بقلم: الدكتور أحمد الطاهري
الحلقة الأولى: بواكير فجر جديد أم مقدمات ظلام دامس ؟؟
أن يظل عشرات الآلاف من المواطنين بالحسيمة وبلاد الريف بأمهاتهم و نسائهم وأخواتهم، رجالهم وأطفالهم، شيبهم وشبابهم، على مدار شهور يهتفون في الأماكن العامة بكلمة الحق، مطالبين بأبسط شروط العيش الكريم. وأن يظلوا جميعا ـ على اختلاف مستوياتهم ـ متيقظين في حماية الممتلكات العامة واحترام قوى الأمن ومؤسسات الدولة ورموز الأمة، فذلك ما لم نعد نراه في عصرنا لدى الشعوب المتحضرة والسائرة في طريق النمو في كافة أنحاء المعمور، إذ غالبا ما ينفلت غضب الشباب أثناء فترات الاحتقان في كبريات حواضر الدول الأروبية وصغرياتها وفي أطراف الأرض بأمريكا وآسيا فتتدخل قوى الأمن لإرجاع الأمور إلى نصابها. أما في محيطنا العربي وعمقنا الإفريقي وامتدادنا الإسلامي، فلا يخفى كيف تتدحرج الأمور ـ بين يوم وليلة ـ إلى أتون الهاوية فتنقض السباع والنسور الضارية والضباع المتربصة على الغنيمة، وتتحرك آلة الإبتزاز الدولية لنهب تحف وثروات العرب والمسلمين بجشع منقطع النظير، وتتسلط أجهزة إعلامهم لتحويل مآسي ملايين الخلق وخراب ديارهم إلى مواقع فرجة، وتجتهد أقلام مفكريهم وقرائح فنانيهم في تشويه معالم حضارتنا.
أما أن تتفتق أذهان جيل واعد من الشباب بالريف المتزنين في فكرهم، المتحكمين في غرائزهم، غير المنساقين مع دعوات الدعاة المغرضين من مختلف الألوان ومن المتاجرين بمستقبل الأمم، وقد تأهبوا للعمل بتلقائية في صياغة آمال بسطاء أهلهم في عودة الانسجام الطبيعي بين الإنسان ووطنه، ضمن ورقة عمل تسهل على الأجهزة الحكومية مباشرة عملها فورا، دون صرف الملايير على أي مكتب من مكاتب الدراسات، فذاك ما يستدعي الاحترام. ماذا يحدث في الريف؟ لا أدري هل يصح لأي كان من غير أهل البلد العقلاء المتواجدين بعين المكان والخبراء من رجالات الدولة الأوفياء لبلدهم المحترمين لمهنتهم المحتكين بتطور الأوضاع بصفة مباشرة أن يكشف لأولي الأمر وجمهور المواطنين عن تفاصيل ما يحدث يوما بيوم.
وها قد تركت النفوس الحاقدة والقلوب الجاحدة والأبواق الصدئة والأقلام المأجورة في كثير من أنحاء المملكة لبث سموم الكراهية في أوساط المواطنين وقد أسرفت في النيل من أهلهم الطيبين ببلاد الريف. وها هي المفرقعات الإعلامية لا تتوقف عن الانفجار في وجوهنا على مدار الساعة وإيذائنا جميعا مهما دنت أو بانت ديارنا عن موقع الحدث، مما يبعث في نفوسنا حزنا دفينا. وإذا كان من الممتنع عن عاقل أن يهذر بالكلام في زمن الاحتقان، فالواجب يدعو أهل القلم ليس لمتابعة تفاصيل ما يحدث على مدار الأيام والشهور بل في تأمل جوهر ما حدث.
لقد سبق أن بينا في أكثر من مناسبة أنه باستثناء الديموقراطيات التشاركية الصغيرة بشمال القارة الأروبية، فإن العالم بأسره بمختلف دوله وأشكال نظمه التمثيلية ودعواته الفكرية قد انتهى به المسار إلى مداخل الأزقة غير النافذة، وقد انسدت في وجه الجميع آفاق الاجتهاد بصياغة معالم الخلاص فانتكسوا إلى الوراء باحثين لشعوبهم عن مخارج في الديموقراطية المسيحية أو النظم القيصرية أو الأبوية الأتاتوركية أو في صياغة أشكال حزبوية هجينة من أمثال تجربة بوذيموس الإسبانية أو حركة تسيبراس اليونانية أو ما إلى ذلك. وها هي مشاعر التوجس والخوف من المستقبل تستحوذ على ألباب الخلق، ليس بالريف وبقية مناطق البلاد فحسب بل في كافة أنحاء المعمور، إذ أفلح الطغاة المتحكمون في رقاب الناس بواسطة زرع بذور العنف في تحقيق هدفهم، ولم يعد أحد يعلم متى وأين سيضرب الإرهاب.
أما العرب والمسلمون فلم يعد أمامهم في المستقبل المنظور من مخرج، بعدما استنفذ الطغيان مهمته التاريخية كاملة في إتلاف النخب وإطفاء أنوار الحكمة، سوى الهلاك في أتون الحروب الإقليمية والفتن الداخلية والخراب والدمار الشاملين. أما هذا البلد الأمين بحكمة عاهله وبساطة أهله وطيبوبة خلقه والرضى بالقليل والميل إلى التسامح، فقد انبجس من حيث لا يحتسب ببواكير فجر جديد. فإن نحن أدركنا مغزاه وتثبتنا في قراءة معالمه وتريثنا في معالجة مساراته فسوف يكون لنا شأن بين الأمم، وإذا ظللنا على عهدنا جاهلين متجاهلين فقد تنخرم بنا السبل، لا قدر الله. إن ما حدث في الريف خلال الأشهر الست الأخيرة يكمن ـ في نظري ـ في اهتداء أهلنا هنالك إلى الارتباط من جديد وبشكل تلقائي بأصول “نظام الجماعة” المغربي الأصيل الذي شكل طوال قرون عز عطائنا الحضاري أساس نظامنا السلطاني وحصن أهل المغرب الحصين الذي لا يخترق نسيجه.
إنه نظام الجماعة الذي تتبلور قياداته وتتجدد بشكل تلقائي فتكون بمثابة اللحمة التي تربط بين الحاكم والمحكوم. ولا يخفى عن المهتمين بذاكرة البلد التاريخية كيف تخلينا منذ مدة ـ في سياق ما عرف لدى أشباه المفكرين: بالحداثة ـ عن كل ما يربطنا بنظام الجماعة الذي طالما كان وراء منعة المغرب وقوة سلطانه وتماسك بنيانه وتدفق خيراته واستمسكنا بالتماثيل الحزبية المقتلعة من بيئات بلدان أخرى التي أوصلتنا إلى ما حان فيه. إن هذا المولود الذي نعاين معالمه اليوم قد رأى النور بالريف بعد طول مخاظ في عديد من المناطق والأحياء المهمشة بربوع المملكة مبشرا بعودة الدفئ من جديد إلى أركان الوطن لتمتين عرى الرباط الواصل بين الحاكم والمحكوم؛ والواجب يدعو العقلاء إلى إحاطته بكامل الرعاية وتعهده بواجب الحماية ومواكبة مساره بالتوجيه والعناية، بما فيه صلاح الأمة.
* أستاذ التعليم العالي (المغرب والأندلس)
وحرر بمدينة إشبيلية يوم الثلاثاء 30 ماي 2017