في هذه النافذة سنقدم مجموعة من اليوميات الحياتية لأرملة شابة وهي الشاعرة والفنانة زورا تانيرت زوجة المرحوم الفنان الكبير عموري مبارك، يوميات بيضاء مؤلمة تحكي فيها “زورا” عن حياتها وتتوسم من خلالها أن تكون نقطة في بحر من التغيير في مجتمع تعاني فيه كل امرأة ترملت، وسندرجها على شكل سلسة تحكي عن الأحداث الجارية والماضية.
زورا تانيرت
الحلقة الثامنة
اقتحمت الأحزان حياتي وزاد حرُّ الالم ببياضي هذا..فموت انسان كان وجوده يعادل مصطلح الأمان بكل حمولاته العميقة لم يكن سهلا..وجوده الى جانبي كان يعني.. لن أموت.. لن أحزن.. لن أبكي.. لن استسلم..كنت قوية به وكان بوجودي أقوى!
ان يتوصل المرء لاستيعاب حقيقة ما صعب جدا..لكن التأقلم معها واجب في ظل وجود روح صغيرة تحتاج للحب..والأمان والحنان،إنه طفلي!
لم أعد أزور أحدا .. توقفت عن اشتياقي للجميع..وقررت أن أعيش لبياضي ما تبقى من أشهر لا ادري كيف لا زالت تُفرض على المرأة في ظل تقدم العلوم وتطورها.. طفلي ذو الأربع سنوات كان النصف الاخر الذي تبقى لي.. عند رؤيته لبياض أمه لأول مرة لم يستوعب.. وببراءة طفل يجهل سبب هذا الكم الهائل من البياض الذي يلفني قال لي بلسانه الذي لم يتقن بعد كل البجديات: ما هذا ماما!؟
السؤال كان صعبا وقتها.. لكنه طفل ذكي عرف أن عناقي له جواب على كل أسئلته فلا هو اعاد السؤال ولا انتظر مني جوابا!
فترة بياضي كانت ايامها مستعصية وعنيدة.. حتى طفلي صار يحس بالملل.. ملل أضحى ضيفا ثقيلا ومنعدم الضمير.. تلقيت اتصالا .. كان من صديقتي الغاضبة من اعتقال نفسي في البيت .. اقترحتْ أن نأخد طفلي لمكان ما لينفس عن روحه ويلتقي اطفالا في سنه .. يستمتع باللعب معهم..وفعلا .. خرجنا.. رغم أن فعل الخروج صار محرما..فأنا مدفونة وعليَّ البقاء في قبري!
اخدنا الطفل الى حديقة مجاورة..وكم كانت سعادتي كبيرة وأنا ارى قرة عيني يلعب ويضحك مع أقرانه..حر.. طليق كعصفور طار وحلق بعيدا عن قفصه.
جلست وصديقتي نراقبه و نتحدث عن مشاغل الحياة..وفي نفس الوقت نحس أننا مراقبات من عيون نون نسوةٍ تكاد تلتهمنا.. لم نعِر الامر أهمية بل حاولنا تجاهلهن وعدم الاكتراث.. فما كان ينتظرنا غائبا عن عقولنا ومنطق تفكيرنا.
احدى تلك النسوة .. على الأرجح انها اشجعهن.. اقتربت بعد أن توضح انهن كن مجتمعات يناقشنني.. اقترب ذاك الجسد الضخم مني ودون القاء تحية ولا سابق انذار ..دفعتني بطريقة احتقارية وقالت: الالة الالة.. الا تخجلين من نفسك؟
توقف ضخُّ الدم في عروقي.. ووقفت وانا استغيت بآخر قطرةِ صبر اعتصرها حتى ارى ماذا تريد هذه الضخمة مني.
قلت :وماذا تريدين وما شأنك؟
اتكلم وغصة حرَّى في الحلق تكاد تشتت دموعي..
قالت: انت ارملة اليس كذلك؟
قلت:وما شأنك ومن اعطاك الحق في التدخل ودفعي بهذه الطريقة.. من أنت!؟
قالت وهي تصرخ في وجهي: ادخلي بيتك .. واستري عرضك.. فأنت تعذبينه.. اخجلي من نفسك.. هيا اذهبي الى بيتك.. لا بد ان المسكين يتعذب بسببك!
المرأة تطردني بكل وقاحة من حديقة عمومية..أين المنطق في هذا؟
لا حق لها حتى بأن تنظر الي.. فما بالك بضربي واحتقاري وطردي.. امرأة لا أنا اعرفها ولا هي تعرفني.. لا هي رأتني من قبل ولا أنا رأيتها..تقتحم حدودي بكل بساطة..اليست هذه كل الوقاحة!
المرأة اعتقدت ان بياضي يعني ضعفي.. يعني هزيمتي .. يعني استسلامي.. يعني سكوتي! اعتقدتْ أن محاولتها لتأنيب ضميري بخرافاتها اتجاه نصفي الثاني قد تنجح.. او قد تحرك داخلي معتقداتها التي لا وجود لها في حياتي..لكن هيهات يا نون النسوة بما تفكرين!
استحضرت لحظتها ذاك الكم الهائل من الضغط والعنف الفكري الذي تعرضت له منذ بداية مسلسل هذا البياض اللعين.. استجمعت كل قوتي.. وكل قواميس لغات الشارع الوحيدة التي ستنفع في حضرت الجهل والغباء الواقف امامي ..وانهلت عليها بوابل من السب والشتم ولولا صديقتي لكان ذاك اليوم نهاية لإحدانا.. لقد كانت النقطة التي افاضت الكأس.. صببتُ جام غضبي عليها وعلى لعنة التقاليد والخرافات التي تُلزمني بممارستها غصبا لا طوعا..ولولا ذرة العقل التي كانت تحركني لاقتلعت بياضي في وجهها وشنقتها به.. !
عادت الضخمة لمكانها..ولم يكفيني ما فعلت.. بل عدت الى مكاني رافعة رأسي متحدية وقاحتها.. وجلست مدركة ان ما سيستفز تلك الضخمة ورفيقاتها هو بقائي بل وضحكي بأعلى صوتي وقرارة نفسي تصرخ: اذهبن انتن وخرافاتكن الى أقرب محطة للجحيم!
كيف يعقل ان يتعذب ميت حي في قلوبنا.. كيف يُعذب انسان وفلذة كبده سعيد وسط اقرانه.. أي الاه عاقل سيتخد خرقة بيضاء سببا للتعذيب.. ماهذا الهراء..وما أنا فاعلة امامه!؟
بعد أن اكتفى طفلي من اللعب..وفي طريقنا للعودة انا وصديقتي قبيل غروب الشمس بقليل.. كنا نتحدث عما حصل ونحاول استساغته .. فإذا بامرأة تلف جسدها بسواد ينم عن توجهها العقائدي تستوقفني قائلة: عذرا سيدتي عليك بالاسراع لتدخلي بيتك.. فالمؤذن أوشك على أذان المغرب!
كنت قد اذخرت بعضا مما لم تسمعه الضخمة عن لساني ألقيت به في وجه صاحبة الخمار .. وأكملنا الطريق .
آه منك ايتها التاء .. آه لو تدرين أن المذكر لم يجرحني طوال مدة بياضي.. بل كان احترامه لي وقضاءه لمصالحي يفوق كل التصورات.. لم ارى منه لا نظرات شفقة،لا نصائح، لا تدخل..لا احتقار..لا كلام جارح ولا اي شيئ مما حاصرتني به أنتِ!
كنت ايتها التاء اقسى علي من قسوة الموت.. تحاربينني.. تحاربين قدري.. وتعرِفين كيف تدافعين عن حقوق الرجال الاحياء منهم والاموات بكل استماتة وعنف..!
عنفتني أيتها المرأة بكل قوتك..عنفتني في الوقت الذي احتجت فيه لمساندتك كونَ الطبيعة وحدتنا.. لكنك خذلتني.
دفنت نفسي داخل غرفتي وحسرتي على النساء داخلي بركان يسعر..أخذت قلمي وبياض أوراقي وهمست للغالي حروفا..بعدها نِمت ولسان حالي يقول:
ما هذا العنف منك ضدك يا تاء التأنيث!
يتبع..
Iziil
Ifoulki