القيادة من الخلف.. آلية الولايات المتحدة الأمريكية لتدبير أزمة الشرق الأوسط

حميد بوهدا

باحث في العلاقات الدولية

لاشك أن المتتبع للسياسة الخارجية الأمريكية سيلاحظ تحولات نوعية اخذت في التراكم منذ احداث 11 سبتمبر 2001، هذا التاريخ كان فاصلا في إيقاظ الحس الاستراتجي الأمريكي وتحويل مساره، إذ بينت الأحداث أن سياسة الولايات المتحدة الداعمة لأنظمة تفتقد إلى شرعية شعبية، أدى في المحصلة إلى إنتاج قنابل متفجرة ومتنقلة كان أولى ضحيها هي نفسها.

مؤشر هذا التحول تجلى أساسا في كلمة لوزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس، سنة 2005 خلال زيارتها لمصر، حيث صرحت أن الولايات المتحدة “سعت على مدى 60 سنة من أجل تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية في الشرق الأوسط، لكننا لم نحقق أيا منهما، نحن ننتهج أسلوبا اخر، نحن ندعم التطلعات الديمقراطية لكل الشعوب”.

في سنة 2011 سيحدد باراك أوباما أولويات سياسياته بالمنطقة، والتي ترتبط بالدرجة الأولى بالمصالح الحيوية الأمريكية ب” مكافحة الإرهاب، ووقف انتشار الأسلحة النووية و ضمان حرية التجارة وضمان أمن المنطقة والدفاع عن أمن اسرائيل والسعي لسلام عربي-اسرائيلي”

التحول في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية انعكس على مبيعاتها من الأسلحة  الموجهة إلى منطقة الخليج، ليس لأن هذه الأخيرة تبحث عن إقامة نظام أمني إقليمي مستقل، بل غالبا ما تكون هذه الصفقات آلية اقتصادية لكسب مواقف سياسية و استراتيجية، وتشير الاحصائيات الصادرة عن الكونكريس الأمريكي إلى أن مبيعات الأسلحة في سنة 2011 تضاعفت بفضل رفع دول مجلس التعاون الخليجي طلباتها للشراء، إذ وصلت القيمة الإجمالية من صفقات الأسلحة الأمريكية الخاصة بتلك السنة 66,3 مليار دولار، وهي نسبة تمثل 75%من إجمالي سوق الأسلحة البالغ 85.3%في ذات السنة.

في يونيو 2012، قدم وزير الدفاع الأمريكي السابق، ليون بانيتا، أمام المنتدى الاسيوي إستراتجية الدفاع الأمريكية والمتمثلة أساسا في إعادة نشر القوات الأمريكية عبر العالم، وذلك عبر تقسيمها بين المحيطين الهادي والاطلسي، والقطع مع تركيزها في منطقة أو دول بعينها في اطار استراتجية “الدوران”، أي تدوير القوة العسكرية الأمريكية، و الهدف هو مواجهة القوة الصينية الصاعدة. الأمر الذي يعني أن منطقة الخليج و أمنها لم تعد لها نفس المكانة السابقة، ولكنها لم تخرج كليا من حسابات الولايات المتحدة.

هذه السياسة هي المتحكمة اليوم في طريقة تدبير الولايات المتحدة الأمريكية لأزمة الشرق الأوسط الراهنة، عبر تحديد وظيفتها كفاعل مركزي في الأمن الخليجي لكن بطريقة أقل خطورة وتكلفة، فسهرها على بناء تحالف يقتصر بالأساس على جزء من دول الخليج و الدولة الغربية، التي لها مصالح مهمة بالمنطقة دليلا على رغبتها في تقسيم تكلفة الأمن العالمي على المستفيدين منه، وهو ما سيتجلى أكثر في حجم الأدوار التي ستسندها لكل دولة حسب حجم مصالحها. هذا مؤشر مهم لنهاية “دور الدركي العالمي”، الذي كانت الولايات المتحدة تقوم به وتستفيد منه الدول الأوربية واليابان والصين وغيرهما من الدول الصاعدة، خاصة المشكلة لمجموعة العشرين التي تسيطر على 80%من الناتج الاجمالي العالمي. بالإضافة إلى ذلك هناك عوامل داخلية وإستراتجية أخرى تتحكم في الدور الأمريكي المستقبلي في حماية الأمن الدولي و أمن منطقة الخليج بشكل خاص منها:

1- عامل النفط:

في سنة 1951، وقبل 20 سنة من مغادرة بريطانيا للمنطقة و حصول دولها على الاستقلال، قال الرئيس الأمريكي، هارن ترومان، إن “الشرق الأوسط يحتوي على نصف احتياطي النفط في العالم”، لذلك يجب تشبيك العلاقة والهيمنة على دول المنطقة، إلا أن تداعيات أزمة النفط لسنة 1973 جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تراجع سياستها، إذ أفصح ريتشارد نيكسون أنداك عن رغبته في تحقيق الأمن الطاقي لبلاده، نفس الاتجاه سيعبر عنه الرئيس السابق جورج بوش الإبن حين قال” إنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تقلل اعتمادها على النفط المستورد من الشرق الأوسط بأكثر من 75%بحلول 2025″ وأضاف أن الولايات المتحدة “مدمنة للنفط الذي غالبا ما يستورد من أجزاء غير مستقرة من العالم”. وهنا يجب الانتباه إلى عبارة “مدمنة” لكونها تختزل العلاقة غير السوية بالشرق الأوسط، فالإدمان بقدر ما يحقق انتعاشة مؤقتة بقدر ما يضر بالصحة، وهنا طبعا صحة الاقتصاد والسياسة الأمريكية.

توقع تقرير لوكالة الطاقة الدولية المعنون ب “آفاق الطاقة في العالم 2012” أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية أكبر منتج للنفط العالمي بحلول 2020 بفضل “ثورة النفط الصخري”. في الوقت نفسه، أكدت احصائيات وزارة الطاقة الأمريكية أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تمكنت في عام 2012 من تلبية 83%من حاجياتها النفطية من مصادر داخلية.

2- أسلوب استعمال المخاطر لتحقيق المصالح

في مجموعة من النزاعات تستعمل الولايات المتحدة الأمريكية سياسة الإهمال المتعمد، ما دامت المخاطر لم تصل بعد إلا مصالحها الحيوية التي تستدعي التدخل العسكري، لترويض خصومها وحلفائها على حد سواء، والتدخل فقط في حالة تفاقم الأزمة، كما حدث في نزاع البوسنة والهرسك، حيث رفضت المجموعة الأوربية التدخل الأمريكي وذلك بعد إستشعارها انتهاء الخطر السوفياتي ، وفضلت أن يكون الحل دبلوماسيا لكنها لم تستطع حل هذا النزاع نظرا لتباين رؤى الدول الأوربية، ما استدعى تدخل الولايات المتحدة مرة أخرى وإبرام اتفاق “دايتون”. نفس الاتجاه سارت عليه الأزمة الأوكرانية، إذ رفض الاتحاد الأوربي توسيع العقوبات الاقتصادية، خاصة ألمانيا، لمعالجة الأزمة، لكن تفاقمها وإصرار “بوتين” على الدفاع عن ما يعتبره مجال روسيا الحيوي، ومقابلته أمريكيا برفع العقوبة، شكل فرصة مواتية لإحياء “الناتو” وإقرار سياسة جديدة له لمواجهة التهديدات الجديدة، و بالتالي عودة دول الاتحاد الأوربي إلى حجمها السياسي الحقيقي تحت عباءة الولايات المتحدة الأمريكية. نفس الأمر بالنسبة للعلاقات الأمريكية الشرق أوسطية، فاستمرار السعودية في تمويل الحركات الإرهابية في المناطق النائية البعيدة وفق التعبير الأمريكي، ورفضها مقعدها غير الدائم بمجلس الأمن احتجاجا على تبدل الموقف الأمريكي أثناء موجة الانتفاضات التي عمت المنطقة، واستمرار اسرائيل في تجاهل الاحتجاجات الأمريكية ورفض الانصياع لأوامرها فيما يتعلق بوقف الاستيطان، بالإضافة إلى إضرار “العلاقات الخاصة” بين الولايات المتحدة بمجلس التعاون الخليجي بالمصالح الأمريكية وفق محللين أمريكيين، دون اغفال مراجعة الولايات المتحدة لسياستها المتبعة في تسعينيات القرن الماضي، وعودتها إلى سياستها المتبعة في المنطقة خلال الحرب الباردة، جعل الولايات المتحدة الأمريكية تتردد في معالجة الأزمة السورية، وتداعياتها المتمثلة في ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” المعروف اعلاميا ب”داعش”. هذه المعطيات ستسمح للولايات المتحدة بإنشاء تحالفها العسكري المزمع ضد” داعش” على مقاسها، وستوزع المهام و”عقود العمل بالباطن” على بقية الدول، كل حسب قيمته في التحالف وحجم مصالحه بالمنطقة.

3-القيادة من الخلف:

يرى المحللون الاستراتجيون أن السياسة الأمريكية تجاه نزاعات الشرق الأوسط يجب أن تنبني على تجنب التدخل المباشر، خاصة و التجربة التاريخية بالمنطقة توضح بجلاء أن كل تدخل سافر يؤدي إلى تقوية الحركات المتطرفة أكثر من اللازم. فقد أدت سياسة الإحتواء المزدوج التي اتبعتها أمريكا خلال فترة التسعينات إلى إنتاج أحداث 2001، لذلك من المفروض اتباع سياسة مغايرة تقوم على لعب دور “الموازن الخارجي” والتحكيم بين الأطراف، دون تفضيل أحد على أخر بقدر ما تمليه المصلحة الأمريكية. لذلك، كان من الطبيعي أن تختلف طريقة معالجة أزمة “داعش” عن الأزمات السابقة. فالحسابات الدقيقة لصانع القرار الخارجي نزع عنه “حماية الأصدقاء” مهما كانت التكلفة، وأصبح كل مستفيد من أمن المنطقة مطالب بالدفع. هذا الأمر لاشك أنه تمهيد لترتيب أدوار اللاعبين الدوليين فيما يتعلق بمسؤوليتهم تجاه الأمن بمنطقة الشرق الأوسط.

هذه السياسة أملها أيضا الوضع الاقتصادي الأمريكي، الذي تجاوز دينها 16 تريليون دولار، أي ما يمثل نحو 93%من الناتج الاجمالي الخام للولايات المتحدة. كذلك، تخفيض ميزانية الدفاع في سنة 2012 بنحو 487 مليار دولار، دون نسيان التحولات العميقة التي يعرفها الجيش الأمريكي، إذ اصبح مدربا على حروب الموجة الثالثة كما يسميها “ألفين توفلر” أكثر من “حروب التقليدية” و “ما قبل التقليدية” التي تعرفها بلدان الجنوب ومنها الشرق الأوسط.

هذه بعض الأسباب التي نراها مدخلا لفهم طبيعة الدور الأمريكي ومكانته في الحرب على”داعش”، ومنها يمكن الانطلاق لفهم آليات تدبير الأزمات الدولية في الأمد المنظور، في ظل غياب قيادة واضحة وقادرة على تحمل أعباء الأمن الدولي بمفردها، الأمر الذي سيعزز إنشاء تحالفات دولية إما إقليمية أو فرعية لتطويق الأزمات التي قد تمس بالأمن الدولي، وبحرية التجارة العالمية.

شاهد أيضاً

أكادير تحتضن الملتقى الأول لتجار المواد الغذائية

تحتضن مدينة أكادير من 24 الى 26 يوليوز الجاري الملتقى الأول لجمعية تمونت لتجار المواد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *