ما إن تحطّ السفن أثقالها حتى يتلاشى عناء الطريق، ويحلّ محلّه ارتياح غامر، كأنّ المكان يملك سحرًا خفيًا. أهو الهواء النقي؟ أم المياه العذبة التي لا تنضب؟ أم أنه مجرد شعور بالأمان بعد الخطر؟ واختفاء عباب المحيط الذي يلفح الوجوه، ويعيق الرؤية. لا أحد يعلم يقينًا، لكنه لا يقتصر على البشر وحدهم، بل يمتد حتى إلى جرذان السفن، التي تصبح أقل حركة ونشاطا، وأقل اندفاعًا نحو أكياس الحمولة التي تبقر بطونها، وتخرج أحشائها… السكون يعم المكان ولا يسمع الا صوت الحبال وهي تحتك مع خشب بدن السفينة. حتى السفينة تبدو انها غير متحمسة لمواصلة الرحلة، الأثقال أنهكتها، ولكن يجب متابعة الرحلة بعد التوقف. والاستراحة.
وادي ماست/ماسة لم يكن مجرد محطة عابرة في الطريق البحري الأطلسي، بل كان أشبه بأسطورة ترويها المياه لقوافل السفن العابرة. من يراه من سيف البحر أول مرة يظنه سرابًا، لكنه حين يصل إليه، يدرك أنه حقيقة لا تُنسى. في كل منعطف على الطريق، يتكرر اسمه بين البحارة والرياس: “كم تبقّى لنصل إلى وادي ماسة؟” “إذا وصلنا، سنستريح أيامًا قبل أن نكمل المسير.” سيبستيان “أين أنت يا وادي ماسة، يتساءل رامون ألفارو، يا جنة البحارة؟”
لم يكن هذا التعلّق به أمرًا عاديًا، فالوادي كان أكثر من مجرد ميناء طبيعي. كان ملتقى السفن تاناوين، ونقطة تتقاطع فيها أخبار المغامرات البحرية. هنا، يتأكد القراصنة من طريق التجار من أصورطي محترف يدعى بوتكَانت… كم من سفينة مرت هنا؟ يتساءل الرايس صاحب القرط… هل مرت هنا سفينة رفعت علم الضفدع الأخضر؟ نعم لقد مرت نعم مرت يقولها وهو يغمغم…، وأين اتجهت، يمتنع بوتكَانت عن الجواب ويحك سبابته بإبهامه، اه فهمت… يقدفه أشفار بوالخرص بقلنسوة محشوة…. عند دخولها الى البحر، وحين وصلت سيف البحر انعطفت في اتجاه الجنوب…. كيف؟ الجنوب؟؟ إنهم يتجهون الى واد أساكا بأيت باعمران… وما الذي تعرفه عن حمولتها…. ماذا حملت؟ يجيب، صاحب الواد أحمال من السكر الجيد، ونفسها من أسنكَار أومليل الشهي… وكم كانت أثقالها؟ كثيرة…، هل تحددت أسعارها، هنا؟ يحرك الرأس نافيا…. رسمت الخطة، ويقرر القراصنة ملاحقة السفينة، أملا في محاصرتها قبل دخول مرسى إيزروالن، وفي طريقهم الى مرسى واد أساكا يتساءل ألفاريس ماذا لو باعوا الحمولة في عرض البحر قبل ان يصلوا الى مرسى أساكا…. وهل سينتظرون قدوم قوافل تمبكتو؟، ولماذا سيسرعون في الرحيل عن مرسى وادي ماسة إن لم يكونوا لا يحملون في جوف سفينتهم أشيائ ثمينة وأحلى من السكر؟ كم سيمكثون في ميناء أكَلو؟ وكم من الوقت يلزمهم لتدبير أمور السفينة والحمولة؟
أما فرانسيسكو ألفاريز، وهو شيخ قراصنة المحيط تقاعد الآن…. لو طُلب منه الحديث عن وادي ماسة، لما انتهى كلامه. لم يكن الأمر بالنسبة له مجرد نسمات عليلة ومياه باردة وليالٍ هادئة تحت السماء الصافية، بل كان هناك ما هو أكثر. حكايات غامضة، أسرارٌ تتوارثها الألسنة، وأساطير تعود إلى عصور القراصنة والمغامرين. العجائز كنّ يؤكدن أن بينه وبين هذا الوادي علاقة خاصة، كأنه عشق قديم، لا يتكرر إلا نادرًا.
أما الذين شهدوا الوادي في فترتين مختلفتين، حين كان في أوج مجده وحين بدأت ملامحه تتغير، وبدأ مجده في الأفول فلهم رواية أخرى. سيقولون إنه لم يكن مجرد مكان يعجّ بأشجار تمايت والمياه، بل كان نبضًا للحياة، ملاذًا حقيقيًا للبحارة والقراصنة. كانوا يتوقفون هنا، يستريحون، يتزودون، ثم يمضون في دروبهم، باحثين عن أماكن أخرى، ربما أفضل، وربما أسوأ، لكنهم جميعًا، أينما ذهبوا، كانوا يحملون معهم ذكرى وادي ماسة.
(يتبع)