاءة وجوه زبنائها المتعثرين في حظها التعيس والممزق. اللقاء بالمرأة أو الحب هو عثرة حظ معجونة بقليل من القبل وعروض تقاتل وبكاء، كما فعلت جوليا حين قصت لمراد هروب أبيها إلى حب قديم، وهي لحظة البكاء التي رأى فيها تخاذﻻ منها، وكأن قدر الدمع أن يقترن بالضعف، في حين هو تملص من ثقل متعب. اللقاءات في رواية نوميديا أقدار متعثرة وفاشلة. تبدأ بالتواطؤ وتصطدم بتراجيكوميديات. مع خولة انتهى اﻻمر بالانتحار، مع نضال كان الانفصال رومانسيا إذ انتهى بدموع تحت المطر، ولو ان مراد اعتبره فراقا تراجيديا، مع جوليا كان الفراق على ايقاعات راقصة في انتظار احتضار مراد. اﻻرتباط بنضال على خلفية علاقة سابقة سيكون عطاء من غير حساب وﻻ دفع فواتير. ستكون العلاقة تعويضا عن فقر أو هجران مؤقت، ﻷن الواحد ﻻ يمكنه ان يوجد في آن مع زوجة البيت وعند زوجة الماخور، الجميع اليوم يريد الاقتران بامراة من القرية وبعاهرة في المدينة [12]. نضال لما عاودت اﻻتصال، بتحفظ ﻷنها انفصلت عنه لمدة، رجته ان يقبل بها على كونها مستعمرة له وللشعر. نضال شاعرة وتدرك دور اﻻحتياط الذي تمثله مع من تزوجته للأوقات التي يمر بالمدينة للقيام بأشغال، وهي تستغل الفراغ لتكشف عن تخبط جنسي، وارتباك في اﻻرتباطات العلنية والسرية. لكنها تقول هشاشة المؤسسة الزوجية المغشوشة على العموم. نضال بعد مرحلة الجامعة تزوجت رفيقا اكتشفت أنه يعمل بيدقا للنظام، فجربت جحيم الخيانة، لتتوالى اﻻحباطات التي ستقودها الى الوقوف عن الهوة القائمة بين الحلم وواقع معتوه. بعد لقائهما الاول طلب منها البقاء ﻻن في الفندق مكان للغرباء والمصابين بالحنين، لكن حين استجابت تمنى لو رفضت، وبذلك يكون عدم الوضوح قد جلب له المتاعب، ليبقى الوضوح مع المرأة رهانا خاسرا. افتتحت امسيتها مع حبيبها السابق بكأسي نبيذ، حتى ﻻ تأخذها دوامة الثمالة، إﻻ أن الزمن ﻻ يأبه بالتصنع، وهي لن تتأخر في صب كؤوس أخرى، حتى تفرغ ما في خرجها. وكانت البداية، تذمرها من حياتها الزوجية التي لا تخرج عن  نوع ” من الدعارة الشرعية”. في البداية تريد من يلبي طلباتها المتواصلة ومن غير اكتراث لفارق العمر، ربع قرن، والحافز هنا انه رجل اعمال كبير ومن المدافعين عن الرأسمالية في المغرب، لقد اهملت انه بدون ذلك ما كان ليتكفل بتسديد نفقاتها وﻻ كانت قبلت به زوجا، حتى تستفيق انه ثقيل الصدر، حسب ما كشفته لعشيقها. مأزق الحياة الزوجية يبدأ بنبذ الجسد الملموس لصالح جسد على الشاشة.  نموذج الحياة الزوجية الناجح الذي تطمح له هو ان توجد مع من ينام على عملة في مصرف، ووجود آخر خاص بالفراش باستطاعته ان يروي عطش “سنين يسكن هذه المرأة الفتنة”. مفارقة الجنس هذه هي التي تصنع الفضائح اﻻعلامية، وتدفع الحرازا ومن يمنعون الى نهب التحف الفنية، مع حرمان غيرهم من بلوغها، كما حصل مع فيلم الزين اللي فيك [13]. الجواب عن هذه المفارقة سيكون في نظر نضال بوضع سياسة جنسية، معفية من خاتم التابوهات، وإﻻ ستواصل عقدة الجنس/لحوا تطارد البالغين كحبس. ارتباط مراد اﻻول كان في الثانوي مع ليلى، اﻻ ان ولهه لم يدم اذ ستسلم الى قرصان تقدم ﻻختطافها بزواج وبورقة صفراء تزكيه بما هو اغتصاب مقنع تقاد فيه النساء مربوطات الرجلين واليدين [14].

