الحرب الكيماوية ضد الريف وآثارها السلبية على الساكنة.. أية مسؤولية للدولة الإسبانية

بقلم: الطاهر كركري – الكلية متعددة التخصصات تازة
بقلم: الطاهر كركري – الكلية متعددة التخصصات تازة

الحرب والإنسانية كلمتان لا تتساويان ولا تلتقيان، فالحرب نزاع ودمار وهلاك للحرث والنسل، وتعد مستنقع الإجرام الدولي، وهي في جوهرها ضد القيم الإنسانية والحياة، لأنها مبعث الدمار وسبب اليتم والثكل على مدار العصور، وأبشع ما في الحروب هو قصف المدن والمناطق الآهلة بالسكان، بواسطة الأسلحة الفتاكة المحرّمة دوليا، خاصة عندما يكون مستعمل هذه الأسلحة يريد الاحتلال، كما فعلت إسبانيا مع أهالي الريف – شمال المملكة المغربية – خلال عشرينيات القرن الماضي، هذه الأخيرة لم تكتف بقتل المقاومين من شباب وكهول وشيوخ أثناء اكتساحها للأراضي الريفية، وإنما أقدمت على ارتكاب أفعال أخطر من ذلك، ويتعلق الأمر بالقصف العشوائي للمدن والتجمعات السكنية، والأفراد المدنيين، والأشخاص العاجزين عن القتال، حيث كانت طائراتها تمطرهم، بقنابل كيماوية محشوة بغازات سامة، غير آبهة بقواعد وأعراف القانون الدولي المنظّمة للحروب التي تحرّم استعمال مثل هذه الأسلحة المدمّرة كما جاء في اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1906 التي تنص على تحريم قصف المدن والقصبات والقرى الآهلة بالسكان العزّل في وقت الحروب، وتؤكد على احترام الأشخاص وعقائدهم وتقاليدهم وتراثهم الفكري والثقافي.

إن إسبانيا حينما كانت تقوم بتنفيذ الجرائم المذكورة، لم تكن مقتنعة بأن الاحتلال الحربي لا يخرج عن كونه حالة فعلية مؤقتة،خاصة وأنها وقّعت مع “المخزن” -المغرب الدولة الأصلية- معاهدة حماية لفترة معينة ليس إلا. ولا كانت مقتنعة -أيضا- أن ما تقوم به يدخل في إطار جرائم الإبادة، وضرب للقيم والمبادئ الإنسانية المطلوب التعامل بها مع سكان الأراضي المراد احتلالها- والمقصود هنا الأقاليم الريفية-، وحتى إن تذرّعت بأنها كانت توجّه ضرباتها- تلك- للمقاومة الشرسة التي كانت جادة في إيقاف زحفها، فإنها لم تؤمن بأن مقاومة المحتل حق مشروع يُمارس ضد الاحتلال، ويجب التعامل مع المقاومة في هذا الإطار لا في إطار العقوبة الجماعية، وبهذا تكون إسبانيا غضت الطرف عن الشعار المتداول أثناء الحروب الذي يقول بعدم جواز إحداث ضرر بالعدو أكثر مما يحتاجه الظفر بالمعركة- حتى وإن كانت هذه الحرب ليست بمعركة بين دولة ودولة بقدر ما كانت حرب على أهالي منطقة  رافضة للاحتلال.

  إن إسبانيا كانت تعلم بأن الغازات السامة التي تقصف بها الريفيين ستستمر آثارها السلبية لأجيال، وأنها ستسبب في تلويث البيئة،وإصابة الساكنة بأمراض قاتله، وهذا ما حدث بالفعل،حيث أثبتت الدراسات الطبية المختبراتيه مع مرور الوقت ذلك.

  فمن خلال الإحصائيات التي تتوفر لدى المستشفيات والمصحات بالمغرب فإن أكثر المصابين بالسرطان عددا في المغرب  هم ساكنة الريف.

  وأمام هذا الوضع المؤلم أخذت أصوات العديد من الجمعيات الحقوقية في المغرب خاصة في منطقة الريف تُنذر بخطر هذا المرض الفتاك وتُسمع الجميع أنين أصوات ضحاياه الذين يتساقطون يوميا كأوراق شجر الخريف أمام مرأى ومسمع الحكومة المغربية التي لم تحرك ساكنا، مع أنه في ضوء قواعد وأعراف القانون الدولي فإن الدولة الأصل هي المسئولة عما يقع لمواطنيها من أضرار من لدن دولة أخرى.

