تتركب الوضعية السوسيولسانية بالمغرب من تعددية لغوية، و كل مركب لغوي منها يوظف في مجالات متباينة و مختلفة. هذه الوضعية التعددية التي تتعايش فيها اللغة الأمازيغية الأم و اللغة العربية ثم اللغات الأجنبية (الفرنسية و الإسبانية) نجدها توظف في مجالات مختلفة، منها من أخذت صفة لغة مؤسسات الدولة، كاللغة العربية التي تعتبر اللغة المتداولة في مؤسسات الدولة وكل المرافق العمومية ثم الدارجة العامية التي يتداولها جميع المغاربة باعتبارها الرابط اللغوي بين جميع المناطق المغربية، بالإضافة للغة الأم الأمازيغية التي تنقسم بين اللغة الممعيرة التي هيئها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية و لغة أمازيغية أخرى عامية بتعبيرات متباينة بين الأقطاب الأمازيغوفونية الثلاثة، أما فيما يتعلق باللغات الأجنبية نجد الفرنسية تصنف في مرتبة اللغة الأجنبية الأولى للمغرب، و الإسبانية التي بقيت في المناطق التي كانت تحت النفوذ الإسباني في فترة الإستعمار، لكن اليوم تشهد تراجعا كبيرا من حيث التداول، و دخول اللغة الإنجليزية كمعطى جديد يفرض نفسه.
في نفس المنحى و بمعرفتنا للتنوع اللغوي الذي يتأرجح بين المؤسساتي و العامي و الأجنبي، يمكن الاقرار بوجود ظواهر لسانية بسبب حضور قانون التأثير و التأثر بين هذه اللغات، وضمن هذا التداخل اللغوي نرى ان من تأثرت بشكل إيجابي يعود عليها بالنفع و بالمقابل نجد التي تم التأثير عليها بشكل سلبي يؤدي الى تلاشيها، لهذا نجد من بين هذه اللغات التي تلقت حماية و أمنا و تطويرا كاللغة العربية أو بالأحرى برنامج التعريب الذي ابتدأ مؤسساتيا منذ الإستقلال ليقتحم الحياة العامة للفرد، بالإضافة للغة الفرنسية التي استمدت قوتها من السيطرة العسكرية و السياسية على المغرب في مرحلة الإستعمار و اليوم بالقوة الإقتصادية.
بناء على ما سبق، فإنه من المنطقي في الأخير أن نجد أنفسنا أمام لغة قوية و أخرى ضعيفة، و اللغة الأمازيغية التي تعتبر اللغة الأصلية التي يتداولها اليوم قرابة 30 مليون متكلم عبر العالم، على نحو لهجات تواصل شفهي بالأساس، و ما فتئت هذه اللغة خلال حقب تاريخ المنطقة في ارتداد متواصل أمام هيمنة العربية لأسباب سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية… أسفرت سيرورة إنقاص الأمازيغية على ما عليه الوضع راهنا، حيث باتت هاته اللغة مهددة بمخاطر الإنقراض في الأمد المتوسط ) أحمد بوكوس، 2013).
إن الحديث عن التنوع اللغوي بالمغرب يستدعي الحديث بالمقابل على السوق اللغوية التي تحوي هذه اللغات، و التي توضح بشكل جلي اللغة الأكثر استهلاكا، و السوق اللغوية مؤشر حاسم لمعاينة اللغة في سلسلة تطورها، و بما أن اللغة بذاتها أصبحت تحتكم إلى قانون العرض و الطلب المتصل بشكل رئيسي مع علاقات الإنتاج و التي بدورها تحتكم بشكل جدلي للسياسية وما يدور في فلكها، فإنه باستحضارنا للأمازيغية كسلعة لغوية في بداية شق طريقها، نجدها في تنافسية غير متكافئة مع اللغات الأخرى التي أسست لهذه السوق اللغوية منذ البداية، و تسهم هذه الوضعية في الإجتياح الكاسر للإقتراض المعجمي و الأسلوبي، خاصة من العربية و الفرنسية، الشيء الذي يزيد من إضعاف الأمازيغية أكثر، و يجعل منها لغة تقف على حافة الإندثار.(نفس المرجع)
في نفس سياق الحديث عن التعدد اللغوي و ما يشكله من تنافسية في السوق اللغوية و وضوح عدم التكافؤ، يجعلنا نستغني عن مفهوم الإحتكاك اللغوي و نستبدله بالتنافسية اللغوية، و اللغة التي تستمد الشرعية السياسية فإنها تفرض نفسها بكل أريحية، و اللغات تظهر و تتلاشى و تتسع مجالاتها و تنقل، و هذه العملية كثيرا ما يتصل بعضها ببعض، و الإحتكاك اللغوي يحدث كلما احتك متحدثوا اللغات بعضهم ببعض، و اعتمادا على هذا الاحتكاك فإن واحدة من اللغات المستخدمة تحل محلها لغة أخرى أو تتراكب معها أو تضاف إليها حسبما تكون الحـالـة، والـعـلاقـة بـين الـلـغـات يمكن أن توصف – باختصار – باعتبارها نوعا من المنافسـة (فلوريان كولماس، 2000).
من خلال ماسبق نرى أن الأمازيغية في صراع وجودي، مما يستدعي البحث عن مداخل جديدة و واقعية لتجاوز هذا الصراع، نستعرضها على الشكل الأتي:
- المدخل السياسي:
من الملاحظ أن أي تقدم للأمازيغية الى الامام في بعض الخطوات يأتي وفق الإرادة السياسية، و نقصد هنا بالإرادة السياسية، تلك المؤسسة التي تقع في يدها السلطات المباشرة، و هنا بشكل مباشر، نشير إلى المؤسسة الملكية. فالبرغم من أن خطاب أجدير قد أحدث منعطفا تاريخيا فيما يخص الأمازيغية، أسفر عليه تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي يعد أحد بوادره الجزئية، انقلبت على إثره خريطة مسار الأمازيغية في المغرب، بعد حصرها في القوانين التنظيمية العالقة في غرفتي البرلمان، الذي يعد من جهة كابحا قانونيا، و من جهة أخرى يؤكد عن انتقال المسؤولية من المؤسسة الملكية إلى المؤسسة البرلمانية، و يبقى الملف سجالا بين الفرق البرلمانية، و خاصة أن المغرب بعد رفعه شعار دولة المؤسسات، يجعل الشعب المغربي في أخذ و رد مع الحكومة، و الذي لن يحقق أي شيء لاسيما أن بوادر الإرادة الحقيقة غائبة، لتبقى في الأخير فقط ورقة للتلويح بها في بعض المناسبات السياسية. و بما أن الدولة المغربية وضعت البرلمان كمكان للنقاش الوطني بكل قضاياه و ملفاته، و يمكن للأحزاب من خلاله أن تؤثر في صنع القرار كما الشأن للعديد من الأحزاب السياسية السابقة في مراحل متفرقة من التاريخ، فإن مدخل تأسيس أداة حزبية منيعة ترافع عن المطالب الأمازيغية يعتبر مدخلا يختصر الكثير من المسافة، رغم أنه لم تكن هناك أي تجربة سياسية أمازيغية على هذا النحو لكي يتم الحكم عليها بالفشل أو بالنجاح، و هذه الرؤية لصيقة بشكل كبير مع النضج السياسي الأمازيغي لأنه بعد قضائه عشرين سنة في الشارع في تنظيمات مجتمع مدني نجد أنه استنفذ صلاحيات هذا المدخل التنظيمي و ما كان قادرا على تقديمه في هذا المستوى قد نفد و الفكر السياسي الأمازيغي بقي عالقا في تلك المرحلة، مما جعله لم يستوعب بضرورة الإنتقال إلى مرحلة أخرى بالإستعانة بأدوات تنظيمية أخرى تجعله في مصب مراجعة التصور و تحديثه.