نصيب الحلم في رواية نوميديا كبير، اﻻ ان مشكلته مزيفة. الحلم يطلب المفارق ويقود الى الخسارة. لكن نضال غير مستعدة لذلك. فهي تمتطي المرسديس ليدفع من تراه أنه يغتصبها “على مرآى من الجميع ” بمجرد ورقة فواتيرها المستهلكة. لكن هل يكفي وصف المشكلة بالغباء، حتى تتضح المرأة اللغز كما وقفت عليها سارة كوفمان، حين يرى من يأخذ على عاتقه مهمة السرد في عمل نوميديا: ” في كل امرأة مثقفة شيء من الغباء حين يتعلق اﻻمر بالرجل والجنس”. كأن نموها توقف عند مرحلة المراهقة، ولم تقطع أشواطا في التعلم.

شبح العنف: العنف ابتزاز قد يصل الى مصادرة حقك في الحياة، وهو آلية جاهزة للاستخدام من طرف كل واحد، لتبقى الفعالية في الصدفة التي تلغي كل منطق، حتى تترك غصة ﻻ غير في حلق المخدوعين. جاءت جوليا الى إغرم بخطة للسيطرة على مراد، وكي تضغط عليه، أوجدت من يتلف أغراضه، ويهدده بالقتل بترك رسائل، كي يتلبسه الذعر، ويقع في قبضتها؛ حين كان يطلب منها ان تقول ان كانت ترى احدا على الجبل كانت تنكر. حتى تبلبل رؤاه. الصدفة التي جمعت أوداد بمصطفى كان لها وقع خاص في وجوده، لقد كان له خلاصا، بانتشاله من التشرد ومن المبيت في اﻻزقة، بل وفتح له مكتبته الغاصة بالكتب التي أهلته ليتشبع بالفكر اليساري، وتسهل اختيار  انتماءه المذهبي حين بلغ الجامعة.  هذا الصديق الذي عمل أستاذا سيذهب ضحية انفجار البيضاء حيث كانا على موعد تخلف عنه مراد بفعل وجود امراة في سريره أنسته الموعد، لينهار بذلك مرتين، اﻻولى بضياعه في عزيز عليه في انفجار من توقيع “رعاة الظلام”  . والثانية ان الموت أخطأه مرة أخرى، مقتصرا على اختطاف من يحبهم. مراد اقنعه حدث 16 مايو بتورطه في قتل صديقه مصطفى، حين اتصل به ضابط الشرطة يستفسره عما يربطه به، انتهى الضابط الى تعزيه. ليس موت مصطفى  المظهر اليتيم على حضور اﻻرهاب في العمل، بل نجد يلاحقه حتى في إغرم من خلال الوجوه التي يراها بعيدا في الجبل أو تتوعده عبر بعث رسائل تهديدية إلى بيته وعلى سبورة المدرج، هذا دون اغفال ان مجيء جوليا الى المغرب كما توهم، كان على خلفية اعتقال أخيها من طرف تنظيم إرهابي، يطلب مقابل تحريره فدية لم يجد من يدفعها وكان ان نفذ فيه القتل.

كل عنف يضمر نضالا بالضرورة، واﻻنزﻻق في ارض التسميات محتمل جدا، ﻷنه رهين تبدل زوايا النظر. ليبدو العنف في النهاية تعبير عن وضعية قهر لم تعد قابلة للاحتمال، ولمحاصرته يتم اطلاق تسمية عليه، هي اﻻرهاب، ينشرها الطرف القوي، وينشأ الهجوم أو النضال، وتكون خيانات بالسلب واﻻيجاب. وهنا اﻻمر واحد، سواء تعلق بنضال الرفاق أو غيرهم. الرفيقة نضال سليلة اسرة مناضلة، واختيارها لصف اليسار، كان من أجل أن تسود العدالة والكرامة في المجتمع من جهة، ومن أخرى لتنتقم ﻷبيها الذي نهشه اسمنت المعتقلات، قبل أن يتم اتلاف قبره هو ورفاقه، حتى ان المكان اﻻفتراضي لدفنه لم تعرفه اﻻ مؤخرا. انخراطها في العمل النضالي قادها بدورها لتعرف تجربة الحبس عدة مرات. وفي هذه المسيرة عرفت معنى التلاعبات السياسية وكذا التضليل لهدف تحقيق غايات شخصية، وهي الممارسات التي زلزلت قناعات مراد ودفعته الى اﻻعتزال ليخلو المجال لسماسرة السياسة كي يغتنوا من دون رقيب. العنف قوت يومي، وبخاصة في مجتمعات تعاني ضيق النمو والحرية. الحسين الذي تبنى أوداد وأخذه الى بيته، ستعامل زوجته صفية الطفل بقسوة ناذرة، بداية شكت في انه ابنه من امراة اخرى ، واتى به اليوم كونها ﻻ تنجب سوى البنات، فأخذت تعذب الطفل، قبل العمل على كيه بقضيب حارق. الى حد ان الزوج كان يخشى عنفها، بالرغم من باشتغاله في الداخلية التي اقترنت في الدول البوليسية بالرعب، غير أن الرواية في هذه البلدان انتهت إلى العثور على فرضية مفارقة تقول أن ذلك الرعب يهجرونه مع وجود نساء، ليصيروا طيبين حد الركوع أمامهن [15]. العنف يتعدى البيت، لأنه حاضر في المدرسة. طرد مدير المؤسسة التلميذ مراد حين صادفه في حالة مزرية، “كلوشار…اخرج من هنا لا تعد اﻻ ووالدك معك”، وعاد ﻻنه كان صلبا، ولم ينحرف اﻻ الى اليسار؛ جاء في مذكرة حولة ” انها المرة اﻻولى التي أعرف فيها انه يجيد الحديث باﻻمازيغية، تحدث عن الماركسية، والسجون والنضال”، بفضل ما كان يمنحه له مصطفى، الذي كان أستاذا في اﻻعدادية التي يعمل فيها، من صداقة وكتب بل ودعم مادي. جدول العنف في الرواية سيل جارف، والخطير ذلك الذي يستهدف المرأة، ليزيد من تأزيم الجسد في مجتمع ﻻ يتنفس اﻻ بالخيانة. خطاب الدين في المرأة جد متدهور. ﻷنه يركز على المؤخرة التي يرمي الى إلغائها لو استطاع؛ حين يرى يدها، شعرها، وجهها عورة، يكون قد بلغ حدا كبيرا من الجنون ولن يكفيه تغطيتها بالكامل، ما دامت المسألة “في وجود المؤخرة نفسها” [16] بل البحث عن إعدامها حتى يستريح.

اشياء أمازيغية : اﻻشياء هذه لم يكن ممكنا بلوغها اﻻ ﻷنها استندت على عنصر اللغة، ومكانه في هذه الرواية عظيم ﻷنه قادر على وقف اللغط وسوء التقدير، خاصة وأن مراد الذي كان ضحية انخطاف أو كابوس أفقده قواه العقلية، دفعته للتحدث “بعربية كالتي تدرس في المدارس”، ليس للعامة حق استعمالها لجهلهم بها باعتبارها ‘‘لغة نحوية’’ [17] ينفرد بها الفقهاء ويمارسون سلطتها، فبدا غريب اﻻطوار، وجر عليه سيلا من التعليقات المتضاربة لم ينهها إﻻ بالصراخ فيهم “ﻷول مرة باﻷمازيغية: لست مسكونا بجنية الوادي و…” ليترك الجميع فاغرا فمه، من مفاجأة مخاطبتهم بلسان أمهم؛ “لم يكونوا يتوقعون أن أخاطبهم بلغتهم”، مع محاولة تجاهل حيرتهم حتى ينفضوا عنه. وهو ما شد حميد الذي يتكفل بالفندق لان يتوجه له : لم أكن أعلم انك تتحدث اﻻمازيغية بطلاقة؛ اﻻ ان استفساره له إن كان ناطقا أمازيغيا، قاد أوداد الى النكران، ليزيد من حيرته، ويدفعه التسليم امام استعصاء اﻻمر عن الفهم، مشاركا الفقيه اعتقاده بأن وراء حديثة بلغتهم جنية الوادي (نوميديا) التي نطقت عبره بتمازيغت.

تماوايت: اسلوب غنائي مستقل عن الاغنية، بل هي ‘أغنية المسافر التي توصله’ [18]، ورواد هذا الاسلوب من النساء دون أي انفراد بالامر في إطلاقها، هي اجابة في حالة الفرح، كما أنها صرخة معجونة باﻷلم والمعاناة، وتماوايت كما جاء وصفها في عمل نوميديا “وجع يشع ويعرش في أعماق اﻻمازيغ”. بالمناسبة ليست تماوايت وحدها ما يشكل وجعا، وانما مجموع المعالم المغتصبة في الثقافة اﻻمازيغية والتي أعادت الرواية لها ألقها.

ولد ذكر: استطاعت خولة ان تنسى محنتها المتعبة بطول انتظار أوداد الذي تأخر في العودة، فكان ما كان من انتحار، لكن في حالة ما قبل اليأس النهائي، أثناء زيارة الطبيب الذي أخبرها انها حامل، تعاظم سخطها على من نسيها، ولما أردف بأنها تحمل في أحشائها ولدا ذكرا تسرب قلقها حتى  لم يبق منه شيء. ومع ذلك وقع ما ﻻ يمكن تفاديه. تقليد انتظار مولود ذكر كان وراء حصول الكثير من المآسي، صفية زوجة الحسين رأيناها كيف كانت تعاقب أوداد، كانتقام من عدم انجابها لولد ذكر، سيأتي به الحسين، اﻻمر الذي جعلها تغني خيالها بالحكايات التي ﻻ أساس لها، لكن كيف لها ان تقرأ تاريخ أوداد وترعاه كابن لم يحلم به بطنها. التقليد تمييزي، ﻻنه نتاج ثقافة تشبعت بإقصاء اﻻنثى، بداية بقتلها، وبعد حصول تغير في الاعتقاد، تواصل قتلها بمنحها نصف ما يأخذه الذكر. وهذا التقليد سيستمر ما دام منغرسا في لاشعور اﻻنثى المنتمية لمحيط إسلامي، كما نتابعه مع رواية نوميديا، أو في محيط مسيحي [19]. هذا الوجه البدائي سمة مشتركة بين اكثر من مجال ثقافي، فاكتسب بذلك حذقا في سرقة المرأة “بشرعية” مجحفة. ودفعت بالشاعر أدونيس لأن يقول: المذكر صار رمزا لله [20].

نوميديا: حين صادف مراد المرأة ذات الحصان التي سلبته بملامحها الأمازيغية، عزم على منحها اسما يعود الى ” احدى الملكات اﻻمازيغية” المنفية من كتب التاريخ. هذا اﻻسم هو نوميديا [21]؛ فهي تعتبر نفسها من ضحايا هذا المكان، ما دامت ﻻتستطيع التواصل إﻻ باﻻشارة، على غرار الصعوبة التي ﻻ تزال تعترض تمازيغت اليوم لتدخل عصرها الكتابي بنجاح. فمراد حين استرسل معها بتمازيغت، ردت “أنا خرساء”، ليتساءل  هذه المرة: هل من الممكن أن نلتقي مرة أخرى ؟. انه السؤال الذي ﻻ يشجع مع تماطل الحكومة التي أتت مع دستور 2011، على اﻻجابة. “نوميديا هذه الجميلة الخرساء” حين يتعلق اﻻمر بتمازيغت فقط، تحسن الحديث بلغة الغزاة المهيمنين بالقانون الذي بجانبهم ضد اللغة اﻷم المقصية من التعليم. نوميديا أكثر من استعارة، إنها مقاومة مادام يعتبرها وجعا وألما آخر، لن يشفى منه إﻻ بمقابلتها، وإذا كان “ﻻ بد ان تعود” كما يراهن، فالدفاع عن حق عودتها هو ما يضمن بقاءها على قيد الحياة أن يملك الواحد اهتماما خاصا لثقافته الخاصة ولتاريخه القبلي لا يخرج عما يحافظ على حياتها مع إعادة خلقها ودعمها أو إصلاحها [22] .

نوميديا تاريخ مقصي من كتب التاريخ، الذي يتمادى في تزييف الوقائع، تماما كلسانها الذي يعاد نزعه مع كل ترسيم لألسن الغزاة الذين أتوا لانتهاك سيادتها واستقلالها. “نوميديا… ايتها الخرساء الهادئة المكتظة غموضا وتاريخا…” سيكون النداء الشجي والعميق الذي لم يكتبه لا مؤرخ ولا شاعر إلى يومنا هذا، فهي الملغية من المقررات الدراسية، ومن ان تكون اﻻ غير شرعية كأوداد الذي ﻻ يملك الوثائق الثبوتية المتعلقة بوجوده الحقيقي. نوميديا اﻵن هي المملكة الصامتة؛ تاريخ نوميديا اغتصبته ضوضاء المدينة التي تعشش فيه المؤسسات، التي تعمل على طمس الحقيقة التي يصرخ بها الجبل، ﻷنها ما تزال قابعة فيه، وتؤهله ﻷن يكون خزان اﻻرث اﻻمازيغي، الذي تتحدر منه نوميديا وتساهم في الحفاظ عليه. وجودها أمسى تاريخيا محضا، لكنه يمنح الحاضر هويته العميقة، ومن تم اﻻرتباط بها، ولو انها اليوم تبقى بعيدة المنال، بسبب من تعطل نطقها والتواصل معها، لعدم وجود ما يدل عليها، إذ تنقص المراجع المجتمع الشفاهي، بسبب تكلف اﻻخرين بكتابة تاريخنا على الطريقة التي ترضيهم، بتزييف حقائق الذات التي يكتبون عنها، مادمنا ” ﻻ نجيد الكتابة عن أنفسنا”، وتكون المحنة مضاعفة. انشغال أوداد بنوميديا ليس سهلا، ﻷن جهات أخرى ﻻ ترغب في رؤيته يناديها أو يهيم بها؛ في بلاد المغرب يستمد رجل النظام سلطته من  الشرق وهو قرين الفقيه في عمله، بل يسانده ويمنحه الشرعية، وعندما يخاطب الفقيه أوداد : أنت مريض بها وأنا هنا ﻷخلصك منها؛ فهو يرمي الى تكبيله وربطه بحبال حتى يمنعه من اﻻلتحاق بها، وبالتالي إطالة تبعيته، ليكون العنف هو الجواب على اﻻعتراف بالحب، بحق اﻻنتماء، والتعدد الثقافي أو حرية المعتقد. اللجوء الى الشرق ومن خلاله الى شريعة اﻻسلام، يوهم بأن الحضارة هبة سماوية، في حين هي ليست كذلك ” إنها انجاز هش في حاجة باستمرار للدعم والحماية من المهاجمين من الداخل أو من الخارج” [23]. ويواصل محتكر كلام السماء بيقينية ضحلة مخاطبة المحكوم وثاقه، أنه لن يفهم ما يقوم به إﻻ فيما بعد، “وستشكرني” إنه نفس الوعد الديني يسنحيل عليه الاتيان بإجابة الآن وهناوانما حين لا تكون حاجة اليه أي فيما وراء الموت بعد القيامة؛ لقد تم تكبيل الكائن النوميدي المسكون بنوميدياه، بواسطة اعتقاد ديني تمثله سلطة فقيه في مرحلة أولى، قبل ان تصير سلطة دين تحاول أن تعم البلاد. التعلق بنوميديا جارف ان لم يكن مزمنا، فهو يؤمن أنه ليس الفقيه من سيبعده عنها بتخاريفه وتعاويذه، التي تدمن نهب ما هو ملموس، مقابل بيع حلم مستحيل يسعى تمليكه ما ﻻيقبل القبض عليه اطلاقا.

تيويزي: من بين ما يتعاون عليه التجمع السكاني عند اﻷمازيغ ايجاد من يضمن نسل اﻻبقار من ثور يتم اللجوء اليه عندما يرغب الفلاح في تخصيب بقرته، وﻷن حيواناته المنوية ﻻ يمكن اللجوء لها اﻻ مرة في السنة فالعناية به طول الوقت مكلف، وللتغلب على هذه المشقة يتم تقاسم أعباء مصاريفه، باﻻشتراك في شرائه عجلا، وتسريحه يرعى في جميع حقول القرية، وكلما وقف أحد على خدماته-امتطاء بقراته أخذه زريبته كمأوى خاص بالحيوانات؛ للمرء الحق في التساؤل ان كانت هذه مهمته الوحيدة ؟ والجواب هو ﻻ، ﻷنه في الزمن الغابر كان عبارة عن أضحية، على غرار عيد اﻻضحى عند المسلمين، فسهل تقبل اﻷمازيغ فكرة نحر أضحية العيد دون مشقة، قبل أن تصير مكلفة بل وعبئا مازوخيا؛ قديما كانت تحدث التضحية بحيوان تتكفل القبيلة بتربيته لتقتسم لحمه في كميات تسمى (إلي أو تاصغارت) ﻻ يمكن دفع ثمنه اﻻ بعد سنة، كي يتغلبوا على شراء أضحية أخرى، ويستمر اﻻحتفاظ بالتقليد الذي يقوم على تبديد ما حصل قبلا؛ الى ان حل من يفسده بتكلفته العالية المرتبطة طبعا بالمضاربات وبسوق العملات؛ في مناسبات أخرى، كالتي تنظم حول مقام سيدي شمهروش تطبخ هذه القسمة [24]، قبل ان توزع على من جمعت منهم اﻻعطيات الموجهة لضمان شرائه؛ عملية تيويزي هذه لها اكثر من وظيفة، ودورها المساهمة في إغناء حياة مواطن كل يوم باستفادة ” القرية أجمعها”، وهي الممارسة التي تضعهم على خطى نموذج اشتراكي، جعلت نضال تراه فيه اشتراكية صرفة، على الرغم من التهديد الذي يشكله الثور، ولمراد أن يوضح أنه ثور ﻻ يهاجم أبناء القرية مادام يكبر بينهم. نسيان تقليد تيويزي الذي يسري على مجموع الأمور التي تتطلب تعاونا ما، ارتبط بانتشار ظاهرة القياد، بحيث أخذوا في استغلاله لانجاز أشغالهم، حتى صار عبئا يقود الفلاح الى اهمال أرضه، بل وتحويله الى شبه أجير.

أحيدوس: نعاين فيه “صفا من النساء يواجه آخر من الرجال”، في مناطق دون غيرها بحسب درجة تغلغل الضغط الديني، غير أنه غير منفصل عن حركات يوحدها انسجام ايقاع موسيقي، وهو لعب ينجز على شكل دائري أيضا، ومن غير تواجه أي بشكل مختلط، مادام اللعب يستمد أصوله من الطقوس الوثنية، التي احتفت بالنور، من خلال المكانة التي كانت للنار كطاقة خلاقة؛ وأما اﻻصل الدائري ﻷحيدوس فآت من التحليق حول هذه النار لتدفئة الدفوف [25]  أو ذواتهم عندما يشتد البرد.

استدعيت اﻻشياء الأمازيغية لكشف وإبراز الحياة في فضاء إغرم، ومن العبث حسب اﻻمر بعثا، مادامت حية وتمنح شخصية امحند أو حميد  كل الامتلاء الذي تبدو فيه حياتهم اليومية في البلد البعيد عن العاصمة. البعث الذي يمكن الحديث عنه هو المتعلق بعمل المؤلف، الذي كتب عمله بالعربية، وفسح المجال لمحيط ثقافي شاسع، كي يعبر عن نفسه، من دون ديماغوجية أو تعصب عروبي كل هاجسه اخراس أسئلة المختلف، بدعاوي التزام العلمية والموضوعية، في البحث عن الذات. ميزة رواية نوميديا أنها فسحت لمتكلم أمازيغي أن يوجد بحرية من دون طابوهات وبجميع هواجسه ومخاوفه، من دون ميل نحو انكار ذاته، لصالح تمجيد ﻻ يمكن ان يكرس سوى اﻻستلاب، وإقناع الاخرين بما ليسوا [26]. تكشف نوميديا عن شخصية لم تشهد رواية مغربية أخرى مكتوبة بالعربية قبلها الميلاد، إنها بحق ‘تأمل عظيم في الذات واكتشاف حاسم للمخاوف والرغبات القابعة في الوعي الكتابي، إنها كشف مدهش للتحرر والرعب والحيرة والخجل والشهامة، ومن الصعوبة عدم رؤية ذلك’ [27]  .

ليست اﻻشياء هذه وحدها من قوبلت بالتجاهل وانما جميع ما يمت بصلة الى وجودهم بما هم قوم أحرار كما يدل على ذلك اسمهم ئمازيغن؛ ومن تم المحاولات العديدة التي عملت على إدماجهم بل وتذويبهم في مجال ثقافي مغاير هو العالم العربي و الإسلامي؛ يظهر ذلك في اللغة التي تميل الى تعميم جنس بشري واحد، في منطقة تعرف تنوعا ثقافيا وعرقيا جد واسع، كما يتجلى في الحديث عن  “اﻻنسان العربي من المحيط الى الخليج” أو التي تتكرر وصف: المغرب العربي الكبير، الذي لا يزيد عمره عن تاريخ الاستقلالات المشلولة، التي بدأت مع العقد الخامس من القرن الماضي؛ وهي التعابير التي تكون ذات شحنة سياسية. لقد كان القفز على التميز الثقافي في هذه الرقعة الجغرافية في اصل اﻻستبداد والتخلف المميز للمجال السابق والمحدد بخشونة؛ لحسن الحظ توجد اﻻعمال الفنية لتحرر من ثقل الواقع.

مكانة الحكي في عمل بكاري قوية، من جهة ان سارده ترعرع في محيط ثقافته شفاهية، ومن جهة ان إغرم ﻻ يستقيم من دون حكاياته التي صارت مع الزمن ارثا حيا، يلجأ الناس اليه لضرب المثل، غير أنها باتت مهددة مع اﻻكتساح العارم لوسائل اﻻتصال السريعة، التي أزاحتها من الدور المركزي الذي مثلته في السابق لقيامها على التكرار الذي يرهنها للبطء في الانتقال، هذا دون ان تستنفذ وقتها لما لها من دور تربوي. انغراس الحكي في وجود ئمازيغن، واستنجادهم به في يوميهم، بدأ في التحول الى سراب، وفي القريب الى زوال، ما لم تطور تقنيات أخرى ﻹنتاجه. الحكاية بالجمع قالت قائلها بشكل جيد وسجلت تاريخه، في سجلات من لحم ودم، يحصدها قطار الموت يوميا وتضيع بعدم التعجيل في القيام بكتابتها وتجميعها، على الرغم من تحولها الى ملحمة احيانا من خلال التطويرات التي تمسها، يبقى ان الحفاظ على الحكاية رهين بالحفاظ على اللغة التي قالتها بل وكانتها. الحكاية اليوم تكتبها اللغة، بعد ان كان الكل يساهم في تشكيلها من خلال الزيادات التي تقترح ومن غير ان ينفرد أحد في توقيعها باسمه الخاص. التأمل الذي نالته الحكاية في رواية نوميديا غني وعميق، إذ انتهى فيه السارد الى ايجاد راو لها متمترس في عنصر اللغة ذاتها، ليصبح المؤلف هو  اللغة نفسها. وتبعا لذلك ستكون نوميديا سليلة سرد شفوي عريق عند الامازيغ، اضطرته مطاردات المخزن التركيز على الحنجرة، كي يبرعوا في الغناء بدلا من الخط ليكون وسيلتهم الأولى في ضمان تنقله. انه قدر الادب الشفاهي حيث تشخص الحكاية وتتكون في نفس الوقت الذي تتحول فيه، إذ يستعين الراوي بكلماته كي تصير الحكاية شيئا يخصه [28].

عين الناقد: كل عمل يملك نظرة عن نفسه، وراية نوميديا ﻻ تشط عن هذا التقليد. وهي النظرات الصادرة عن الشخصية المركزية أو من غيرها، نحو ما جاء على فم الساردة الثانية في هذا العمل لما صنفته انه ” رواية حزينة جدا وجنسية نوعا ما” الأمر الذي يمكن التحقق منه بسهولة. وهذا حكم يكشف عما يهيمن على النص ويغطي العمل كله. المسألة الأخرى تهم نقد الافكار كالمتعلقة بخيانة الرفاق الذين رهنوا النضال باﻻرتماء في أحضان النظام وارتقاء “معارج الدولة”؛ عندما رد مراد على صديقته نضال انه فاتنا ان نفهم ان اﻻشتراكية هي مجرد حلم قابل للانكسار لمجرد ان يلامس الواقع، كان يضع نصب عينيه فشل تجربة التناوب التي قدمت دورا هزليا في مسرحية الحكم؛ النقد في رواية نوميديا طريقة لفضح الهيمنة وكشف عن عيوب التبعية التي تكبل التفكير والعيش بل والحياة في مقام أول. سئلت نضال عن علاقتها بالشعر، فردت بأنه “من أمر شيطاني”، ليأتي التعليق سريعا “ولم ﻻ تكون شيطانة ؟ ؟ ! لماذا تعيش شاعرة برهافة حسك امتدادا للمذكر ؟” ليبقى الخروج من الهيمنة الذكورية رهين بايجاد بعد آخر لم تنزع فيه المرأة من ضلع رجل، أي كما في الصدى الذي خلفه صراخ مراد في وجه السماء. الخلا الذي بقي له من كلمة الخلاص، التي رددها، والتي لن تكون اﻻ باعتزال هذا العالم الموبوء بعقائد الظلام.

الهوامش:

[1] طارق بكاري، دار اﻻداب، ط 1 . 2015

[2] طوني موريسون: صورة الاخر في الخيال الادبي، تر. م. مشبال. ط 1، 2009 ، ص 38 ’’الادب الأمريكي ظل حكرا على نظرات الذكر الأبيض وعبقريته وقدرته، لا يمت بصلة الى الحضور الساحق للسود في الولايات المتحدة.‘‘

[3] يقول بكاري ’’ الأدبُ يلعبُ دورا مهمًّا فى الحفاظ على الخصوصيات الحضارية والثقافية ‘‘ حاوره أحمد ليثي ’’شاهد.. طارق بكاري   يتحدث عن روايته‘‘ جريدة القاهرة http://alkahera.co/author/ahmedlaithy22gmail-com/

[4]   م. برادة، عن : http://alkahera.co/author/ahmedlaithy22gmail-com/

[5]   طوني موريسون: صورة الاخر في الخيال الادبي، تر. م. مشبال. ط 1، 2009 ، ص 42

[6]  نفسه . ص 45

[7] Salima Naji : Greniers collectifs de l’Atlas, patrimoine du sud marocain, éditions Edisud, 2006, p 7 ‘‘greniers collectifs appelés selon les régions ighrem ou agadir’’

[8] اللائحة المتضمنة للاسماء الممنوعة لم تر النور أبدا في الجزائر. ينظر تقديم كاتب ياسين لكتاب:

Tassadit Yacine : Ait Menguellet Chante…, éd. Alpha 2014, p 16

[9] Rachik H. ibid, p 240

[10] H. Rachik: le sultan des autres, rituel et politique dans le haut atlas, Afrique Orient, 2016, p 30

[11]  حسن رشيق. م. س، ص 29

[12] k. Daoud mersault  contre-enquête.  Acte Sude, 2014, prg.

[13] اخراج نبيل عيوش

[14] wasila tamzali, l’Express, n° 3377, p 47

[15] رواية إبراهيم نصر الله: عو، تقدم مثل هذا المشهد

 [16] إبراهيم محمود: جنازة المؤخرة، ط 1، 2010

[17] دانتي، عن مصطفى صفوان: لماذا العرب ليسوا أحراراً؟ تق. وتر. م. حجازي. دار الساقي، 2013

[18] المعجم العربي الأمازيغي، م. شفيق. مجلد 1، ص 140

[19] Anne Archet ’’ Tu me laisserais, moi fille de Loth, abuser de toi, plongé dans le sommeil de l’ivresse, pour

te donner une postérité mâle ?‘‘ Ce ne sont que des mots , poésie érotique, Décembre 2014 ; p 49.

[20] Adonis : Violence et Islam, entretiens avec Houria Abdelouahed, Seuil 2015 ‘‘ penser les fondements ’’

 مملكة نوميديا وحدها الملك ماسينيسا (209 -148 ق.م. ). [21]

[22] Charles TAYLOR : Multiculturalisme : différence et démocratie, p. 113

[23] Charles TAYLOR. Multiculturalisme, différence et démocratie, p 97

[24] رشيق. م.س، ص 89

[25]  لبروزيين عبيد: الفرجة المغربية، الراصد الوطني للنشر والقراءة، ط. 1 ، 2016 ، ص 71 .

[26] كاتب ياسين في تقديمه: يعتقد اليوم، في الجزائر وفي العالم، أن الجزائريين يتكلمون العربية. ص 17

Tassadit YACINE : Ait Menguellet Chante, pré. Kateb Yacine, éd. Alpha 2014

 [27] طوني موريسون: صورة الاخر في الخيال الادبي، تر. م. مشبال. ط 1، 2009 ، ص 48

[28] Goual Doghmane Fatima : étude sémio-narrative des contes Touareg production féminine. Mémoire, sous direction Abdou Kamel, U. Mentouri : Constantine, 2009, p 15

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *