تعد المدرسة كمؤسسة عمومية أداة إيديولوجية فعالة لبلوغ الأهداف الإجتماعية و السياسية لكل دولة تعمل من أجل الحفاظ على ديمومتها في الحاضر و المستقبل، و من هنا يقترن مصير المدرسة بالمضامين السياسية للدولة و رهاناتها الثقافية و الإجتماعية و الإقتصادية وهذه القاعدة تكاد تكون مشتركة بين جميع الدول تقريبا، حيث تعمل المدرسة بعلميها و متعلميها على استنبات قيم التعايش المشترك بالإستناذ إلى ذاكرة جماعية تؤطرها حكياة سردية متفق عليها و لا تختلف المدرسة المغربية في هذا الطموح الكبير في بناء معنى له حمولة سياسية و إجتماعية و ثقافية، و في التأسيس لقيم مشتركة تنبني عليها رغبات الأفراد في العيش المشترك .
كما اشار إلى ذالك المجلس الأعلى للتعليم الذي أوصى بضرورة إيلاء التربية على القيم العناية المستحقة في بناء المناهج والبرامج مند المراحل الأولى التعليم و حتى المراحل العليا منه و توضيح مختلف الخيارات المتبنات في إدماجها مع وضع آليات لتفعيلها و تتبعها و تقويمها و العمل على التدقيق المستمر لغاياتها في ضوء المستجدات التي يعرفها هذا المفهوم على الصعيدين الوطني و الدولي .
كما أكد المجلس على دور المدرسة في تنمية السلوك المدني و الذي ارتكز على التوجيهات الواردة في الرسالة الملكية بتاريخ 2007 التي ربطت الغاية المثلى من تنمية السلوك المدني بتكوين المواطن المتشبت برموز و قيم الثقافة المغربية لاسيما الثقافة الأمازيغية و المتمسك بهويته الوطنية .
رغم كون المدرسة المغربية تتحرك في محيط مباشر مطبوع، بتعدد حمولاته التاريخية وباختلاف ألوان مناظره الطبيعية، وبتنوع لغاته وتعبيراته الثقافية، يمكن التساؤل كيف لسياسة تربوية أن تأخذ هذا الغنى بعين الاعتبار بشكل يجعل المدرسة قادرة على تثبيت التلميذ في محيطه، بتلقينه شعور الإنتماء إلى المجموعة الوطنية وروح التضامن المواطن اللذين يؤسسان التلاحم الاجتماعي؟
إن السجال حول الهوية بالمغرب تنامي بشكل أساسي مع تطور الحركة الثقافية، التي اعتبرت أن الهوية الوطنية كما تم تقديمها بعد نهاية الدولة الاستعمارية شابه خلل كبير، واعتبرت أن من واجبها:النضال من أجل إعادة الاعتبار «للهوية الأصلية» للمغاربة، لمواجهة التأثيرات الخارجية في صياغة وبلورة الهوية الوطنية، بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن النقاش حول الهوية اتخذ في بلدان عدة مسارات مؤلمة، بفعل تحوله إلى شكل من أشكال العنف السياسي والثقافي حالة الجزائر، في حين أن الحالة المغربية تعكس مسارا شاقا لصياغة الهوية لم يتعد حدود السجال الفكري والإيديولوجي.
ولئن كان الخلاف مازال بارزا حول مكونات الهوية المغربية ومرجعيات التفكير فيها، فمن المفيد جدا، نقل هذا النقاش-رغم تعقيداته الفكرية والإيديولوجية – إلى المدرسة كي تكون شريكا أساسا في صياغة الهوية الجماعية للمغاربة والدفاع عنها.
فبالإطلاع على الكتب المدرسية والوسائل الديداكتيكية ، بصفة عامة، يلاحظ أن قضية المغربة لا تنال نصيبها إلا بالكاد حيث لا يلقن التلميذ تاريخ المغرب برمته: حقب زمنية كاملة تسقط، وإكتشافات اركيولوجية تؤكد عراقة وغنى الحضارة يسكت عنها سكوتا تاما، وثقافتنا الشفهية والكتابية تتجاهل، ومفكرونا يحتلون دائما الصفوف الخلفية وراء الكتاب والمبدعين الشرقيين والغربيين، في سياق ضعف الذاكرة الذي تحميه المدرسة الوطنية.
لكن هل المدرسة المغربية الحالية بأمراضها و عيوبها و نقائصها قادرة على تجسيد قيم الهوية الوطنية ؟؟ و هل تملك من الفعالية ما يمكنها من توحيد كل الجهود حول القيم المشترك و الهوية ؟؟ و هل مازالت المدرسة تتمتع بالسلطة الرمزية و المعرفية و حتى التنظيمية التي تمنحها القدرة على التحكم في القيمة التي تتأسس عليها هويتنا و تنبع منها أفعالنا ؟؟
إن الواقع و للأسف يعكس ذالك تماما لأن المدرسة كما يقول صامويل جوشا “المدرسة مريضة بحال المجتمع أكثر مما هو مريض بحالها “، و عليه فإن أزمة المدرسة المغربية هي سبب و نتيجة في نفس الوقت لباقي الأزمات الأخرى سواء تعلق الأمر بأزمة هوية أو أزمة مواطنة أو أزمة نقاش و موضوع، فكل هذه الأزمات تتقاطع و تلتقي في فضاء المدرسة التي تغرق يوما بعد يوم في مشاكلها التي كلما استمرت تعقدت أكثر وسام الإنطباع بإستحالة حل مشاكلها، فالمدرسة اليوم تختنق بفعل هامشيتها وهشاشتها أمام كل الأزمات الذاتية التي تنتج عن الخلل في إشتغالها و الضعف في أداء و وظائفها، و التي تنتج أيضا عن ما يلحقها من أضرار خارجية مرتبطة بالإيديولوجيا و الثقافة ،
حيث كلفنا التخلي عن الدور الرئيسي للتعليم في ترسيخ قيم المواطنة و حقوق الإنسان و تنمية السلوك المدني و بتكوين مواطن متشبع برموز و قيم الثقافة المغربية و المتمسك بهويته الوطنية و تحويل التعليم إلى فضاء برغماتي مادي الهدف منه هو تحصيل المعدلات المرتفعة و شواهد التخرج حيث أصبح الفضاء خصبا للمتاجرة و التخلي عن القيم.
فبدون شك أن تأسيس المنظومة التربوية على أسس صحيحة هو أمر مشروط بتوفر عوامل كثيرة مترابطة ومؤثرة في بعضها البعض ثقافيا و
إقتصاديا و سياسيا و لا سيما العنصر المرتبط بالهوية و اللغة فالتعليم كما يرى المفكر والمربي الأمريكي الشهير جون ديوي هو ضرورة حياة وتجديد لها، كما أن المحيط العام، والبيئة الاجتماعية الذين تتحرك وتنجز فيهما العملية التربوية، وتمارس فيهما اللغة باعتبارها مكوَنا للعقل وملكاته أيضا، ليس مجرد ديكور خارجي محايد، بل هو شرط النمو والتنمية وشرط لرقي اللغة أو انحطاطها. وهكذا، فإن تحقيق المستوى المتطور في هذا الحقل الأساسي في حاضر ومستقبل شعبنا مرهون أولا وقبل كل شئ بالمستوى الثقافي والبيداغوجي للمعلمين الذين يفترض أن يكونوا من خيرة المثقفين المزودين بالمعرفة الواسعة والدقيقة، كل حسب تخصصه.
ولكن هل يمكن تصور مثل هذا في الوقت الذي نجد فيه الأستاذ المغربي مهمَشا ماديا بالدرجة الأولى، ومشتتا نفسيا، ومحشورا في زاوية مظلمة تبعده عن المعارف الحديثة الأكثر تطورا في شتى الميادين. إن مطالبة الأساتذة بالتطوير المتواصل لثقافتهم المتخصصة، وبترقية معارفهم اللغوية والفكرية، ومعلوماتهم العامة ذات الصلة العضوية بالمواد الدراسية التي يعلَمونها للطلاب والطالبات، وكذا تحسين كفاءتهم فيما يتصل بتقنيات التدريس الحديثة والفاعلة، أي ما يسمى بطرق وفنيات التدريس، حسب ميادين مختلف التخصصات.