وعلى هذا الأساس فإن المسئولية موزعة مابين الدولة المغربية والدولة الإسبانية، باعتبار الأولى- الدولة الأصل- لم تحرك ساكنا تجاه هذا المرض القاتل الذي يعاني منه جزءا من مواطنيها، ولو على الأقل القيام ببناء مستشفيات متخصصة  فوق الأراضي الريفية- مكان ارتكاب الجريمة-لاستقبال المصابين بهذا المرض وتخفيف عناء السفر عنهم  نحو الرباط العاصمة،ومدينة وجدة في الشرق التي كانت تحت الحماية الفرنسية، وبالنسبة للثانية- أي الدولة الإسبانية- باعتبارها المسئولة الأولى عن جرائم اقترفتها- كما سبق تناول ذلك-، فإن هذه الأخيرة مطالبة بالاعتراف بهذه الجرائم والاعتذار لساكنة الريف، وفي نفس الوقت مطالبة بجبر الضرر لفائدة هؤلاء، وذلك بالمساهمة في تنمية هذه الأقاليم، إن على مستوى بناء مستشفيات متخصصة، ومدارس ومعاهد، وملاعب رياضية..، أوعلي مستوى تعويض مادي،وينبغي أن يكون التعويض مُعادلا وشاملا لجميع الأضرار بما في ذلك البيئية والصحية والنفسية..، وهذا هو المنصوص عليه في القوانين والأعراف الدولية المنضمة للحروب، وسبق للعديد من الدول أن  قامت به، بأن اعترفت بجرائمها واعتذرت عنها وقدمت تعويضات لضحاياها.

وإذا لم تقم الدولة الإسبانية بما ذكر، فإنه وفي إطار أحكام و قواعد القانون الدولي، فإن الدولة المغربية مطالبة برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية للمطالبة بالتعويض المناسب للضرر المصاب به مواطنوها، باعتبار الأهلية المخولة لها قانونا دون الأفراد الضحايا،كما تنص على ذلك الاتفاقيات الدولية، ومقررات محكمة العدل الدولية، خاصة رأي هذه الأخيرة المؤرخ في 11 أبريل 1949.

فالدولة المغرب بتدخلها هذا تؤكّد اختصاصها الإقليمي الذي انتهك بالأعمال الإجرامية التي أقدم عليها الإسبان بقصفهم لمواطنيها بالغازات السامة المحرمة دوليا، بالإضافة إلى تأكيد اختصاصها الشخصي الذي تمارسه لصالح رعاياها.

ويمكن للدولتين- المغرب وإسبانيا- تشكيل محكمة للتحكيم لتحديد المسئولية، والحكم بالتعويض وفق مبادئ القانون الدوليـة،مثل ما وقع بخصوص مصنع صهر المعادن في مدينة”ترايل” trail smelter بكندا، حيث طلبت الولايات المتحدة الأمريكية التعويض عن الخسائر التي لحقت بالأشخاص والممتلكات في ولاية واشنطن من جراء الأدخنة السامة التي كان ينفثها المصنع في الهواء الجوي وتنقله الرياح عبر الحدود، إذ شكلت الدولتان محكمة، فأكدت هذه الأخيرة مسئولية كندا،فحكمت بدفع تعويض مهم للضحايا، حيث صدر الحكم سنة 1941.

وإذا لم تقم أي من الدولتين بما ذكر، فإن  الضحايا- أهالي الريف- وذويهم تنتقل إليهم الأهلية لرفع الدعوى بصفتهم أفراد، وهذا هو المنصوص عليه في القانون الدولي، والاختصاص في هذه الحالة يعود إلى المحاكم الإسبانية، لأنها الدولة مرتكبة الأفعال الإجرامية، وترفع الدعوى بواسطة أحد المحامين في إطار المساعدة القضائية التي من حق هؤلاء الضحايا الاستفادة منها في إطار القوانين الجاري بها العمل وما هو متعارف عليه دوليا، وبالنسبة للمحامي الذي يتولى القيام بالمهمة، لا يهم إن كان ينتمي إلى هيئات المحامين بالمغرب أو إسبانيا مادام أن هناك اتفاقية بين الدولتين موقّعة  بخصوص هذا المجال يرجع تاريخها إلى سنة 1957، منشورة بالجريدة الرسمية، تنص على الحق في الترافع المتبادل أمام محاكم الدولتين.

ويجدر الذكر إلى أن هذا النوع من الدعاوى لا تُواجه بالتقادم باعتبار أن  موضوعها يدخل في إطار جرائم الإبادة.

وننتهي من كل ما سبق، مع الفقه الراجح، إلى القول بأنه أضحى هناك وجود فعلي، وقبول صريح لمبدأ أن الدولة تتحمل المسئولية والتعويض عن الأضرار التي تلحق الأشخاص والبيئة والممتلكات التي تترتب في إقليمها أو إقليم الدولة الأخرى.

شاهد أيضاً

الدين والتدين وثنائية “الفوبيا” و”الفيليا”

في تحليل أسباب تصاعُد ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب بعد أحداث 11 شتنبر 2001، يمكن رصد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *