الدولة المتنازع بشأن أدوارها

حميد بوهدا

باحث في العلاقات الدولية

إذا كانت إتفاقية “وستفاليا” أصل ومنشأ الدولة في التاريخ كمفهوم حديث بأركانه الأربعة (الشعب و السلطة والإقليم والإعتراف الدولي)، فإن اتفاقية “روما” لسنة 1957 كانت بداية تراجع هذا الكيان عن أدواره الرئيسية؛ فالاتفاقية الأولى ترى في الدولة آلية ومفهوم يمكن وحده أن يجلب الأمن إلى أوربا، في حين رأت الاتفاقية الثانية أن هذا الكيان لم يعد قادرا على ضمان الأمن والرخاء معا. اليوم، يعد غياب الحدود بين الدول الأوربية مصدر للأمن، والإبقاء عليها يهدد الأمن الاقتصادي، فالحواجز بين الدول لم تعد تساير التطور الغربي ومزاج سكانه، كما أنها مؤشر على عهد بائد، وأن أقل ما يمكن القول عنها أنها جلبت حربين عالميتين الأولى والثانية كانت أوربا مسرحا لهما.

 إن المتتبع لا شك أنه سيلاحظ، أنه في الوقت الذي اتجه فيه الغرب نحو تجاوز المفهوم الويستفالي لصالح التكتلاث الإقليمية، مازال الجنوب يتحدث على بناء الدولة والسيادة، وهو ما يعكس حقيقة أوضاعه السياسية التي لم تتلمس بعد الطريق الصحيح إلى الفكر والمؤسسة الدولاتية . وقد سيطر هذا الهم لدى بعض الجهات المانحة للمساعدات لدول الجنوب، حيث أن العديد من برامج الإعانات تشتغل على برامج تأهيل الدولة وبنائها من خلال محاربة الهشاشة وتمكين قدراتها المؤسساتية. في حين تطبق مؤسسات المالية الدولية نظام المشروطية منذ التسعينات للتحكم في المخرجات السياسية والاقتصادية لمعونتها.

الدولة في الغرب: عندما تنحت ثقافة ما بعد الحداثة المفهوم الذي يلائمها:

يقول “روبرت كوبر” في كتابه “تحطم الأمم: النظام والفوضى في القرن الحادي العشرين”، إن “نظام الدولة في عالم ما بعد الحداثة أخد في الانهيار أيضا، ولكن خلافا لما قبل الحداثة، فإنه أخد في الانهيار في مزيد من النظام بدلا من الفوضى”. هذا الاتجاه الذي يمثل الاتحاد نموذجه الأنجح والأكثر تقدما لحد الآن، يبين عمق التحول الذي أفرزه انهيار جدار برلين، الذي لم يكن انتصارا فقط للمعسكر الغربي على المعسكر الشرقي، بل انتقالا للنظام ما بعد ويستفالي، أي التخلص التدريجي من ثقافة ميزان القوى.

فالانهيار الذي يشير إليه “كوبر” في وصفه لنموذج الدول الأوربية في الوقت الراهن، يقصد به تخليها عن العديد من الصلاحيات لصالح بروكسيل من جهة، وتفويض سلطات مهمة للجهات والأقاليم من جهة ثانية، فهي عملية تفكيكية تعرضت لها الدولة في الغرب، لكن لم تؤدي إلى الفوضى بل إلى مزيد من الأمن، وهي ظاهرة غريبة تتنافى مع الارث الثقافي السياسي الكلاسيكي الذي يعتبر سلطان الدولة واحتكارها للعنف المشروع هو الذي سيصون ديمومتها.

هذا الطرح الجديد ينبني على محددات جديدة، منها على الخصوص، إعادة بناء النظام الإقليمي والعالمي على الأسس الاقتصادية، ما يعني توسيع نطاق السوق على حساب نطاق الدولة، لهذا طغت مفاهيم الاقتصاد على الفكر وغزت لغة السياسة. وتقلص الفصل بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية، حيث انتقلت بعض المواضيع التي كانت من صميم الشأن الداخلي للدول إلى مستويات ما فوق الدولة -أي الإقليمية-. وتعد المحكمة الأوربية لحقوق الانسان نموذجا للتوجه الجديد، إذ أن ولاياتها في فصل النزاعات إقليمية، فهي تبث في جميع نزاعات الأفراد المنتمين إلى الاتحاد الأوربي. كما كانت معاهدة القوات التقليدية في أوربا ثورة حقيقية حيث ألزمت الدول على التبليغ عن ترسانتها من الأسلحة، وهو المجال الحساس الذي لا يمكن الدخول إليه في السابق، هكذا تساهم الشفافية بين الدول في صنع السلام، بعد أن كانت سرية  صفقات الأسلحة هي مصدر الأمن والتهديد. فأوربا انتقلت من ثقافة توازن القوى إلى ثقافة توازن الضعف، بعد أن دمرت أسلحة بناء على الاتفاقية السابقة، وحافظت على الحد الأدنى لأمنها الداخلي، ووضعت أمنها الخارجي بين يدي الناتو. في الوقت نفسه، أصبح البنك المركزي الأوربي يرسم السياسة المالية للدول 27 المنتمية إليه، ويعالج أزمات بعض الدول المالية، مثل ما فعل مع اليونان. لكن ما تخلصت منه أوربا – أي نظام الدولة- أصبح حلما لدى كيانات الجنوب.

الدولة في الجنوب بين آمل البناء وواقع الفشل:

إذا كان انسحاب الدولة في الغرب من العديد من المهام الاقتصادية والاجتماعية ناتج عن تطور عادي شمل الدولة والمجتمع هنالك، فإن تراجعها، بل إنكشافها، في الجنوب أدى إلى الكوارث والفوضى والانهيارات الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية. لهذا، كان مطلب بناء الدول في الجنوب في مقدمة أجندة المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف، وخلصت المؤسسات الدولية إلى أن تقليص مداها لا يصلح إلا في الغرب، وانتقدت السياسات التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والتي كانت تعكس حقيقية سياسات دول المركز الرأسمالي وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. هذه البرامج خلفت كوارث لا تعد، لكونها لا تحترم النمو الطبيعي ومستويات التطور التاريخي لهذه الكيانات، إذ وصلت نسبة الفقراء خلال تسعينيات القرن الماضي بإفريقيا إلى أزيد من 50% بعد أن كان بداية الستينات لا يتجاوز 10%. لهذا عاد سؤال بناء الدولة إلى الساحة الاستراتجية والفكرية الدولية، وتوج ببرامج بناء الدولة في العديد من المناطق.

يعرف “فوكوياما” بناء الدولة على أنه “تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والإكتفاء الذاتي”، وهي الدعوة التي جاءت بعد النتائج الكارثية التي خلفتها الخصخصة للعديد من القطاعات الحيوية في دول الجنوب، وانحصار المعونات الدولية بعد أن كانت “سيروم” دول العالم الثالث في ظل الحرب الباردة، خاصة وأنها معونات إنسانية برهانات وخلفيات سياسية. كما ترهلت القبضة الديكتاتوية بفعل تكنولوجيا الاتصال وتحولات البيئة الدولية وظهور المحكمة الجنائية الدولية في عقد التسعينيات من القرن الماضي. واقع ساهم في إنكشاف دول الجنوب، وزوال الستار عن ضعفها وفقرها، في زمن تشكل فيه التنمية الاقتصادية الحجر الأساس في سلم ترتيب الدول.

فإذا كان إنهيار الدولة في الغرب أدى إلى مزيد من النظام كما يقول “كوبر”، فإن تراجع مداها في الجنوب، أنتج لنا العودة إلى أشكال تنظيمية ما قبل الدولة، إذ أصبح تعريف الناس لذواتهم ينبني على أسس دينية أو عرقية أو مذهبية، وهم لا يتحملون المسؤولية وحدهم في ذلك طبعا، بل إن ما تم بنائه من قبل الأنظمة الديكتاتورية- التيوقراطية والعسكرية لم يكن بالدولة الوطنية، بل بدولة طائفية بلباس عسكري أو غير ذلك. فالولاء لم يكن للدولة ولا لثقافة مشتركة بل للزعيم، نظرا لما يتمتع به من قوة البطش بالمخالفين له. هذا الوضع الذي بدأت أوراقه تتساقط، رغم المقاومة التي يبديها بعضها، أوضح لنا حقيقة أن الجنوب لم يعرف إلا “الدولة” الديكتاورية أو القبيلة أو “الدولة القبيلة”. فالانتقال إلى نظام الدولة لم يكن انتقالا سليما، بل كان قسريا وأمنيا، بعد أن قضت الإمبراطوريات الاستعمارية على كل الأشكال التنظيمية السابقة وغيبت المعطيات الثقافية في رسم حدود الكيانات الجديدة. استيراد الهياكل الفارغة من الثقافة المدنية، جعلها تنهار بسرعة أمام التحولات التي فرضتها العولمة والنيوليبرالية منذ أواخر التمانينات من القرن الماضي.

وتكمن خطورة الدول الهشة في كونها تهدد الأمن والسلم الدوليين في زمن الانفتاح، فهي مصدر الهجرة والأمراض والمخدرات والعصابات العابرة للقارات والسوق السوداء للأسلحة والحروب الأهلية ومشكلة اللاجئين، فهي عبئ على النظام الدولي. إن غياب المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العديد من الدول يساهم في تفاقم الأزمات في دول الجوار خاصة في إفريقيا، ما يرفع تكلفة الأمن والنظام. فالتحول من البراديكم الجيو-سياسي الناظم للعلاقات الدولية في فترة الحرب الباردة إلى براديكم جيو-اقتصادي الناظم لها في الوقت الراهن، جعل العديد من دول الجنوب تغادر مسرح التفاعلات الدولية الإيجابية لتدخل ضمن خانة التفاعلات السلبية. كما ساهم ضعف مساهمة الدول النامية في الاقتصاد العالمي، بعد الثورة الخضراء التي حدثت في الغرب واستغناء هذا الأخير عن منتجات دول الجنوب، ضربة لإمكانيات حياة هذه الدول. هكذا فقد الجنوب “الدولة” ومكانته في عالم يعترف فقط بالفعالية الاقتصادية.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *