علي موريف
تحتفل الأسرة الكونية يوم 21 فبراير من كل سنة باليوم العالمي للغة الأم (اللغة الأولى) إيماناً منها بأهمية هذه اللغة في مجمل مظاهر الحياة الاجتماعية للأفراد والمجموعات. وتحل هذه السنة الذكرى 15 للاحتفال بهذا اليوم (بدأ الاحتفال به منذ سنة 2000)، بعد أن تم إقراره من طرف منظمة اليونسكو سنة 1999، علماً بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة سبق لها أن اعتبرت سنة 2008 سنة دولية مفتوحة للغات كمؤشر رمزي دال على ما تكنّه المنظومة الكونية لمسألة اللغات والألسن، وطبعاً لكل ما يرتبط بها من ثقافات وقيم رمزية فنية وجمالية…إلخ.
وقد ارتبط تقدير الأسرة الكونية لمكانة اللغة الأم هذه بما تنقله من مشاعر المودة والحب وتأثيرها البيّن في مجمل العلاقات الاجتماعية ولا سيّما الحميمية منها. هذا فضلاً عما ينجم عنها من حياة سيكوسوسيولوجية سوية للأفراد والمجموعات في حالة بقاء الحبل السري الذي يربط بين فضاء اكتساب تلك اللغة (فضاء الإنسان وهو في حضن أمه) وفضاء الحياة المجتمعية الواسعة بما في ذلك الدولة ومؤسساتها وأجهزتها. كما ساهم عنصر تقوية التعدد الثقافي واللغوي في سيرورة الاحتفال باللغة الأم.
إن احتفال الأسرة الكونية بهذه اللغة ينبع كذلك من المكانة التي تحظى بها الأم بشكل خاص والمرأة بشكل عام في أدبيات ومرجعيات المنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وأن كل احتفال بها (أي اللغة الأم) هو احتفال ضمني بالأم بوصفها الضامن الأول والمصدر الأساسي لنقل لغة مجتمعها إلى فلذات كبدها. وتتجلى وجاهة هذه الفكرة في ما توصل إليه البحث العلمي في مجال علم النفس وخاصة ما يتعلق بالنمو من أن الجنين يتعلم اللغة وهو ما يزال في بطن أمه وهو في أسبوعه العاشر فما فوق. ويشكل بذلك رحم الأم بداية حقيقية للسباق اللغوي للإنسان حتى قبل أن يلج العالم الخارجي، إذ بإمكانه سماع أصوات أمه مهما كانت درجتها خلال مرحلة وجوده في رحمها.
فالرسالة التي يتوجّب اليوم على الأمهات الحوامل التقاطها أكثر من أي وقت مضى، ما دام أن الجنين بإمكانه الاستماع والتعلم والتذكر في الشهور الأخيرة من الحمل، وبعد أن تأكد أن دماغه لا ينتظر الخروج إلى العالم ليبدأ التعلم والاكتساب، هي إقدامهن على التحدّث طيلة الأشهر الست الأخيرة من حملها والاستمرار بالمحادثة والتبادل معه بشكل فعال لحظة الولادة بغية المساعدة على ضمان سلاسة التطور اللغوي لدى المولود الجديد. إلا أن ذلك كله يتطلب منهن الابتعاد قدر المستطاع عن كافة الضغوطات النفسية الناتجة عن صعوبات الحياة الاجتماعية، فضلاً عن ضرورة استحضار عنصر الهدوء في المحادثة مع الجنين والمولود الجديد وتجنب الصراخ ومختلف الأساليب العنيفة في الحديث.
وإذا كان الاحتفال مدخلاً أساسيا وإجراءً رمزياً لإعادة الاعتبار للغة الأم في أقطار الدنيا، فإن ذلك لا يلغي أولوية اتخاذ التدابير السياسية والمؤسساتية والقانونية من أجل النهوض الحقيقي بمسألة التعدد اللغوي والثقافي. كيف لا وأن كل أدبيات المنتظم الدولي تكرس هذا الأمر، بدءاً بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966، وإعلان فيينا لسنة 1993، ثم إعلان برشلونة حول الحقوق اللغوية لسنة 1996، ثم إعلان اليونسكو العالمي حول التنوع الثقافي لسنة 2001، وكذلك اتفاقية اليونسكو الخاصة بحماية كل أشكال التعبير الثقافي الصادر سنة 2005 و كل ما تمخّض عن الإعلان العالمي الخاص بحقوق الشعوب الأصلية وكذلك الأمر بالنسبة للوثيقة الدستورية لبلادنا من خلال ديباجتها والفصل الخامس والحادي والثلاثون المتعلقة بقضايا اللغة والثقافة والهوية الوطنية؛ تقرّ لجميع الشعوب والمجموعات بأحقيتها في الاحتفال بممتلكاتها الرمزية والمعنوية وتفعيل فضيلة الاستذكار مكان النسيان. وإذا كان الأمر على المنوال، فهل نحن، كأفراد ومجموعات ومؤسسات ودولة، قادرون على ضمان الحد الأدنى من إعطاء الأم، من خلال الاحتفال باللغة التي تشربناها ونحن في رحمها، المكانة التي تستحقها ورد الجميل لها؟