إن تحقيق كل هذه الأمور في الميدان وبنجاح لا يمكن أن يتجسد فعليا بالنوايا الساذجة، بل إن إنجاز مشروع بهذا الحجم يتطلب أولا فلسفة جديدة لمنظومتنا التعليمية تتنفس تقدم عصرنا مع ربطها ربطا محكما بتحديث العقل، والوعي بالواقع الاجتماعي، والمحيط العام أولا، ويجب إحداث تغيير جذري وحقيقي في موقف الدولة من إطارات التعليم والشروع في جعل الوضع الاقتصادي لهؤلاء المعلمين محترما وموفرا للانسجام النفسي الضروري لأي عملية تربوية وتعليمية ناجحة ومنتجة، وفي خلق المكانة الاجتماعية لهم في أعلى هرم السلم الاجتماعي.
وفي الحقيقة، فإن واقع الأستاذ المغربي المادي، سواء على مستوى التعليم الابتدائي أو التكميلي أو الثانوي أو على مستوى التعليم العالي، هو واقع مزري حقَا وهذا عامل سلبي وخطير جدا أدى ولا يزال يؤدي إلى نتائج وخيمة وفي صدارتها اليأس والإحباط، والبحث عن وظائف أخرى بديلة، فضلا عن فقدان الثقة في مهنة التعليم ذاتها. وبهذا الصدد فإنه لا يمكن “أخلاقيا” وموضوعيا أن نطالب مُدرسا من المدرسين بتحقيق التحول التربوي والتعليمي الراقي والنوعي في اللحظة التي نجد فيها وضعه المادي المؤثر بقوة ومباشرة في معنوياته، في أسفل السافلين وهو الأمر الذي ينغص حياته اليومية، ويشل طاقته، ويحطم طموحه.
إن المدرس المغربي الذي يتقاضى مرتبا شهريا هزيلا ، لا ينتظر منه أن يقدم لنا حصادا تعليميا وتربويا يضاهي مستوى ما يقدمه مدرس في الدول المتقدمة . ينبغي علينا أن نقول الحقيقة وهي أن المعاش الشهري الهزيل للأستاذ المغربي لا يمكن أن يقارن أبدا بما يتقاضاه معلم أو أستاذ جامعي حتى في الدول الفقيرة المجاورة للمغرب أو مقارنته بما يتقاضاه المعلم أو الأستاذ الجامعي في فرنسا أو إسبانيا.
ومن هنا، فإن النقاش الدائر حاليا حول التعليم و بأي لغة هو مجرد بذخ سياسي أو مجرد استعراض ، وهو في تقديري أيضا انحراف عن المطلب والطموح الشعبيين المتمثلين في جعل مدارسنا، وثانوياتنا، وجامعاتنا ذلك المسرح المعرفي الذي تمارس فيه اللغة الراقية وتنتج فيه الثقافة العليا العالمة، و”فضاء” لتوليد الفكر والفن المتقدمين والعلم الأكثر حداثة من جهة، ومن جهة أخرى فهو أيضا هروب من مواجهة الحقائق التي تتلخص في عدم التعامل الجدي والمسؤول مع الأسباب التي تقف وراء استشراء وباء ضعف وانحدار مستوى كافة مراحل وأطوار المنظومة التعليمية لغويا، وتحصيلا فكريا، وثقافيا، وعلميا، ومهنيا، وطرائق ومناهج بحث علمي.
من العجيب والغريب أن نجد وطننا تشن فيه المعارك الوهمية ضد الأمازيغية في الوقت الذي تؤسس فيه بريطانيا وفرنسا وغيرهما من البلدان التي تحترم التعليم والمعرفة مدارس ابتدائية للتلاميذ الصغار لتدريسهم لغاتهم الأم و الفلسفة، وتقنيات التفلسف، وأساليب حل المعضلات الفكرية والعلمية.