- المدخل الإقتصادي:
يعد الإقتصاد أهم عنصر محدد للبنية الإجتماعية باعتباره بنية تحتية تؤثر في العناصر الفوقية التي تتمركز فيها اللغة و الثقافة، و لا بديل عن الأساس اللإقتصادي في تطورهما بشكل إيجابي. في هذا السياق و باستحضار الوعي القومي للبرجوازية الأمازيغية التي تختار أن تكون دائما في صف الدولة التي تتأثر من إيديولوجيتها التي تنهجها على المجتمع من خلال تحوير القضايا الوطنية و الأساسية، عبر قنواتها، الإعلام، المساجد، و جميع القنوات التي عبرها تتم عملية ترسيخ إديولوجيا الطبقة السائدة، لا يمكن لها أن تلغي هذا التحالف إذا مازالت هذه التحالفات الطبقية سارية المفعول لكلا الأطراف.
في دوامة هذا التحالف الهجين بين البرجوازية الأمازيغية من جهة و التي تعترف بأمازيغيتها سرا مع البرجوازية المتحكمة في السلطة التي تعرف بازدواجية هوياتية تتأرجح بين الهوية العربية المشرقية و الفرنسية الأجنبية التي تتمركز في أعلى قمة هرم بناء السلطة في المغرب، و التي تنظر لما يجب أن يكون، كالنقاش الأخير الدائر حول لغة تدريس العلوم، و من جهة أخرى عن عدم وجود قوة سياسية أمازيغية، فمن الضروري على البرجوازية أن ترفض الوعي بذاتها و الانخراط في هذه المعركة.
بما أن البرجوازية الأمازيغية التي اختارت تحالفاتها الطبقية، و التي تفرضها عليها موازين القوى، لا يمكن لنا التركيز عليها من أجل تلك الأمازيغية التي نحلم بها، بل إن اقتضى الأمر أن تجعلها آلية لتجاوز بعض المحطات السياسية كالعزف على وترها من أجل مصالح انتخابية ضيقة لا تعود بالنفع على الأمازيغية ، أو إن حدث تفاعل إلى أقصى مدى ممكن ستنزل القوانين التنظيمية و تفعل. في نفس السياق، يمكن أن نرى أنه بتشكيل قوة سياسية أمازيغية تؤثر في هذه البرجوازية الأمازيغية، لكن هذا يستدعي إعادة النظر في المفاهيم التي تؤطر العقل الأمازيغي و تكتيكات العمل، و التموقع بشكل واضح.
- مدخل الضجيج اللغوي:
في خضم هذه الإكراهات التي عطلت بوصلة الأمازيغية بالمغرب، تستدعي المرحلة ضبطها من جديد، من حيث البحث عن صيغة لتصور جديد يراعي المتغيرات السياسية و الإقتصادية. و نقصد بالضجيج اللغوي، سلك طريق الإنتاج بدون التفكير في العائدات، و الإنتاج هنا يحيط بالإنتاج المعرفي الغزير، أو بتعبير أخر، إعتماد الكتابة الأمازيغية في جميع المجالات و خاصة الإعلام الذي يعد الموجه الرئيسي للمجتمع، و استغلال وسائل التواصل الإجتماعي المؤثرة من أجل خلق ضجيج لغوي، يفرض على الأخر استهلاك هذه اللغة ما دمنا واعون بتنافسية اللغات و تطور اللغة المعينة يأتي على حساب لغة أخرى. و هنا يدخل مدخل تنظيمات المجتمع المدني الذي يعتبر أحد الوسائل في نشر هذه اللغة بخلق دورات تكوينية دورية و أيام دراسية باستغلال الأمازيغية أيضا للنفقات الموجهة للنهوض بالتعدد اللغوي ما دامت الأمازيغية لغة رسمية و وطنية و الغوص أكثر في جميع شرائح المجتمع لأن هذه الوسيلة التنظيمية هي فقط المدخل للوصول إلى هذا الهدف.
كخلاصة لهذه المقالة التي تعتبر مساهمة في إطار الدينامية التي تؤطر القضية الأمازيغية، نرى أن المداخل الثلاثة هما الأساس الذي يمكن أن تستند عليها الأمازيغية، و ذلك ليس فقط في جانبها المطلبي اللغوي و الثقافي بل حتى الإجتماعي و الإقتصادي، لأننا ما دمنا نؤمن بالمسلمة التي تقول: لا أحد سيناضل على الإنسان الأمازيغي لإسترداد أراضيه و حقوقه إلا هو … بنفسه. سنكون على الطريق الصحيح.
- أستاذ اللغة الأمازيغية